عن سوريا “أم الفقير” في ذاكرة الهرمل ووجدانها 


2021-08-30    |   

عن سوريا “أم الفقير” في ذاكرة الهرمل ووجدانها 
الميكرو السوري وسيلة النقل الأشهر عبر الحدود

كنت أعاني في صغري من رمد الربيع، وهي حساسية تصيب العينين في فصل الربيع وتتسبّب باحمرارهما فتدمعان طيلة الوقت. يومها، لم يكن في كلّ بعلبك الهرمل طبيب عيون معروف، وكانت كلفة معاينة الطبيب الاختصاصي في منطقة زحلة تفوق قدرة أبي، عدا عن مصاريف الطرقات ولم يكن لدينا سيارة. قرر أبي أن يطبّبني في المدينة التي نعرف: حمص. 

كنت ما زلت مكتومة القيد بلا هوية عندما وصلنا إلى نقطة الأمانة على الحدود مع بلدة القاع، وهي المعبر الشرعي للدخول إلى سوريا. علّمني والدي أن ألتفّ من خلف المركز الحدودي، وأقابله بعده ريثما ينتهي من ختم هويّته ويدخل شرعياً. كنت خائفة وأنا أتبع الخط الذي رسمه لي حين فاجأني رجل من الهجّانة (حرّاس الحدود) وسألني وكأنّه يوبّخني: “لوين رايحة يا بنت؟” “ع حكيم العيون بحمص”، قلت له وأنا أنظر في عينيه ليرى أثر الرمد الربيعي وتورّم عينيّ واحمرارهما إلى درجة لا يمكنني فتحهما جيداً. هدأت نبرته وسألني: “ومع مين رايحة؟” “مع أهلي” قلت له. فأمسك بيدي وقادني إلى الجهة الثانية من المركز وأمرني أن أنتظر عائلتي في فيء شجرة قريبة. 

كان عسكرياً عطوفاً لا يشبه صورة الجنود التي اختبرتها في جرود الهرمل عندما يأتوننا في مداهمات ترعبنا. كان يشبه الوجه الحنون لسوريا “أم الفقير” في توصيف أهلنا نحن أبناء المناطق الحدودية التي كانت تتّسع بحدود الحرمان المترامي لتشمل كلّ قضاء الهرمل.   

يتّصل القضاء بلبنان عبر طريقين كُبريين: تمتدّ الأولى بمسافة ستين كيلومتراً عن بعلبك، فيما تربطه المسافة نفسها بالقبيّات، المدينة الأقرب إليه على حدوده مع محافظة عكار. وإذ نظرنا إلى الطريقين نجدهما خاليتين من القرى لمسافات طويلة فيشعر السائر أنّه خرج من لبنان وهو في طريقه إلى بلاد أخرى، إلى أن تلوح الهرمل مترامية ما بين كتف وادي العاصي وسفح السلسلة الغربية، مشكّلة عاصمة القضاء الذي يتمدّد بالدرجة الأولى نحو حدوده الشمالية الشرقية باتجاه سوريا.

 

لكلّ ذاكرته

يصعب على زائر القرى الحدودية في البقاع الشمالي، ومعها كلّ بلدات قضاء الهرمل، أن يجد مواطناً ليس لديه ذاكرته الخاصّة مع سوريا. ذاكرة حبكتها الطبيعة الجغرافية للقضاء الأبعد في لبنان بمسافة لا تقلّ عن 150 كيلومتراً عن بيروت، بينما يلزم أهل الهرمل عشر دقائق بالسيارة ليطأوا بقدمهم في الداخل السوري. وذاكرة حبكت تفاصيلها الحاجة ومتطلّبات الحياة وطبيعة العلاقات بين المنطقة والجارة الحدودية، والأهم مدى غياب الدولة اللبنانية. كانت سوريا مشفى المنطقة وسوقها، ومطعمها ومتنفّس أهلها لـ”شمّ الهوا”، والأهم مصدر عيش جزء كبير من سكانها، وبخاصّة أولئك المرابطين على الحدود مباشرة.

 

المطعم الأوّل

تضحك ليال اليوم حين تروي عن الجلوس للمرّة الأولى إلى طاولة في مطعم لتناول اللحم المشوي والحمص وسلطة الخسّ مع البندورة: “كان ذلك في مطعم الشوّا في قلب حمص القديمة”، تقول وهي لا تكفّ عن الابتسام. يومها اصطحبتْها أمها، وكانت في الـ17 من عمرها، في رحلتها لشراء مصاغ ذهبي لأختها (العلامة باللهجة المحليّة) تحضيراً لخطوبتها “لمّن خلصنا أغراضنا أخدتنا أمي نتغدّى بالمطعم”. في الحقيقة، لم يكن “الشوّا” مطعماً بل ملحمة للخروف البلدي. ولكن صاحبه، و”أذكره جيداً، خمسيني مربوع بشاربين كثيفين”، وضع نحو بعض الطاولات في الطابق العلوي من الملحمة حيث يستقبل الراغبين بتناول الغداء المحدّد بثلاثة أصناف لا غير: لحم مشويّ وحمص بطحينة وسلطة تقتصر على الخس والبندورة. ومع ذلك عادت ليال من حمص لتفتخر أمام زملائها في المدرسة في الهرمل بأنّها ارتادت مطعماً للمرّة الأولى في حياتها. والد ليال الذي ارتأى المشاركة في الحديث لا يأخذ الأمر بفكاهة كما تناولته ليال “نحن ما كنّا منعرف المطاعم اللبنانية، بل مطاعم حمص من ‘الدوّار’ إلى ‘ديك الجن’، و’التنّور’ وبيت الياسمين’ إلى ‘جنّة حمص'”، وغيرها من المطاعم الشهيرة في المدينة. وحرصاً على الموضوعية، يضيف: “للحقيقة كان في مطعم ببعلبك إسمه العجمي، بس كانت أسعاره أعلى من قدرتنا، فبحياتي مش قاعد ع طاولة عنده، بعدين ليش بدّي روح مسافة ستين كيلومتر لإتغدّى والحدود ضربة حجر عنّي”. 

ليس تفصيلاً أن تكون مطاعم سوريا متنفّس سكان الهرمل، إذ يصعب أن يقود أيّ إنسان سيارته 60 كيلومتراً إلى بعلبك ليتناول طعام الغداء ويروّح عن نفسه، عدا عن أنّ المطاعم فيها كانت محدودة قبل التسعينيّات إضافة إلى أنّ أسعارها أعلى من الأسعار في سوريا. مع الإشارة إلى أنّ قطاع المطاعم على العاصي لم يكن قد شهد بعد طفرته التي بدأت بعد التسعينيّات. 

يشير علي السّيمي من على مصطبة داره في حي دالك في القصر نحو الحدود التي لا تبعد عنه أكثر من مئتي متر “كنّا نتنادى بين بعضنا: عبالكم نروح نتغدّى أو نتعشّى بحمص؟”. فنتجمع خمسة أشخاص أو أكثر، وأحياناً قد يذهب اثنان فقط، ونقصد حمص فقط لتناول الطعام وتغيير جو”. لم تكن الفاتورة تتخطّى ألف ليرة سورية، (30 ألف ليرة لبنانية قبل 2011) وهي “قليلة مقارنة بأسعار لبنان، وكنّا نطلب سُفرة عرمرمية”. وكان السّيمي ورفاقه يقصدون حمص لتناول “العواس” أي “الخروف ابن الشهر الذي يصعب أن تجدي أطيب من نكهته وطراوته خارج سوريا”. 

وكان تناول الغداء في سوريا بنداً رئيسياً وعامل جذب لأي مشوار إليها مهما كان هدفه، سواء لزيارة الطبيب أو التسوّق وطبعاً لتجهيز العرائس.

 

جهاز العرائس

كانت مناشر الغسيل في كلّ بيت في قضاء الهرمل تحكي قصّته مع سوريا. من الشراشف القطنية البسيطة والمتواضعة إلى النوعية المميّزة التي تأتي على شكل أطقم كاملة من الوسادة إلى الشراشف إلى اللحاف. وكانت تكفي نظرة خاطفة على غسيل السكّان الذين اعتادوا تنشيفه في “عين الشمس” على مصاطبهم أو بالقرب من الدور لملاحظة طغيان البضاعة السورية على لدرجة تشابُه الألوان كما النوعيّات أحياناً. فسوريا مشهورة بتطوّر صناعاتها القطنية والأهم رخص أسعارها والمروحة الواسعة للنوعيّات تجعلها في متناول الفقراء كما الميسورين. وكان تقسيم الأسواق في حمص يتناسب مع دخل قاصدها فـ”السوق المقبي” أو “السوق المسقوف” هو السوق الشعبي الأرخص في سوريا، وكان مقصد الطبقة المحدودة الدخل حيث يعجّ بالعربات التي تحتوي على كل شيء، من “جْواز الكلسات إلى أغطية الأسرّة”، على حد تعبير فاطمة. وتكنّ الأخيرة ودّاً كبيراً لهذا السوق الذي “بفضله ولا مرّة مرق عيد ما قدرت إكسي فيه أولادي الخمسة”. وهذا ليس بتفصيل بالنسبة إليها “كنت بسعر طقم لولد واحد من لبنان، جيب تياب جديدة للخمسة، وينبسطوا أولادي، ويلبسوا تياب جديدة متلهن متل غيرهن بالعيد”. 

ولـ”السوق المقبي” في حمص حكايته مع معظم عرائس الهرمل. ففيه سوق الذهب الرئيسي في حمص. ومن عادات الهرمل، كما معظم المناطق، تقديم العريس “علامة” الخطوبة لخطيبته، وكان المصاغ يُشترى من حمص. “كان مشوار العلامة أساسي في علاقة كل ثنائي ينوي الارتباط”، وفق سهيل الذي حرص في مشواره لشراء محابس خطوبته وطقم ذهب عروسه، على تخصيص مبلغ لدعوتها وأمّها وأمّه أحياناً لتناول الغداء في مطعم “الدوّار” المصنّف “مرتّب وطيّب”، وإلّا “بيعتبروك بخيل”، يقول سهيل مع ضحكة “كان المشوار ع حمص مع العروس امتحان لمدى كرم أو بخل العريس”. 

وكان الذهب السوري يرتبط في ذهن كثر بالنوعية الجيدة “يعني عيار 21 صافي، مش متل الذهب اللبناني وأغلبه عيار 18” برغم أنّ أسواق بيروت، وحتى بعلبك، اشتهرتْ لاحقاً بوجود تصاميم أكثر تنوّعاً وأحياناً أجمل “بس كانت محلّات الصّاغة بحمص تتناسب مع مدخولنا أكثر ومعها كلفة المشوار”، يضيف.

يكفي أن يقود ابن قضاء الهرمل سيارته لمسافة ربع ساعة أو أقلّ حسب مكان سكنه، ليصل إلى “الأمانة” السورية حيث لديه خياران: إمّا ركن سيارته في موقف خاص بالقرب منها وختم هويّته أو إخراج قيده، وقطع الطريق سيراً إلى الجهة الثانية من الحدود (نحو 200 متر) ليستقلّ حافلة سورية ببدل لا يتخطّى ليرات معدودة، أو أن يحجز مكاناً في سيارة أجرة أو يستحصل على دفتر دخول لسيارته مع تأمين بكلفة لا تتخطّى ألف ليرة سورية (كانت تساوي 30 ألف ليرة لبنانية) يخوّله التنقّل في سوريا لأيام أو دفتر “خط عسكري”. 

 

سوريا الماركات Brands 

تتذكر لميا اليوم الذي ارتدتْ فيه ثياباً بعلامة تجارية شهيرة للمرة الأولى في حياتها: “بدأنا نحن الجيل الجديد يومها في التسعينيّات نعرف عن العلامات التجارية مثل بينيتون وكيكرز وأديداس ونايكي وغيرها، ولم تكن تأتي إلى الهرمل (وما زالت غائبة لغاية اليوم)، ولم نكن طبعاً نقصد بيروت لشرائها بسبب كلفتها العالية”. من حمص اشترت قميصها الأول من “بينيتون”: “كان مكتوب عليه بينيتون صنع في سوريا، بس بالنسبة لي كنت لابسة بينيتون”. ويومها اشترت أيضاً صندلاً من كيكرز بـ500 ليرة سورية، أي 15 ألف لبنانية “وكانت فرحتي مش سايعتني أنا وعم اتغندر فيه بين رفقاتي”. كان ارتداء الماركات “هجنة (دهشة) منحتنا إياها أسواق حمص بكلفة في متناول أهلنا كموظفين”. طبعاً لم يكن بمقدور من يقلّ دخلهم عن دخل الطبقة الوسطى في قضاء الهرمل شراء سلع مماثلة لأبنائهم. فكان من يشتري جهاز طفله من Absorba وهي ماركة تجارية فرنسية لثياب الأطفال يعدّ من ميسوري الحال، أما “أبسوربا” السورية فكانت تقدّم جهاز طفل كاملاً بقيمة تساوي شراء قطعتين من الماركة نفسها في بيروت. في الواقع دأبت المصانع السورية على شراء اسم الوكالات الأجنبية وتصنيعها، وهو ما لم يتوفّر في لبنان. وكانت تتركّز هذه المحلّات في سوق “الدبلان” في حمص الذي شكل مقصد الطبقة الوسطى من دون أن يغني عن زيارة “السوق المقبي” الذي يحتوي على أنواع السلع كافة، وعلى رأسها المؤن وسوق البهارات والنحاسيات والخردوات. 

وانسحب “الارتقاء” بلباس الماركات على الثياب والأحذية الرياضية وعلى رأسها “أديداس” التي بدأت سوريا بتصنيعها، ومعها عرف سكان قضاء الهرمل وخصوصاً الشبّان والشابات والأولاد البدلات الرياضية والأحذية المطبوع عليها اسم Adidas وإن كُتب في عليها من الداخل “صُنع في سوريا”. 

وصنّعت سوريا قطنيّات Cannon وهي النوعية المميّزة من الشراشف والأغطية والوسادات الأميركية الأصل والصعبة المنال في لبنان، ومعها عرفت بيوت الهرمل وجوارها النوعيّات المختلفة عن تلك الشراشف المخطّطة المتواضعة التي كادت أن توحّد حبال الغسيل. “صرت لمّن ضبضب البيت إنبسط أكتر بنوعية الشراشف وألوانها”، تقول أديبة التي جهزت منزلها الزوجي من حمص قبل 20 عاماً “ما كان عندهم أهلي شراشف كانون، أنا زوجي اشترى لي كل جهازي من عندهن”، تقول من دون أن تخفي شعورها بالتميّز.

 

سوق الخضار واللحوم

بالنسبة إلى علي، كانت سوريا كلّ شيء “أنا كنت روح عبّي صندوق سيارتي خضار ولحوم ودجاج وحلويات وأدوات تنضيف وكل ما يحتاجه بيتي وعيلتي”. يستحصل علي على دفتر دخول “ع سنة” مع تأمين بسوريا، وبفوت وبطلع بسيارتي عادي”. قبل 2011، كانت “جارتنا” كما يسمّيها “الرحمة وأم الفقير فعلياً”، والقضية ليست فقط في التوفير بالنسبة إلى علي: “طبعاً التوفير أساسي، بس كيف بدّي قلك (يسرح قليلاً ليكمل) بحسّ حالي ببلدي بكلّ بساطة”. يرتاح وفق ما يقول “لكلّ شيء”، الباعة في سوريا يكتفون بالربح “القليل، مش متل عنّا بيطمعوا وبيغلّوا”. تسبقهم “كلمة أهلا وسهلا”، ويرحّبون “بالزبون اللبناني، بينبسطوا فيه”، وفق ما يقول ليبرّر “طبعاً لأنّه اللبنانيين كانوا محرّك أساسي للسوق السوري”. كان علي يشتري لحم الغنم والدواجن السورية “وكانت أقل من النصف مقارنة مع اللحوم في لبنان وخاصّة الأغنام، كما أنّ خواريفهم كلّها بلدية، ما عندهم خاروف أبو دنب”. كان علي يعمل سائق تاكسي بين الهرمل وبعلبك وصولاً إلى زحلة وبيروت “ومع هيك كنت معيّش عيلة من تلات أولاد وزوجة بمستوى منيح، لأنّي كنت أتسوّق من سوريا، أنا بارم لبنان وبعرف الفرق بالأسعار”. أما الخضار “فلا تسألي” كما يقول “بربع سعر الخضار بلبنان. كمان بعدهم بيهتمّوا بالمونة أكتر من عنّا، بيقدّدوا لوبيا وباميا وباتنجان وكل شي”. 

حتى أنّ تسوّقه من سوريا منحه فرصة إحياء أعياد ميلاد أبنائه وزوجته “قالب الكاتو كان بـ500 ليرة من حمص لـ30 شخص، بينما لم يكن يقلّ ثمنه في لبنان عن 30 ألف من محلّ حلويات متواضع ولعشرة أشخاص”. إضافة إلى الكاتو، يقول علي إنّه قبل وصول محلّات الحلويات إلى الهرمل قبل نحو عشر سنوات كحد أقصى أي بعد 2011 حين صار الدخول إلى سوريا صعباً، لم يكن أحد في الهرمل يشتري حلوياته إلّا من هناك “البقلاوة قد ربع حقها بلبنان ومتلها كلّ الحلويات العربية الأخرى”.

 

سوريا التلفزيون

قبل انتشار موضة الصحن اللاقط والكابلات، لم يكن بثّ أي من القنوات التلفزيونية اللبنانية يصل إلى قضاء الهرمل. وحده التلفزيون السوري شكّل ولغاية سنة 2000 على الأقل بشاشته اليتيمة منبر أخبار ومسلسلات وبرامج منوعات وأخرى حوارية، إلى درجة لُقّب في الهرمل بـ”تلفزيون الغصب عنّك”. وكانت برامج الأطفال السورية هي برامج الصغار في القضاء من مسلسلات مدبلجة أو برامج تعليمية سورية فيها الكثير من التوجيه التربوي وكذلك الحزبي القائم على التنشئة وعلى رأسه برنامج طلائع البعث للفتية والفتيات. 

وكان كثر ينتظرون برنامج “غداً نلتقي” الذي يختم به التلفزيون السوري بثه اليومي عند منتصف الليل وفيه أغان ومنوّعات وأخبار خفيفة بعضها فني وبعضها اجتماعي وفيه فقرة عن الغرائب والظواهر. حتى أنّ نجوم الإعلام عند أهالي المنطقة كانوا من التلفزيون السوري حصراً ومعهم نجوم الفن من سوريين وخصوصاً مصريين حيث كانت تُعرض المسلسلات المصرية بكثافة مع الإنتاج السوري الذي لم يكن في حينها قد تقدّم كما اليوم. 

 

الجامعة نافذة على الثقافة 

وسوريا هي الجامعة بالنسبة لكثيرين من أبناء الهرمل وقضائها. ورغم أنّ التعليم مجانّي في سوريا إلّا أنّ العديد من طلاب الهرمل حصلوا على منح دراسية وسكن جامعي يراعي بُعدهم الجغرافي سواء عن حمص أو الشام أو حلب. ويعتبر حسام أنّ للدراسة في سوريا بعد آخر لا يقلّ أهمية عن التوفير “في بعد ثقافي كتير كبير بمدن متل الشام وحلب حيث يدرس معظم اللبنانيين الذين يقصدون سوريا”. درس حسام في جامعة حلب “المدينة كانت من أجمل مدن العالم قبل تدميرها، فيها حياة ثقافية وفنية ناشطة، وبتحسّي حالك عايشة بمتحف حي، وأكلها طيّب كتير”. وغيّرت الحياة في حلب بحسام كثيراً “تعرّفت ع كتير ناس، شفت الوجه الآخر لسوريا حيث كان اللبنانيون يرونها من خلال السوريين الذين كانوا يقصدون لبنان قبل الحرب للعمل فقط، نسجت علاقات مع شبّانها وشاباتها من الطلاب وتشاركنا أحلاماً وهواجس وبالحقيقة كانت الحياة الجامعية فيها أعمق ممّا عدت وعشته في لبنان”.

منحت الدولة السورية حسام غرفة في السكن الجامعي “متلي متل السوريين تماماً”، يعني الكلفة أدنى بـ 75% على الأقل مما كان زملائي يدفعونه للدراسة في الجامعة اللبنانية في بيروت “وحلب لا تقل جمالاً عن بيروت، بل أجدها قد احتفظت بطابعها التاريخي أكثر من بيروت بكثير، وطبعاً هذا قبل الحرب (في سوريا)، وأنا حزين جداً على ما فعلته الحرب فيها”. 

سوريا الصيدلية والمشفى وعيادة الطبيب

يكفي أن تطلب نصيحة من أحد ليدلّك على طبيب اختصاصي في الهرمل ومنطقتها حتى يأتيك الجواب من معظم أبنائها عن أسماء أطباء في حمص أو الشام، من أطبّاء العيون إلى الأذن وأنف وحنجرة إلى القلب والكلى والاختصاصات كافّة. هناك لم تكن  معاينة الطبيب الاختصاصي تتجاوز 200 إلى 300 ليرة سورية أي لا تتعدّى سقف 10 آلاف ليرة لبنانية وهي أقل بـ50% من معاينة طبيب الصحّة العامّة في قضاء الهرمل، باستثناء بعض الذين يراعون أوضاع فقراء المنطقة. كما أنّ أطبّاء الاختصاص لم يكونوا متوفّرين في الهرمل بشكل كبير قبل الحرب السورية وإقفال الحدود لسنوات، وحتى اليوم لا يتوفّر في القضاء أطبّاء بكلّ الاختصاصات. 

وتعطي خزاعية مثلاً عن شقيقتها ديبة التي نقلتها إلى طبيب قلب في الشام في العام 2000 “طلع أختي بدها عملية قلب مفتوح”، هكذا أخبرها الطبيب وقال إنّ العملية عاجلة. “ركبني الهم وصرت رح إبكي”، تقول خزاعية. وعندما سألها الطبيب السوري عن سبب تجهّمها لم تخفِ قلقها: “من وين بدّي جيب لإعملّها العملية بلبنان، إنت بتعرف الغلا عنّا”. عندها سطّر لها طلباً خطياً بحالة ديبة، وأرسلها لحجز موعد في مستشفى “المواساة” “وكانت من أحلى مستشفيات الشام”. هناك خضعت ديبة لعملية القلب المفتوح “من دون ما ياخدوا منّا ولا ليرة لأنّها مستشفى حكومية “بس استأجرت غرفة بحيّ الست زينب لكون حدها، بسعر مقبول وحتى رخيص”. لم تتجاوز كلفة إجراء العملية كمصاريف وسكن وبقاء نحو 15 يوماً في الشام مبلغ 500 دولار وكانت قيمتها 750 ألف ليرة لبنانية في حينها. 

أما الدواء فكان “ببلاش مقارنة مع أسعاره في لبنان” تقول خزاعية، ومثلها يؤكّد معظم الذين كانوا يشترون أدويتهم من حمص وحتى القصير “كمان في صيدليات كبيرة بالشام”. وكان اللبنانيّون يجرون الكثير من العمليات الجراحية في سوريا من العظم إلى القلب إلى الغدّة وغيرها وبأسعار رمزية جداً ولا تقارن مع أكلاف لبنان.

عباس اشتغل 22 سنّاً وضرساً واحداً في سوريا “كلّفني تلبيس زيركون Zircon بكلفة لم تتجاوز 50 دولاراً للسن الواحدة بينما دفعت لزوجتي في لبنان 350 دولاراً على كلّ سن”. يؤكّد عباس أنّه لم يكن ليستطيع دفع كلفة تلبيس أسنان زوجته “زيركون” لولا أنّها احتاجت لتصليح سنّين فقط “وكان بعده وقتها الدولار ع 1500. أمّا هو فقد انتظر ليتمكّن من الذهاب إلى سوريا حتى أصلح كلّ أسنانه “وهيدي رحمة إلنا”.

بعد حاجز الجيش اللبناني في بلدة مطربا، وقبل الحاجز السوري، يوجد مجمّع عيادات لأطباء سوريين من كافّة الاختصاصات ومن بينها طب الأسنان. تؤكّد إحدى الموظفات في المركز إنّ عيادة الأسنان تستقبل يومياً ما لا يقلّ عن ثلاثين مريضاً لبنانياً “فيكي تعبتري إنّه كلّ اللبنانيين على الحدود بمنطقة الهرمل بيتحكّموا هون، بيصفّوا بالدور”. 

وتؤشّر حركة السير إلى خط مطربا إلى حجم اللبنانيين الذين يقصدون العيادات المتخصّصة ومعها الصيدلية السورية التي تقع على بعد مائتيْ متر من المركز الطبي السوري. يحضر الأطباء السوريون يومياً عبر الحدود ولا يقطعون الحاجز اللبناني إنّما يبقون ضمن المنطقة ما بين حاجزين، وهي سورية ولكن الجيش السوري لا يتصرّف تجاه المناطق التي تقع بينه وبين الحاجز اللبناني على أنّها أراضٍ سورية ولذا لا يتدخّل في الداخلين من اللبنانيين إليها. وغالباً ما يكون صفّ منتظري دورهم للدخول إلى الصيدلية ممتداً إلى خارجها بخمسة أمتار وكلّهم من لبنانيي الحدود. ويعمل الصيدلاني والصيدلانية المناوبان على منحهم أدوية مماثلة بتركيبتها لأدويتهم ولكنّ صناعة سورية.    

 

القرى المتاخمة والتوجّه شرقاً

ربّما، وبحكم الاختلاط الاضطراري أو النزوح الملحوظ لبعض سكّان القضاء نحو بيروت وضواحيها، كان هناك مواطنون من المنطقة يتسوّقون في المدن اللبنانية من بعلبك إلى زحلة وصولاً إلى بيروت وخصوصاً ممّن يسكنون الضواحي حيث الأسعار مقبولة. لكن هذه الحال نادراً ما نجدها في القرى المتاخمة للحدود السورية. يتعامل هؤلاء مع الحدود كما طبيعتها الجغرافية، وكأنّها غير موجودة حيث تنقسم قراهم أساساً ما بين الداخل السوري وجاره اللبناني في انسياب طبيعي متكامل. وبرغم بعض حواجز الجيش اللبناني وخصوصاً في المناطق التي تشهد نشاط التهريب، في مقابل تواجد لنقاط الهجّانة السورية في الداخل السوري، إلّا أنّ الطرقات الترابية بين البلدين، وهي كثيرة مفتوحة قبل الـ2011 كما بعده بعد انتهاء المعارك في القصير وريفها.

وعليه، كان سكان المشرفة ومشاريع القاع وحوش السيّد علي ومطربا والقصر وإبّش من بعدها يقطعون السواقي الفاصلة على الحدود برمشة عين، إذ يكفي أن يبرزوا بطاقة هويّتهم ليعرف حرس الحدود السوريون أنّهم من المناطق المتاخمة لسوريا فيسمحون لهم بالدخول مباشرة. 

تروي فاطمة جعفر التي تسكن في حوش السيّد علي اليوم وتحديداً على حافّة ساقية زيتا التي تفصل بين الحوشين اللبنانية والسورية، أنّها كانت تدرس مع أخوتها في المدرسة الابتدائية في الجنطلية ومن ثمّ النهرية جارتها في الرابع والخامس ابتدائي، ومن بعدها انتقلوا إلى القصير لدراسة المتوسّط. “كنّا نطلع من الضيعة كأنّا بمظاهرة طلابية، نركب بالميكرو (ميكروباص) السوري ونروح ع مدارسنا”. تقول فاطمة إن الميكروباص كان ملزماً بالتوقّف لتلامذة المدارس سوريين كانوا أم لبنانيين ومن دون أي مقابل “وإذا ما وقف وتشكّينا عليه بيعملوا له ظبط”. 

تتحسّر فاطمة على القصير “كانت مدينة وكتير قريبة علينا، نطلع من المدرسة نروح نكزدر ونشترى إشيا وناكل بمطاعمها وكنّا صغار نتنقّل بكلّ أمان بالتاكسي وما يوم حدا ضايقنا أو خفنا من شي”. ما كانت تفعله فاطمة مع أشقائها وزملائها من اللبنانيين كان مهماً بالنسبة لهم “نحن أولاد قرى حدودية فقيرة وبعيدة عن كل شي بلبنان، سوريا عرّفتنا ع الحياة فعلياً”. ذهاب التلامذة اللبنانيين للتعلّم في سوريا لم يكن يحصل بسبب عدم وجود مدارس في القرى الحدودية فقط، حيث أنشئت مدرسة القصر الحكومية في 1963 وقبل نحو 50 عاماً من اليوم مدرسة الحوش الرسمية، بل إنّ الأهالي فضّلوا سوريا لمجّانية التعليم والكتب وحتى الزيّ المدرسي في المرحلة الابتدائية. “وكمان بالحرب اللبنانية وبعدها تدهور كتير مستوى مدارس الدولة بلبنان”، وفق ما ترى فاطمة “البابا كان يفضّل يعلّمنا بسوريا، بيقول في جدّية هونيك أكتر”.

كما الحوش كذلك تلامذة مطربا والقصر وإبش على حدود بلوزة وحاويك، كان التلامذة اللبنانيون يقطعون الحدود نحو سوريا وهم يرتدون الزيّ الموحّد المدرسي السوري وكأنهم خارجون من فيلم أو مسلسل للتلفزيون السوري. لم تكن نسبة طلاب الحدود المباشرة الذين يتعلّمون في سوريا تقلّ عن 50% وفق ما يرى مختار الحوش محمد ناصرالدين.

 

لبنانيو سوريا

قبل العام 2011، لم يكن الحديث عن اللبنانيين الذين يعيشون في سوريا ملحوظاً لا في المجتمع ولا في الإعلام، ومعهم لبنانيي الحدود الذين يزرعون أراضيهم التي أخذتها معها “سايكس بيكو” نحو سوريا والقرى ذات السكان اللبنانيين وعددها نحو 23 قرية وبلدة. لم يكن أحد يعرف تفاصيل حياتهم ولا مصادر عيشهم كما أخوانهم المنسيين على الحدود في الداخل اللبناني. بعد 2011، ونزوح معظمهم إبّان معركة القصير وريفها ومن ثم عودة غالبيتهم اليوم بعد حسم المعركة في هذا الجزء من سوريا، تبيّن عمق علاقتهم بسوريا وارتباط عيشهم فيها وخصوصاً لمن يسكنوها من اللبنانيين ومعهم سكّان البلدات المتاخمة.

يقول محمد الطفيلي من سكان حوش السيّد علي ولديه أراضٍ في سوريا، إنّ ما يحظى به فيها هو نفسه الذي يُقدم للفلاح السوري “بيطلع لنا أسمدة شبه مجانية حسب مساحة أرض كل منّا، إذا حبّ الفلاح ما يزرع أرضه بيقدر ببيع الأسمدة ويربح”. مع الأسمدة ينال المزراع مساعدات “مازوت لموتور المي ولتراكتور الفلاحة وكمان للتدفئة بالبيوت، وكان فينا نبيع المازوت إذا بدنا، وبيطلع لنا كمان زيوت لمحرّكات الآليّات الزراعية” وكل ذلك عبر الرابطة الفلاحية السورية. ويمكن للبناني من سكان الحدود حيازة إقامة رسمية في سوريا في حال كان لديه أرضٌ زراعية في الداخل السوري “وفينا نمشي بسوريا ونفوت ع الهوية أو حتى ع فاتورة الكهربا إذا اشتركنا من الكهربا السورية”. ويمكن للبناني أن يحصل على ورقة مختار أو من رئيس بلدية ربلة، البلدة السورية الأقرب للحدود التي تتمتّع ببلدية، تفيد بأنّه يعمل بالزراعة في سوريا “وبياخد عليها إقامة”. فقط لا يمكن لسكان الحدود اللبنانيين الدخول بسياراتهم من المعابر غير الشرعية للبقاء في سوريا إلّا إذا دخلوها عبر الأمانة الحدودية، أي مركز الحدود الرسمي والشرعي.   

عاد معظم اللبنانيين الذين تهجّروا من ريف القصير نتيجة الحرب السورية إلى قراهم في زيتا وبلوزة وحاويك والنهرية والمصرية والسماقيّات الشرقية والغربية وتل مندو والجبانية والديابية والفاضلية وغيرها. ومع انتهاء المعارك في المنطقة استأنف المزارعون اللبنانيون في قرى الحدود لناحية لبنان زراعة أراضيهم في سوريا. 

من على مصطبة داره في حي المنقطع في القصر، يشير محمد قطايا إلى فتحة صغيرة قرب حاجز الجيش السوري على بعد 200 متر من منزله “هيدي تاركين لنا إياها إلنا لنفوت ع أراضينا” يقول. عاد سكان الحدود إلى زراعة أراضيهم كما السوريين ممن عادوا إلى بلادهم “الدعم الزراعي الرسمي خفّ بسبب وضع سوريا اليوم، بس ما في شي بياخده المزارع السوري نحن ما مناخده، متلنا متلهم”. ويؤكد أنّ سوريا لم تميّز يوماً ضدّ اللبنانيين فيها “بالعكس بتشتري منّا المحاصيل وخصوصاً القمح والتبن بأسعار جيّدة أفضل من لبنان، ويُمنع علينا إخراج القمح من الحدود وتترك لنا حرّية التصرّف بباقي المحاصيل من حبوب وخضار وثمار أشجار “بالعكس أوقات الجيش اللبناني بيضيّق علينا برغم أنّنا نملك أوراقاً تفيد أنّ هذه محاصيلنا في الداخل السوري”. 

 

أسواق بديلة بعد الحرب

تبدو الحركة نحو سوريا من المناطق الحدودية في قضاء الهرمل اليوم مفاجئة للزائر في ظلّ حركة التهريب لكل شيء باتجاه الداخل السوري حيث يوحي المشهد وكأنّه لا يوجد شيء في سوريا لولا التهريب من لبنان. 

التهريب يتجلّى في الداخل السوري عملياً بسلع لبنانية مدعومة تملأ الدكاكين والسوبرماركت من كيس الطحين لأشهر المطاحن اللبنانية إلى ألواح الشوكولاته من “كيت كات” و”سنيكرز” و”مارس” وغيرها. على الطرقات الداخلية للقرى السورية يضع أشخاص على يمين الطريق ويسارها غالونات مليئة بالمازوت والبنزين تبدأ من حجم ليترين وصولاً إلى خمسين ليتراً، تُباع للمارّة والمحتاجين للوقود، هي أيضاً من منتجات النفط المدعوم المهرّب من لبنان إلى سوريا. 

ومع ذلك، تجد سيارات اللبنانيين تصل إلى بلدة العقربية بالعشرات من قضاء الهرمل. يدخل هؤلاء عبر معبر قلد السبع في سهلات المي في أراضي عشيرة جعفر ثم يتوجّهون إلى جرماش، وهي قرية سورية يسكنها آل جعفر كلبنانيين إضافة إلى مواطنين سوريين، ومنها إلى العقربية. وقبل 2011، لم تكن العقربية على خارطة وجهة اللبنانيين إلى سوريا. ولكن مع المعارك الشرسة التي دمّرت القصير، تحوّلت العقربية إلى سوق بديل يؤدّي دور سوق القصير ونمَتْ بسرعة وصارت وجهة أساسية للبنانيين حيث لا يُسمح إلّا لمن لديه ورقة “مهمة” من السلطات السورية نفسها أو من حزب الله أو أحزاب حليفة كالحزب السوري القومي الاجتماعي بالوصول إلى حمص. وماذا تشترون من سوريا اليوم؟ نسأل فراس أحد المواطنين الذي يقصد سوريا كل أسبوع على الأقل. 

يشتري فراس الخضار ولحم الغنم والحلويات والقطنيات التي “تستعيد مجدها” صناعياً “كيلو لحم الغنم بسوريا 15 الف ليرة سوري يعني 45 الف ليرة لبنانية، بينما سعره في لبنان 70 ألف و90 إلى 100 ألف ليرة حسب المنطقة”. ويحبّ فراس الذهاب إلى سوريا “بتعرفي توقّفت عن الذهاب إليها خلال الحرب، اليوم بحس حالي مشتاقلها، نحن معوّدين ع سوريا”. ويقول فراس إنّ اللبنانيين وخصوصاً سكّان الحدود موجودون في سوريا بكثرة “كل يوم بشوف ناس من المنطقة هونيك، نحن متعوّدين عَ سوريا ومنلاقيها أرخص من لبنان برغم الغلاء الفاحش هناك وتغيّر أوضاعها وانهيار اقتصادها كما لبنان”. وما زال فراس يقصد سوريا مع أصدقائه ليتغدّوا و”منكزدر كمان، ومن حمص اشترى غطاء لسريره الزوجي “دفعت حقه ما يساوي مئة ألف لبناني. بتلاقيه بلبنان بنفس النوعية بـ300 أو 400 ألف ليرة”. يختم فراس حديثه بأمنية “كتير بحب لمّن بقدر أوصل ع حمص وحسّها عم ترجع تحيا وترجع انشالله متل ما كانت”. 

 

فقراء لبنان اليوم يفتقدون سوريا “الفقيرة”

“في الليلة الظلماء يُفتقد البدر” بهذه العبارة، تلخّص لينا الوضع في الهرمل في ظلّ الأزمة التي فاقمها قانون قيصر في سوريا “ما كان رح يكون وضعنا اليوم سيئ هلقد لو سوريا بخير”، تقول. سوريا اليوم “أفقر منّا” بالنسبة للينا وإلاّ “لما شعرنا بالأزمة الخانقة اليوم، كنّا منجيب كل احتياجاتنا منها، وخاصة الغذائية الضرورية”. ومع ذلك، تطلب لينا من زوجها أن “يتدبّر” لها مشواراً إلى حمص “ما عندي شراشف للبيت، مرقت ع محل ببيروت حق طقم الشراشف لتخت مزدوج 50 دولاراً ع سعر السوق السودا، يعني 610 آلاف اليوم (في 13 نيسان 2021)، بجيبوا من سوريا مكسيموم بـ20 دولار وقطن 100%”. وتضيف إلى القطنيات أدوات التنظيف وكل أنواع المحارم “النوعية الجيّدة من المحارم بلبنان بـ11 ألف الكيس، عم جيبها من سوريا نفس النوعية بـ7 آلاف”، وكذلك الشوكولاته والحلويات “أرخص بكتير من لبنان لأنّه صناعة سورية”. 

يأسف محمد جعفر، أحد سكان سهلات المي بالقرب من القصر على وضع سوريا حالياً “مبارح إجا لعندي أستاذ مدرسة لبنانيّ يعيش في سوريا ليشتري حقن كورتيزون وصفها له الطبيب، برمنا كتير صيدليات حتى لقيناهم، في أدوية كتير ناقصة بسوريا”. فقانون قيصر، وفق ما أخبره صيدلي سوري يفتتح صيدلية على الحدود مع مطربا، أثّر حتى على المواد الأوّلية التي تستخدمها معامل الأدوية “بعد في أدوية مصنّعة في سوريا أرخص من لبنان، أمّا الدواء الأجنبي فيتمّ تهريبه من عنّا إلى سوريا”. يرى محمد أنّ العلاقة اليوم صارت شبه معكوسة “التهريب عم يأمّن احتياجات سوريا، وكلّ المواد المدعومة عم تروح من عنّا لعندهم، بس طبعاً بأسعار باهظة، ونحن مش عم نلاقي سلع مدعومة بالسوق لأنّه أرباح المهرّبين كتير كبيرة”. يعطي محمد مثلاً عن صفيحة البنزين “كان إبن عمي بسوريا بـ10 نيسان 2021 واضطرّ أن يملأ خزان سيارته بـ20 ليتر بنزين دفع حقهم 120 ألف ليرة سوري يعني نحو 400 ألف ليرة لبنانية، بينما تباع الصفيحة 20 ليتر في لبنان بـ 40 ألف ليرة، فكلّ مهرب يربح بكل صفيحة بنزين 360 ألف ليرة لبنانية”.  

ويرى محمد أنّ اللبنانيين الذين يقصدون سوريا اليوم “بيروحو ع العقربية ومكسيموم القصير، مش عم يقدروا يوصلوا ع حمص مثلاً”، يشتري هؤلاء “بعض الخضار وقد ارتفع ثمنها وتكاد توازي أسعارها في لبنان، والأدوية المصنّعة في سوريا إن توفّرت وكذلك أدوات التنظيف والقطنيات والملابس والأحذية المصنعة سورياً”. تقتصر الحركة التجارية بين سوريا ولبنان اليوم على المعابر غير الشرعية التي تشهد تهريباً من الحدود في الدبوسية إلى وادي خالد فالقصر وحوش السيد علي وجرد عرسال والمصنع وصولاً إلى دير العشاير في البقاع الغربي “لولانا سوريا ما فيها شي اليوم”، يقول أحد المهربين بفخر، فيضحك محمد ويقول له “لولا سوريا إنتو ما معكم مصاري اليوم، عم تهرّبوا مش لأنّه قلبكم ع سوريا، إنّما لأنّكم عم تجنوا الملايين يومياً”.  

كتب محمد العلي، ابن تل كلخ السورية على الحدود مع لبنان لناحية وادي خالد منشوراً على صفحته على فيسبوك يتحدّث فيه عن العلاقة بين البلدين “جدّي اشترى أرضه بعدما ذهب للعمل في لبنان لسنوات، أبي لم يتزوّج وينجبني لولا المال الذي جمعه من عمله في بيروت، ومثله آلاف الشبّان السوريين، وأنا شخصياً اشتريت بيتاً في طرطوس بعدما عملت لعشر سنوات في لبنان، وسوريا كانت مفتوحة للبنانيين وخصوصاً سكان الحدود ولم تقفل بابها في وجوههم يوماً من الطبابة إلى المواد الغذائية إلى المدارس والجامعات. وكما الثمانينيّات عندما كنّا لا نجد شيئا في سوريا لولا لبنان، اليوم أيضاً كل احتياجاتنا تأتي منه” لعن الله السياسية والمهرّبين، ويحيا الشعب هنا وهناك”.

***

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، مجلة لبنان ، لبنان ، سوريا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني