فتيل البنزين يشعل “حرب فقراء” مغدوشة وعنقون: تسليم شكليّ للمعتدين ثمّ الإفراج عنهم بعد المصالحة


2021-09-01    |   

فتيل البنزين يشعل “حرب فقراء” مغدوشة وعنقون: تسليم شكليّ للمعتدين ثمّ الإفراج عنهم بعد المصالحة
شبان من بلدة عنقون يقطعون الطريق العام التي تربط بلدتهم بمغدوشة (الوكالة الوطنية)

لا يبدو عادل فرحات، الخبير العقاري من بلدة عنقون، مهتمّاً بالإشكال بين بلدتي مغدوشة وعنقون في قضاء صيدا، والذي كاد يتسبّب باقتتال أهلي على خلفية العراك على ليترات البنزين الشحيحة.  

فذاكرة الرجل الستّيني لا تريد أن تحفظ من علاقة البلدتيْن ببعضهما البعض سوى محطتين “مضيئتين”، كما يسمّيهما: في اجتياح 1982 هدّد المحتل الإسرائيلي بسوق أهالي عنقون إلى المعتقلات في حال لم يسلّموا أسلحة البلدة وعدداً من رجالها. وضَّب سكّان جارة مغدوشة أمتعتهم ومعها أبقارهم وما يملكونه من رؤوس ماشية ونزحوا قاصدين صيدا ليكملوا نحو بيروت. ما إن خرج هؤلاء من عنقون حتى وجدوا طريق مغدوشة مقفلة بأهلها “ما بتروحوا من هون” قالوا لهم ليمنحوهم مفاتيح بيوت تتّسع للهاربين من العدوان الإسرائيلي، فيما وزّع المغدوشيون أنفسهم في بيوت بعضهم البعض لكي يتركوا عائلات عنقون تسكن في ديارهم بكل راحة”، وفق ما يقول. 

في منتصف الثمانينيات، ردّ أهل عنقون الجميل لأصحابه عندما استعرّت الحرب في المنطقة وحصل هجوم على مغدوشة من ناحية صيدا. “يومها سقط شهداء من عنقون دفاعاً عن مغدوشة، وصمدت البلدة أكثر من غيرها بفضل قتال أهالي عنقون إلى جانب أهلها” يقول فرحات وهو يدلّ إلى شجرة في أحد شوارع عنقون عُلّقت عليها لائحة بأسماء شهداء البلدة الذين سقطوا دفاعاً عن مغدوشة. 

يقول فرحات إنّه ليس “أبو ملحم” لأنّ الأخير، وفق ما يقول، قد “انتحر بعدما وصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم”، ولكنّه يروي حادثتيْ مغدوشة وعنقون في الثمانينات ليحمّل مسؤولية ما يحدث “للمسؤولين السياسيين في لبنان، ومعهم 128 نائباً في البرلمان، هودي مش فارق معهم إلّا حالهم وهؤلاء هم من يتسبّب بكلّ ما يحدث”. 

تسليم شكليّ للمُعتدين واتّفاق مصالحة”

يوم الجمعة الماضي (27 آب 2021)، اندلع إشكال بين شبّان من بلدة عنقون وآخرين من مغدوشة على محطة بنزين في مغدوشة ما أدّى إلى تطوّر الإشكال واستخدام السكاكين. وأصيب في الإشكال الدكتور هشام حايك. ويوم الأحد (29 آب 2021) عاد التوتّر بين البلدتين إثر دخول عناصر مخفر مغدوشة إلى عنقون، بحثاً عن المعتدين في إشكال الجمعة.

يصف رئيس أساقفة صيدا للروم الملكيين الكاثوليك والمدبّر الرسولي على أسقفية صور المطران إيلي بشارة حداد في حديث لـ”المفكرة القانونية” ما حصل بـ “حرب الفقراء والمُعتدى على كرامتهم في كلّ لبنان وضحايا النظام الذي لا يؤمّن أدنى مستلزمات المواطنين نتيجة الأداء العاطل للسياسيّين المتلهين بأمور أخرى ومن بينها تجميع الأصوات الانتخابية على حساب حقوق المواطن”. 

يؤكّد المطران حداد أنّ الأزمة بين مغدوشة وعنقون “وصلتْ إلى خواتيمها مع إسقاط الدكتور هشام حايك، ابن مغدوشة دعواه القضائية بحقّ من أصابوه بضربة موس جارحة في يده”. وأسقط حايك دعْواه قبل ظهر اليوم (الثلاثاء) عند أحد كتّاب العدل ليعلن عن الخطوة خلال زيارة يقوم بها وفد من عنقون برفقة شخصيات من مغدوشة لتتويج المصالحة في منزله (منزل حايك). ولا ينكر المطران حداد حصول بعض التوتّر بين البلدتين في مراحل عدّة “وهذا طبيعي بين الجيران ولا يصل إلى تشكيل خطر على علاقة الأهالي من الجهتين ببعضهما البعض. هناك الكثير من الأراضي والتجارة المشتركة بينهما وكذلك المصاهرة”. ويؤكد حداد أنّه قاد مع رئيس مجلس النوب نبيه برّي ومفتي صور الشيخ حسن عبدالله الاتصالات لتهدئة الوضع. “وعليه سينسحب الجيش من المنطقة خلال يومين أو ثلاثة، كونه لا يوجد أيّ بنى لوجستية وتحتية لبقائهم فيها، كما أنّنا لا نخاف من أي توتّر قد يستجدّ، فالمشكلة قد انتهتْ”. 

وعلمت “المفكرة” أنّ الاتفاق قد تمّ على أساس تسليم البلدتيْن عدداً من المتورّطين في إشكال يوم الجمعة الماضية (27 آب 2021) وكذلك يوم الأحد (29 آب 2021) على أن يُسقط الدكتور حايك دعواه القضائية ضدّ من أصابوه بجرح قيل إنّ حجمه وصل إلى 20 سنتمتراً في ذراعه، ومن ثم يتمّ إطلاق سراح جميع الموقوفين وعقد المصالحة. 

إشكالات متنقّلة

يأتي الخلاف على البنزين في إحدى محطات الوقود في مغدوشة ضمن سلسلة الإشكالات والحوادث التي صارت متنقلة في المناطق اللبنانية كافة، وعلى رأسها تفجير صهريج البنزين في بلدة التليل في عكار والذي وصل عدد ضحاياه إلى عتبة الـ 35 ضحية ونحو 70 جريحاً ما زال العديد من بينهم في المستشفيات. كذلك وقع ثلاث ضحايا في طرابلس وعكار في الأسبوع الأوّل من آب الجاري، وقتيل لقوى الأمن الداخلي دهساً في جونيه خلال التزاحم على الوصول إلى إحدى محطّات الوقود. ومن بين مشاكل المحطّات الدموية، وقع إشكال على الطريق العام في بلدة العباسية في قضاء صور في اليوم عينه لإشكال مغدوشة-عنقون، وأدّى إلى سقوط خمسة جرحى في إثر إطلاق النار لمدة تفوق ربع الساعة. ويُضاف إلى كلّ ذلك العديد من الحوادث الأمنيّة التي لا تحصى، وفق ما يؤكد مصدر أمني لـ”المفكرة”: “صارت محطّات الوقود من أخطر الأماكن حالياً في لبنان”، ليشير إلى أنّ هذه الأماكن (محطّات الوقود) تستنزف قوى الأمن والجيش اللبناني أيضاً. ولكن إشكال مغدوشة سرعان ما لُبّس صبغة طائفية تمّت تغذيته على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام بمشاركة نوّاب من المنطقة وصف منشوراتهم المطران حداد بـ “الصناعة الانتخابية على حساب السلم الأهلي”. وأشار المطران إلى أنّ اللجنة التي تولّت حلّ القضية طلبتْ من الفاعلين في مغدوشة التواصل مع كتبة المنشورات المهينة بحق عنقون على وسائل التواصل لسحْبها فوراً. كما تعقد بلديّتا المنطقتين اجتماعاً لتنظيم كيفية تزويد أهالي عنقون “بما لا يمسّ بحصّة أهالي مغدوشة من محطاتهم”. 

“المعركة الافتراضية”، كما أسماها أحد أهالي مغدوشة على وسائل التواصل الإجتماعي وجدت صداها عند البعض، فساد جو من الحذر أعقبتْه مواقف غاضبة ممّا سمّاه البعض “تعدّيا على كرامة مغدوشة، هجموا علينا بدهم يعبوا بنزين بالقوة”، وفق أحد أبناء البلدة، فيما قال بعض أهالي عنقون إنّهم تعرّضوا “للسباب والشتائم والعنصرية” في مغدوشة “بينما كنّا ناطرين دورنا متلنا متل غيرنا، اندلع الإشكال حين لامستْ سيارة ثلاثة شبان من مغدوشة وسيارة أحد أبناء عنقون في حادث بسيط يمكن أن يحصل في الأيام العادية”. 

آخر بيت بمغدوشة هو أول بيت من عنقون

بغض النظر عن الأسباب التي يُحمّل فيها كلّ طرف المسؤولية للآخر، إلّا أنّ مشهد مغدوشة وجارتها عنقون لم يكن يوم الإثنين جميلاً. فالقريتان اللتان تنتهي بيوت كل منهما مع بداية بيوت الأخرى “نحن بيسألونا من وين منقلهم من عنقون، وبيقولولنا وين هيدي عنقون، منقلهم آخر بيت بمغدوشة هو أول بيت من عنقون”، وفق ما يقول محمد مكي، عضو بلدية عنقون لـ “المفكرة” “يعني مغدوشة هي بوصلتنا للضيعة والأهم هي ضيعتنا” وفق ما يقول “أصلاً أهل مغدوشة بيقولوا إنّه حدود بلدتهم بتوصل لحد بيتي”، في دلالة على العلاقة الطيبة بين البلدتين، حسب مكي الذي كان يستضيف أحد قضاة مغدوشة مع الشاب حاتم الخوري في منزله لحظة وصول فريق “المفكرة”.

لم تتمكّن هذه الأجواء الإيجابية من إخفاء الواقع الذي حوّل نهاية الطريق بين البلدتين إلى ما يشبه خطّ تماس مع تمركز حاجز معزّز للجيش اللبناني عند نهاية مغدوشة ومدخل عنقون، وحاجز آخر معزّز أيضاً على الطريق من عنقون نحو مغدوشة عبر المطيرية. أمّا في ساحة مغدوشة التي لم تخْلُ من تجمّع شبانها منذ لحظة وقوع الحادثة فقد ركز الجيش اللبناني مجموعة آليات عسكرية مع عناصرها، فيما كانت آليات أخرى تجوب البلدة جيئة وذهاباً في دوريات لا تهدأ.

من أمام دكّانه في مغدوشة، يتمسّك داني (اسم مستعار) بحقّ أهل البلدة بالدفاع عن أنفسهم “نحن ما بدنا مشاكل بس ما منقبل حدا يعتدي علينا”. يقول الشاب فيما يقاطعه أستاذ من مغدوشة قضى عمره في “تعليم أبناء عنقون”، وفق ما قال: “إذا بطلع ع عنقون هلأ ما بلحق سلامات ع طلابي، نحن بمغدوشة مدرسة عنقون وغالبية أولادهم بيتعلموا عنا”، ليطلب من الشاب عدم المساهمة في تأجيج الخلاف “هيدا الحكي يا إبني ما بينفع حدا، كلنا مظلومين مقهورين ونحن وإيّاهم اليوم فقراء”. لم يعدْ راتب الأستاذ التقاعدي يقيه العوز “هيّاني عم فتش ع شغل لكفّي مصاريف عيلتي بعدما خدمت المدرسة الرسمية 40 عاماً”. لذا يرى أنّه الأولى بأهالي عنقون ومغدوشة أن يتّحدوا ضدّ هذه السلطة “لازم نعمل فيهم بالانتخابات متل ما عملوا فينا. يعني نبهدلهم ونذلّهم وكلّ شي غير هيك حكي فاضي”، يقول الرجل. ويرى أنّ صبّ الزيت على نار ما حصل ليس إلّا في سبيل الاستثمار السياسي “لترجع الناس تحسّ إنّه الزعما هنّي لي بيحموهن من بعضهم”. لا يخفي أستاذ المدرسة امتعاضه من بعض الممارسات: “كأنّه بعض أولاد عنقون عم يتاجروا بالبنزين لأنّه بشوف نفس الوجوه بتجي تعبي يومياً”. ويضيف “نحن ما إلنا عليهم إذا بيتاجروا بس مش يصير مشكل إذا انقلّهم ما عنّا بعد بنزين”. 

ماذا حصل الجمعة والأحد

يقول مختار مغدوشة إميل قسطنطين لـ”المفكرة” إنّ ما حصل في مغدوشة “يحصل في كلّ المناطق اللبنانية،  يعني كأنّه هالعالم صارت عم تتاجر بالبنزين والمازوت”، ليؤكّد أنّ محطّتي الوقود الموجودتين في مغدوشة “مفتوحة لكل العالم، وخصوصاً أبناء عنقون الذين يملؤون خزانات سيارتهم يومياً وبأعداد كبيرة من بلدتنا”.

ويرى المختار أنّ إشكال الجمعة وقع إثر إبلاغ شبّان عنقون أنّه لا يوجد بنزين في المحطّة، وأنّ إشكال الأحد حدث مع هجوم عدد من شبان عنقون على بعض منازل مغدوشة بعدما داهمت القوى الأمنية منازل بعض المطلوبين بإشكال الجمعة وخصوصاً بعد تقدّم الدكتور هشام حايك بشكوى ضدّهم بتهمة إصابته بجروح. وأدّى إشكال الأحد، وفق المختار قسطنطين وأهالٍ عدة من مغدوشة، إلى إصابة ابن مغدوشة أسعد السارجي بجرح في يده أيضاً إثر ضربه بسكين. وحال وقوع حادثة الأحد سارع المختار إلى منزل السارجي حيث وجد مجموعة من شبّان عنقون يتجمّعون في مواجهة مجموعة من شبان مغدوشة وسط الطريق بينما يفصل الجيش بين الطرفين “رحت لعند شبان عنقون وقلت لهم: أنا مختار مغدوشة وإنتو بتقولولي إني مختار عنقون كمان، وأنا بطلب منكم تفلّوا هلأ ع ضيعتكم”. وفعلاً أطاع الشبان المختار وغادروا ليعود ويجدهم في آخر مغدوشة “عدت طلبت منهم يفلّوا وكمان سمعوا مني ورجعوا ع ضيعتهم”. 

في منتصف ليل الأحد، ووفق المختار، وأهالي من مغدوشة وعنقون، قام بعض شبّان الأخيرة بإشعال الإطارات ودحرجتها باتجاه حاجز الجيش بين البلدتين كما رشقوا عناصره بالحجارة. 

ينفي عضو بلدية عنقون محمّد مكي أن يكون بين المهاجمين أي عناصر للحركة: “فبعد أن رفع الرئيس بري الغطاء عن أي شخص يشارك في أي إشكالات لم يخرج أحد من عناصر الحركة للمشاركة في أي إشكالات، يعني هودي شوية وليدات صغار بلا مسؤولية”. ويؤكد أنّ هناك من “ضخّم الإشكال وغذّى الخلاف لأسباب ليست خافية على أحد وتصب في إطار ضرب العيش المشترك”، كما يقول. ويسخر مكي من القول إنّ العلاقات بين البلدتين تهددت نتيجة ما حصل: “نحن كلّنا منعتبر مغدوشة ضيعتنا وأهل مغدوشة بيعتبروا عنقون ضيعتهم وكل ما يقال غير هيك لا معنى له”. 

في مقابل رواية بعض أهالي مغدوشة عن تسبّب شبّان من عنقون بالإشكال على محطة الوقود، يؤكّد عبدالله ياسين داوود حدوث الإشكال إثْر تلاسن شبان من مغدوشة في سيارة زيتية اللون مع شبان من عنقون وقيامهم بإطلاق “المسبات والشتائم وكذلك محاولة دهس البعض ومن ثم رفع أحدهم عصا (مورين) محاولاً ضرب شبان عنقون”. وبما أنه كان بين جموع المتجمهرين على محطة البنزين، يرى أنّ السبب تافه وأنّ الضائقة تخنق الطرفين “ومغدوشة ولا يوم بخلت على أهل عنقون بالبنزين والمازوت، منروح عطول منعبي من محطاتهم وخصوصا محطة عماد حايك التي وقع عليها المشكل”.

بالقرب من عماد كان يجلس حاتم الخوري، ابن مغدوشة، ساخراً من تضخيم المشكلة “لازم الأمور ترجع لأساس المشكل وهو لا يخصّ مغدوشة وعنقون بل كل لبنان، وكل يوم بيوقع مشكل ع كل محطة بنزين، يعني عشرات المشاكل بس تمّ تكبير القصّة ومنحها بعداً طائفياً للاستثمار فقط لا غير”. ويرى أنّ الردّ يكون بتحميل المسؤولية لمسبّبيها “لمن كانوا وما زالوا ورا انهيار البلد وانتهاك كرامة ناسه بس، وليس لمغدوشة ولا لعنقون”. 

   

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني