قرار المجلس الدستوري الفرنسي بشأن الجواز الصحي: درس في تقييم تشريع “الضرورة”


2021-11-17    |   

قرار المجلس الدستوري الفرنسي بشأن الجواز الصحي: درس في تقييم تشريع “الضرورة”

بتاريخ 05/08/2021، أصدر المجلس الدستوري الفرنسي قراراً بشأن دستورية قانون إدارة الأزمة الصحيّة في فرنسا. وبمعزل عن نتيجة هذا الطعن التي أتتْ باعتبار القانون موائما للدستور، يشكل قرار المجلس الدستوري فرصة للتذكير بأهميّة المبادئ الإجرائيّة المرتبطة بإنتاج القوانين كضمانة فعليّة لمبادئ الديموقراطيّة (المحرّر).

 

بدأت تحذّر الحكومات والسلطات الصحيّة في لبنان وغيرها من البلدان من بداية موجة رابعة من وباء الكورونا ومن تفشي المتحوّل دلتا. وفيما اختارت معظم الحكومات أن تواجه أوّل موجات الوباء من خلال إعلان حالة الطورائ والإقفال التام كما فعلت السلطات اللبنانية، فتح ابتكار اللقاح المضاض للفيروس فرصة أمام الدول التي نجحت في تلقيح جزء كبير من سكّانها لتجنّب اتخاذ قرار إقفال عام جديد مع ما يحمله من عواقب سلبيّة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. واحتلت فرنسا المراكز الأمامية في هذا المسار. ففيما وعدت عدّة مرّات السلطات الفرنسيّة، وعلى رأسها رئيس الجمهوريّة ايمانويل ماكرون، أنّ التلقيح لن يكون إلزاميا[1]، عادت السلطات عن هذا الموقف عبر إقرار قانون يفرض على المقيمين في فرنسا إبراز شهادة تلقي اللقاح أو مستند يثبت الإصابة السابقة بالكورونا أو نتيجة فحص PCR سلبيّة لا تتعدى مدّتها 72 ساعة[2]، كشرط للدخول إلى العديد من الأماكن العامّة كالمطاعم والمجمّعات وبعض وسائل النقل العام. كما عمّمت الموجب نفسه على الأفراد العاملين في هذه الأماكن. ورافق هذه الإجراءات التي فرضت ابتداء من 9 آب 2021 (أي بعد 15 يوما من إقرار القانون وشهر تقريبا من إعلان فرض الجواز الصحي) قرار جعل فحوص الكشف عن الإصابة PCR غير مجانيّة ابتداء من الخريف بعدما كانت مجانيّة في معظم الحالات. وفسّر جزء من الرأي العام الفرنسي التزامن بين هذين القرارين على أنه فرض غير مباشر لإلزامية التلقيح، معتبرين ذلك تعدّيا على حرّياتهم الشخصيّة[3]. فتبع القرار العديد من المظاهرات ضدّ القانون دفاعا عن الحريّات الشخصيّة.

ودفع الجدل والنزاعات الحاصلة حول هذا القانون العديد من الأطراف إلى اللجوء إلى المجلس الدستوري. فأحيل القانون إلى هذا الأخير من قبل رئيس الوزراء من جهة أولى بهدف الحصول على تأكيد على دستوريّته، ومن قبل عدّة كتل نيابيّة من جهة أخرى طعنت بدستوريته بسبب مسّ بعض المواد فيه بحريّات عامّة، منها الحقّ في الحياة الخاصة والحقّ في العمل، كما بمبدأ المساواة. ومن المثير للإهتمام أنّه، وإلى جانب الاستناد إلى هذه الحقوق المصانة في الدستور للطعن في القانون، ارتكزت الطعون النيابيّة على بعض الدفوع المتعلّقة بالإجراءات التشريعيّة والمبادئ العامّة للتشريع المصانة في الدستور الفرنسي. فأكّد قرار المجلس الدستوري[4] على أهميّة احترام هذه الإجراءات والمبادئ من قبل المشرّع الفرنسي الذي لا يمكن أن يستغني عنها حتى في حال تشريع “الضرورة” والعجلة.

وهذا الوضع مختلف تماما عن وضع التشريع في لبنان:

  • فمن جهة تعاني الإجراءات التشريعيّة من قلّة المواد الدستوريّة التي تصون وتنظّم العمليّة التشريعيّة، فتتمركز أكثرية المواد المتعلّقة بالموضوع في النظام الداخلي لمجلس النوّاب. وتعاني هذه الأخيرة من مشاكل عديدة، لا سيّما تلك المتعلّقة بعدم شفافيّة عمل المجلس النيابي ولجانه النيابيّة، وهو أمر أشارت إليه المفكرّة القانونيّة مرارا عديدة لا سيّما في معرض شرح أسباب عدم مشاركتها في النقاشات في لجنة الإدارة والعدل حول اقتراح قانون استقلاليّة القضاء وشفافيته الذي أعدّت نسخته الأولى بشكل أساسي.
  • وإلى جانب الخلل في النصوص، تعاني العمليّة التشريعيّة في لبنان من سيطرة رئيس مجلس النوّاب الحالي نبيه برّي على العمليّة التشريعيّة، إذ يفرض هذا الأخير على المجلس الأولويّات التشريعيّة التي تناسبه، بالإضافة إلى خرق النظام الداخلي بشكل منتظم.

ونعود في هذا المقال إلى أهمّ نقطتين أثيرتا في قرار المجلس الدستوري الفرنسي، وهما أهميّة متطلّبات الوضوح والإخلاص في النقاش البرلماني بالإضافة إلى مبدأ التناسب لما لهما من أثر على العملية التشريعية ودستورية القوانين.

 

“متطلبّات الوضوح والإخلاص في المناقشات البرلمانيّة”: مبدأ إجرائي حامٍ للديمقراطيّة

أوّل ما أثاره النوّاب في طعنهم المقدّم بوجه القانون، عدم تطابق آليات التصديق على القانون مع متطلبّات الوضوح والإخلاص في النقاش البرلماني. واستند النوّاب في هذا السياق على عدم إدراج مشروع القانون على جدول الأعمال الذي وضعه رئيس الجمهوريّة في المرسوم الداعي إلى اجتماع البرلمان في جلسة إستثنائيّة[5] من جهة، وعلى أن المرسوم الذي أضاف مشروع القانون لإدارة الأزمة الصحيّة نشر في الجريدة الرسميّة في اليوم نفسه لبدء دراسته في اللجنة النيابيّة المختصّة في البرلمان. كما انتقد النوّاب المهل المعطاة لنوّاب غرفتيْ البرلمان لمناقشة النصّ والتصويت عليه. وربط النوّاب جميع هذه الإجراءات بمتطلّبات الوضوح والإخلاص في النقاش البرلماني، التي يجب أن ترعى العمل التشريعي. وفي معرض جوابه، ذكّر المجلس الدستوري الفرنسي في قراره بأسس “متطلّبات الوضوح والإخلاص في النقاش البرلماني”، وهما المادة 6 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789)، التي تنصّ على أنّ “القانون هو تعبير عن الإرادة العامّة”؛ والمادة 3 من الدستور الفرنسي التي تنصّ على أنّ “السيادة الوطنية تعود للشعب الذي يمارسها من خلال ممثليه” فترتبط إذا هذه المتطلبات بمفهوم الديمقراطيّة التي تفترض تشريعا يعبّر فعلياً عن الإرادة الجماعية والوطنيّة[6].

إلا أن المجلس الدستوري خلص في قراره إلى اعتبار أن السرعة التي ميّزت اعتماد القانون موضوع الطعن لا تبرّر إبطاله، إذ أنّ العملية التشريعية احترمت جوهر الإجراءات وشروط دراسة النصّ بإخلاص ووضوح، ولم تضع أي عائق أمام النوّاب لممارسة صلاحياتهم في معرض دراسة وتصديق القانون[7].

 

ويقتضي التذكير هنا باجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي الذي حدّد العديد من الإجراءات التي يتوجّب على المشرّع احترامها لمراعاة متطلبّات الوضوح والإخلاص في النقاش البرلماني، والتي هي بمعظمها منتهكة من قبل المشرع اللبناني:

  • علنيّة جلسات المجلس النيابي ولجانه[8]، والتي يقتضي أن تدوّن إجراءاتها ونتائجها بمحاضر مفصّلة[9]؛
  • احترام حقّ النائب بتقديم تعديلات على نص المشروع أو الاقتراح[10]؛
  • احترام حقّ النائب في الكلام لمناقشة نصّ اقتراح أو مشروع[11].

ومن المُلفت أنّ اجتهاد المجلس الدستوريّ نتج في أغلب الأحيان عن مراجعة تعديلات النظامين الداخليين  لكل من غرفتي البرلمان الفرنسي، واللذين تفرض المادة 61 من الدستور الفرنسي وجوب إحالتهما إلى المجلس الدستوري لمراجعتهما قبل دخولهما حيز التنفيذ. وفي ذلك دلالة على أهميّة هذين النظامين الداخليين بالنسبة إلى صحّة العمليّة التشريعيّة.

بالمقابل، أصرّ المشترع اللبناني على عدم إمكانيّة إخضاع النظام الداخلي لمجلس النوّاب إلى مراقبة المجلس الدستوري، حيث اعتبر خلال النقاشات حول قانون إنشاء المجلس الدستوري أنّ النظام الداخلي “ليس له مفعول قانوني”[12]، ما يستتبع اعتباره غير مشمول بالمادة 19 من قانون إنشاء المجلس الدستوري التي تحدد صلاحيّات الأخير بالنسبة إلى “مراقبة القوانين وسائر النصوص التي لها قوّة القانون”.

بالإضافة إلى ذلك، يبيّن اجتهاد المجلس الدستوري اللبناني خجل هذا الأخير في الإشارة إلى النظام الداخلي لمجلس النوّاب، أو في اتخاذ موقف بشأن دستوريّته، وذلك في معرض تقييم دستوريّة القوانين المطعون بها أمامه[13]. وطبعاً لهذا “الخجل” آثار أكيدة على فعالية المراجعة الدستورية بشأن العديد من القوانين القابلة للإبطال نظرا لتجاهل القواعد التشريعيّة (خصوصاً من قبل رئيس مجلس النوّاب أو هيئة مكتب المجلس)، لا سيّما لجهة عدم احترام المهلة المعطاة للنواب لدراسة المشاريع والاقتراحات من خلال تحويل جلسات غير تشريعية إلى جلسات تشريعية[14] أو دراسة اقتراحات غير مدرجة على جدول أعمال الجلسة[15] في مخالفة للمادة 8 من النظام الداخلي التي تفرض نشر جدول الأعمال وتبليغه إلى النواب مع نسخة عن المقترحات قبل 24 ساعة على الأقل من الجلسة.

وأبرز مثال على ذلك ردّ المجلس الدستوري الطعن المقدّم بوجه قانون نقل صلاحيات الهيئة النّاظمة للكهرباء إلى مجلس الوزراء لمدة سنة (129/2019) والمستند خصوصاً إلى مخالفة القانون المطعون فيه المواد 36 من النظام الداخلي (عدم حصول المناداة بأسماء النوّاب أثناء التصويت على القانون). فخلص المجلس إلى ردّ الطعن[16] بحجّة أنّ النواب لم يذكروا صراحة المادة 36 من النظام الداخلي أثناء الاعتراض على التصويت خلال الجلسة.

 

مبدأ التناسب: مراقبة دنيا لقدرات المشرّع

تخرق الإجراءات التي ينص عليها قانون فرض الجواز الصحي المطعون فيه العديد من الحقوق والحريّات، أهمّها الحقّ في احترام حرمة الحياة الشخصيّة وحريّة التنقّل. ولم تنفِ الحكومة الفرنسيّة التي وضعت مشروع القانون هذا الأمر، بل اعتبرته مناسباً للوصول إلى هدف حماية الصحّة العامّة ذات الطابع الدستوري objectif à valeur constutionnelle[17] . ففرض هذا الهدف إذا وضع القانون تحت رقابة المجلس الدستوري ليتأكّد من مدى تناسب التعدي على الحريّات الذي يحمله مع التوصّل إلى هذا الهدف (أي حماية الصحّة العامّة).

وعمد المجلس الدستوري الفرنسي في هذا السياق إلى تحديد مدى قدرة تصديه للخيارات السياسيّة التي يتّخذها المشرّع، تلقائيا أو بناء على سياسة تعتمدها الحكومة كما هي الحال بالنسبة إلى قانون إدارة الأزمة الصحيّة المطعون به. فذكّر بحدود تدخلّه: فهو يراقب دستورية القانون ولا يتدخّل في السياسة؛ فلا يعود له إذا أن يحل محل المجلس النيابي الذي هو الوحيد الذي يمتّع بسلطة تقديريّة وتقريريّة عامّة pouvoir général d’appréciation et de décision، فيعود فقط للمجلس الدستوري أن يتأكّد أن التقدير المعتمد من قبل المجلس النيابي لا يرتدي طابعاً غير متناسب بشكل ساطع[18]. في هذا السياق، يتأكّد المجلس الدستوري من تناسب التعدّي على الحريّات مع هدف حماية الصحّة العامّة، ومن وجود ضمانات لتخفيف التعدّيات لا سيّما على صعيد مدّة وجودها، وتحديد إطار تطبيقها وحصر موجب التأكّد من حيازة شهادة تلقي اللقاح أو مستند يثبت الإصابة السابقة بكورونا أو نتيجة فحص PCR سلبيّة لا تتعدى مدّتها عن 72 ساعة بقوّات الأمن أو أصحاب المحلّات المعنيّة. واعتبر المجلس بعد التدقيق، أن تضييق الحريّات في هذا السياق أتى متناسبا مع الهدف التي يسعى إليه المشرّع.

 

 

 

[1]خطاب رئيس الجمهوريّة ايمانويل ماكرون بتاريخ 27/12/2020

[2] قانون 05/08/2021 لإدارة الأزمة الصحيّة

[3] ROUSSEAU (D.), « Les institutions de l’État malmenées par la loi relative à la gestion de la crise sanitaire du 5 août 2021 », Gazette du Palais, n°31

[4] Conseil constitutionnel, décision n°2021-824 DC du 5 août 2021

[5] Décret du 14 juin 2021 portant convocation du Parlement en session extraordinaire

[6] BERTRAND (B.), « L’exigence de clarté et de sincérité du débat parlementaire. Etude sur un concept régulateur de la procédure législative sous la Ve République »,  Revue du droit public, 2011 n°

[7] Cons. 10 : « En dépit de leur particulière brièveté, les délais retenus à l’Assemblée nationale puis au Sénat pour le dépôt en commission et en séance publique des amendements au projet de loi n’ont pas fait obstacle à l’exercice effectif par les membres du Parlement de leur droit d’amendement, ni privé d’effet les exigences de clarté et de sincérité du débat parlementaire. »

[8] AUREY (X.), CATHERINE (A.), DENOLLE (A.-S.), ROTA (M.), SIFFERT (A.), SOUTY (V.), Chronique de jurisprudence constitutionnelle Janvier 2009-décembre 2009

[9] Conseil constitutionnel, décision 2009-581 DC, 25 juin 2009, Résolution tendant à modifier le règlement de l’Assemblée nationale, considérant 12

[10] Conseil constitutionnel décision n° 2009-581 DC du 25 juin 2009, considérant 44: « la faculté reconnue à la Conférence des présidents de fixer un autre délai pour le dépôt des amendements (…) doit permettre de garantir le caractère effectif de l’exercice du droit d’amendement conféré aux parlementaires par l’article 44 de la Constitution; (…) il appartiendra à la conférence de concilier cette exigence avec les exigences de clarté et de sincérité du débat parlementaire ; (…) ces dispositions n’interdisent, en aucun cas, la possibilité de déposer ultérieurement des sous-amendement »

[11] Décision n° 2019-785 DC du 4 juillet 2019 considérant 9 : « La durée des temps de parole et le nombre des orateurs ne sauraient être fixés de telle manière que soient privées d’effet les exigences de clarté et de sincérité du débat parlementaire »

[12] الدور التشريعي الثامن عشر، العقد الاستثنائي الثاني  1993-محضر الجلسة الاولى

[13] المجلس الدستوري اللبناني، قرار 3/95 تاريخ 18/09/1995.  يرجى كذلك مراجعة: MAJZOUB (T.), QUILLERE-MAJZOUB (F.) , “Le Conseil constitutionnel libanais et les droits fondamentaux”, Annuaire international de justice constitutionnelle, 1999 pp. 25-45

[14]  المفكرة القانونيّة- المرصد البرلماني، التشريع خلسة، أو إخراج الجلسات من قبعة الساحر، نشر على موقع المفكرة بتاريخ 21/10/2020

[15] على سبيل المثال: ماهر الخشن، جلسة سريعة معلّبة للمجلس النيابي: جريمة المرفأ لم تغيّر شيئا من أداء المجلس ورئيسه، نشر على موقع المفكرة القانونيّة بتاريخ 14/08/2020

[16] بتاريخ 3/6/2019

[17] Décision n°2012-248 QPC du 16 mai 2012, M. Mathieu, considérant 6

[18] Conseil constitutionnel, décision n°2021-824 DC du 5 août 2021, considérants 22 et 29 notamment

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، قرارات قضائية ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، جائحة كورونا ، فرنسا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني