عن جرد عشيرة علّوه القابع في مثلث الحرمان: لا أثر إنمائي أو أمني للدولة


2021-08-25    |   

عن جرد عشيرة علّوه القابع في مثلث الحرمان: لا أثر إنمائي أو أمني للدولة
بيوت مهجورة في وادي التركمان (تصوير حسن الساحلي)

يمكن لقراءة الحدود الجغرافيّة لمنطقة تمركُز عشيرة علّوه أن تساعد في فهم مواردها الاقتصادية، وبالتالي واقع أبنائها الحياتي وعلاقتهم بالدولة ووضعهم القانوني، من دون استثناء السياق السياسي للعشيرة التي اشتهرتْ تاريخياً بتسيُّسها، وبخاصّة على يد الأحزاب التقدّمية والعلمانية في السبعينيّات. تسيُّس نأى، ربطاً بطبيعة الأحزاب الناشطة آنذاك وعدم انخراطها بالسلطة، عن المحسوبية والمصالحية، وطبعاً النفعية وتحقيق المكاسب.

وفي جغرافيا العشيرة مؤشّر يرتبط بمثلّث الحرمان: عكّار والضنّية والهرمل، الذي تتربّع في قلبه. فأراضي آل علّوه تبدأ من منطقة عميري، قضاء الضنّية، على الحدّ مع مربّين، إلى مغرِّب ووادي جهنّم في قضاء عكّار على حدود مشمش والقمّوعة، وصولاً إلى سهل مرجحين الذي ينقسم في وسطه بين قضاءي عكار والهرمل، حيث يبدأ الأخير من منتصف السهل نحو الشرق. بعد مرجحين يتمدّد أفرادها نحو منطقة السَوَح البعلية التي لا يُستخرج ماؤها الجوفي إلّا على عمق 450 إلى 600 متر، ومن ثمّ ينحدرون نحو واديَي التركمان والرّطل نزولاً نحو حي المرح الشمالي وشقيقه الجنوبي في رأس الهرمل.

نرى العشيرة تتوسّع عمودياً كما عشائر جعفر وناصر الدين ودندش حيث تبدو حدودها مع العشائر الأخرى واضحة لا لبس فيها، لها طرقاتها وأراضيها الزراعية، فيما تدخل الهرمل من سفح سلسلة جبال لبنان الغربية، ودائماً امتداداً من جردها، لتمسك المدينة من أعلاها في الوسط.

يحدّ العشيرة آل دندش من الجنوب في جباب الحمر شقيقة مرجحين، وفي بديتا في الهرمل مع عشيرتي شمص وعوّاد، فيما تحدّها عشيرة ناصرالدين من الشمال جرداً وسهلاً. وتنفتح أراضي آل علّوه على الهرمل من ناحية ساحة السبيل حارمةً إياها من أيّ تماس مع الحدود السورية، حيث يشكّل التهريب مصدر دخل كبير للعشائر المُتَرَكِّنة هناك على الحدود الواسعة مع ريف القصير.

حكمت الحدود الجغرافية مصادر عيش آل علّوه فوجدوا أنفسهم بمواجهة الأرض فقط بجرديّتها وقساوتها أو النزوح، في ظل إدارة الظهر الرسمية مع ما حجبته من إنماء. وعليه، مارسوا زراعة حشيشة القنّب الهندي مع غيرهم من العشائر عندما كانت المنطقة مرتعاً لها قبل منعها في التسعينيّات. وبينما وجدت بعض عشائر السلسلة الغربية في القضاء، وخصوصاً آل ناصر الدين وجعفر وزعيتر، في القصر والحوش والحدود مع سوريا مصادر دخل عبر التجارة الحدودية، لم يجد بعض أبناء آل علّوه، ممّن لم يوفّقوا بسبيل للرحيل نحو أحزمة البؤس في المدن للعمل والعلم، غير الاستمرار بزراعة الحشيشة، فتصدّروا قائمة المطلوبين والطفّار وكذلك القابعين في السجون، وعلى رأسها سجن رومية المركزي.

لا استثمار للسياسة في الإنماء

وفي مرحلة ما بعد الطائف ومع تمدّد الثنائي الشيعي بين عائلات الهرمل ومن ثمّ بعض العشائر، وخصوصاً في البداية مع حركة أمل، كان انخراط آل علّوه محدوداً وهم المصبوغون بانتشار الأحزاب التقدّمية في شريحة واسعة بين رجالهم ونسائهم الذين بكروا في طلب العلم. ودخل الحزب السوري القومي الاجتماعي صفوفها قبل غيره. تلاه البعث العربي الاشتراكي (بجناحه العراقي) والقومية العربية ثمّ منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي. يقول مفلح رئيس علّوه، عضو بلدية الهرمل، وكان في السبعينيّات أوّل من أدخل حزب البعث بشقّه العراقي إلى عشيرته وشجّع شبّانها وشابّاتها على الانضمام إليه، أنّ آل علّوه “كانوا السبّاقين للعب دور بارز في الأحزاب الوطنية وكذلك في مقاومة إسرائيل، كما فعلوا مع الأتراك والفرنسيين من قبل”، ويستشهد بأحد الاجتماعات الحزبية الشهيرة في أواخر السبعينيّات والتي تبيّن أنّ أبناء العشيرة كانوا من أبرز كوادرها في المنطقة.

هذا الواقع حال دون أن تنتج علاقات عشيرة علّوه السياسية الحديثة مشاريع إنمائية كالآبار الارتوازية وطلبات الإسكان والترميم والاستصلاح الزراعي والتي استفادت منها عشائر أخرى، ما حدّ من تعدّد مداخيلهم وترك بعضهم في عنق زجاجة الخروج على القانون والطفر. وانسحب الحال على جردهم فبقيت أوديتهم من الأفقر مع وادي بنيت الدنادشة ومزرعة الفقيه في وادي الكرم.

يقول أحد مسؤولي حزب الله في مجلس خاص، وخلال نقاش حول مدى تزايد نفوذ الحزب وتمدّده بين العشائر، (وهو تمدّد نما وتطوّر بعد عدوان 2006 وقبله مفصل اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي ترافق مع ازدياد حدّة التمذهب)، إنّ علاقة الحزب لم تتطوّر مع عشيرة علّوه بالوتيرة نفسها مع العشائر الأخرى. هذا لا يعني أنّه لا يوجد عناصر للحزب بين آل علّوه ولكنهم ليسوا بالكثرة نفسها التي يتواجدون فيها في بقية العشائر. ويمكن تلمّس هذا المعطى من اقتصار شهداء الحزب من آل علّوه على شهيدين كأقصى حد (أحدهما مع فريق إعلامي). وينعكس هذا الواقع على مداخيل أبناء العشيرة، فلا يدخل التفرّغ الحزبي في مردودها الاقتصادي اليوم، كما كان في السبعينيّات والثمانينيّات. والأمر نفسه ينسحب على حضور حركة أمل ومحدوديته. كما بقيت أبواب التنمية مقفلة أمام آل علّوه خلال الحقبة السورية حيث استهلّ هؤلاء دخولهم لبنان والإمساك بمفاصل السّلطة باعتقال معظم رجال ونساء العشيرة على خلفية انتشار البعث بشقّه العراقي في ما بينهم، واقتيادهم إلى إحدى مغاور وادي العاصي التي سُمّيت على اسم الرائد في الجيش السوري علي ديب الذي كان يقتاد المعتقلين إليها آنذاك. وأدّى هذا الواقع إلى إقفال العديد من أبواب التنمية والرزق عنهم.

 

محاولات فكّ الطوق

أمام هذا الواقع، حاولت عشيرة علّوه فكّ الطوق الاقتصادي من حول عنق أبنائها وأبناء الجرود وعلى رأسها مرجحين بمبادرات فردية. “وقّعنا اتفاقاً مع وزارة الزراعة في السبعينيّات لإنتاج بذار البطاطا المؤصّلة في سهل مرجحين”، يقول مفلح رئيس علّوه، أحد وجهاء العشيرة، كون لبنان كلّه يستورد حبّة البطاطا السوبّر من الخارج بالدولار “وزرعنا 15 طنّاً من البطاطا المؤصّلة فجاءت النتيجة الأفضل في المنطقة ويمكننا أن نصدّرها إلى الأردن وسوريا، وتعود على لبنان بالعملة الصعبة”. وبدل أن تستمرّ الدولة بدعم تأصيل بذار البطاطا، خضعت، وفق علّوه، لضغوطات تجّار البطاطا وأوقفت المشروع في جرود الهرمل.

عندما أجهِض مشروع تأصيل بذار البطاطا، حاول بعض المزارعين زراعة نبات دوّار الشمس الذي يستخرجون منه الزيت النباتي، وهو غالي الثمن ومن أفضل الزيوت. “نجحت التجربة وناسبت طبيعة مرجحين المناخية هذه الزراعة”، يقول علّوه، فوعدت الدولة المزارعين بإنشاء معمل لتصنيع الزيت “ولم تفِ بوعدها كالعادة” حسب ما يؤكّد ليضيف “وكأنهم لا يريدون لهذه المنطقة أيّ إنماء أو رزق خارج التهريب وزراعة المخدرات”.

حسن محمد علّوه، وهو أحد وجهاء العشيرة أيضاً، قام قبل 10 أعوام بزراعة 90 دونماً من التفّاح في أرضه في سهل مرجحين “قلنا منعمل زراعة بديلة من دون إرشاد زراعي لأنّه الدولة مش سائلة عن أحوالنا”. تسلّح علّوه بجودة التفّاح الجردي عامّة: “قلت بجرّب نموذج يحتذى به في حال نجاحه”. لكنّ الصقيع الذي يضرب سهل مرجحين المغلق من الجهات الأربعة لم يناسب التفّاح حيث يقتل براعم الزهر قبل انعقادها “كل سنة صرنا نخسر شي 10 لـ15 ألف دولار، وما يبقى إلّا كم تفّاحة بأسفل كل شجرة”. اليوم اقتلع حسن محمد علّوه كامل كرم التفّاح “لازم الدولة تعمل إرشاد زراعي وتفحص التربة وتحلّل عوامل المناخ وترشدنا إلى الزراعات التي يمكننا الاستثمار فيها، وإلّا ستبقى موارد الرزق مقفلة ويزداد المطلوبون، فلا يوجد إنسان قد يقبل بموت أطفاله جوعاً”.

 

وينيي الدولة؟

من مرجحين إلى السَوَح فواديَي التركمان والرّطل، وصولاً إلى المرحَيْن الجنوبي والشمالي، (منطقة عشيرة علّوه) لا وجود لأي أثر إنمائي أو أمني للدولة، بما فيها حاجز صغير للجيش اللبناني على غرار ما هو موجود عند بوّابات جرد دندش وناصر الدين وجعفر. حتى الطريق التي انتظرت الدولة لغاية العام 2000 لتعبّدها إلى مرجحين، لم تصمد بسبب سوء التنفيذ حيناً وتقاسم تمويلها حيناً آخر بين متعهّدين ونافذين فتجد فيها بين الحفرة والحفرة حفرة. وحدها بئر الماء التي حُفرت في أعلى وادي التركمان قبل نحو 25 إلى 30 عاماً جُهّزت قبل سنوات بمضخّة بالكاد تكفي بعض منازل حي القريطة الذي تقع البئر في نطاقه. واستُخرج أقلّ من إنش مياه من 10 إنشات هي قدرتها على الضخ. ولم يكن من المفترض أن تغذّي هذه البئر كامل وادي التركمان فحسب، وإنّما وادي الرّطل جاره أيضاً لولا الفساد وسوء التنفيذ الذي اعتراها مع مدّ شبكتها وتركيب مضخة لا تكفي حيّاً صغيراً يخلو من معظم سكانه. ويتندّر ناشطو المنطقة برواية حادثة قدوم مندوب عن الجهة المانحة للكشف على التمديدات لضخّ مياه البئر إلى وادي الرّطل من أسفل وادي التركمان، فأتى المتعهّد والمُنفّذ بصهاريج مياه أفرغاها في القساطل لكي يوهما مموّلي المشروع بأنّها مياه البئر.

نعمان الصامد في وادي التركمان منذ 60 عاماً (تصوير حسن الساحلي)

الوادي شبه المهجور

إذا استثنينا مراح عبّاس من مدخل وادي التركمان، سنجد ثلاثة منازل مسكونة في حي القريطة أعلى الوادي وقبل الصعود نحو السَّوَح. واحد من هذه البيوت يسكنه صاحبه صيفاً فقط، فيما يبقى الأستاذ الثانوي المهندس زياد علّوه، وابن عمّه المزارع ومربّي المواشي نعمان علّوه ساكنين دائمين.

يرى زياد أنّ وضع وادي التركمان كان في الستينيّات أفضل ممّا هو عليه اليوم “كان في هاتف أرضي باسم والدي في الحي، على سبيل المثال، بينما اليوم لا يوجد سوى الهواتف الخلوية”، ليردّ عودته إلى الوادي بعد تخصّصه بالهندسة في موسكو إلى حبّه للعيش في الجرد، “وليس لأنّ مقومات الحياة متوفّرة”. والدليل أنّه يعتاش من مدخوله في التعليم وليس من “إنتاج الأرض”. ولذا لا يرى زياد أنّ من يعتبرونه نموذجاً لإمكانية تجديد العيش في الأودية المهجورة محقّين “إلا إذا تمتّع العائدون بمصدر دخل يمكّنهم من العيش في مكان محروم من كل شيء كما وادي التركمان”.

بدأت علاقة زياد الذي قضى طفولته ومراهقته قبل السفر للدراسة الجامعية، في الهرمل، مع الوادي عندما قصد منزل العائلة مع أحد زملاء الدراسة للتحضير للشهادة الثانوية الرسمية في 1987، حيث اكتشف أهمية أن يكون للإنسان “بيئة وطبيعة مختلفتين مع مساحات واسعة يعيش فيها من دون قيود، أو بقيود أقلّ مما هي عليه في المدينة”. في الوادي “تتخلّصين من فكرة الملكية الفردية”، وفق ما يقول، “يعني بتروحي بتمشي ما بتنتبهي إنّك فتّي بأرض غيرك، وهو ما يعزز الأفق المفتوح، وكذلك العلاقة مع الأرض ومنتجاتها الزراعية”. عندما غادر زياد إلى موسكو لدراسة الهندسة كان قد رأى بيروت مرّة أو مرّتين “ولم أستطع الدراسة فيها بسبب الحرب”. قبل الاستقرار في موسكو، قضى السنة التحضيرية في مينسك، عاصمة روسيا البيضاء، “المدينة اللطيفة الهادئة”. حتى العيش في موسكو كان خالياً من الضجيج “يلقبّون موسكو بالقرية الكبيرة وليست صاخبة وهي أقرب إلى الريف أيضاً، وكنا نذهب إلى الجامعة سيراً على الأقدام، تحيط بنا الأشجار ولا نسمع سوى صوت الطبيعة وعصافيرها”. هذا التعوّد على نمط حياة خالِ من الضجيج والازدحام، لم يدرك زياد مدى تأثيره فيه إلّا عندما عاد إلى الهرمل “ليس هناك ملعب لأولاد الحي سوى الطريق، والمنازل كانت قرعة بلا اخضرار، كما أنّ مناخها شبه الصحراوي حار”. وعليه، اتّخذ قراره و”نزح” إلى الوادي في 2011 “في ناس كتير عم تهرب ع الجرود، وهذا جيّد ولكنّه يحتاج إلى تأمين مقوّمات العيش”. يعيش اليوم على بعد 10 كيلومترات من الهرمل “المسافات هي مسألة نفسية فقط بوجود السيارات”. ويربط زياد تفاعل العودة إلى الريف بالوضع الاقتصادي الجيّد للناس “أنا بقدر عيش هون لأني أستاذ بنزل مسافة ربع ساعة ع مدرستي”. بالنسبة له تغيّر الوضع اليوم، وصار البعض يشعرون أنّ الجرود قريبة، وكلّما تحرّر الناس من “الأفكار المسبقة للعيش في الجرد والريف، بينتصر الريف”، بمعنى، على سبيل المثال لا الحصر، أن يكفّ الناس عن الاستغراب من العيش في الوادي وعن السؤال: “بركي صار معك شي”، كونه لا يوجد طبيب أو حتى مستوصف في وادي التركمان، وحتى دكان صغير لشراء الحاجيّات.

لا يوجد في وادي التركمان بلدية رغم أنّ عدد ناخبيها يلامس 1000 ناخب أو أكثر بقليل، ولكنّ المهتمّين بالمخترة من آل علّوه لم يتّفقوا على انتخاب مختاريها، فسحبوا المرشّحين العشرة في انتخابات 2016 وبقي الوادي بلا مختار، وألحِق بمختار وادي الرّطل جاره.

نعمان الصّامد

توثّق حياة نعمان علّوه، جار زياد، نمط العيش في وادي التركمان وواقعه اللذين لم يتبدّلا. ولد نعمان وما زال يعيش في الوادي منذ ستين عاماً “غبت فترات قصيرة فقط”. مقوّمات العيش “ضعيفة قد ما بدّك، يعني فقر مادّيات كتير ع شقى وتعب، كما أنّ فرص العيش محدودة جداً”. ربّى والد نعمان عائلته من تربية المواشي والزراعة البعلية، وهما كلّ المتوفّر أمام سكّان وادي التركمان “وعينا أنا وإخوتي وصرنا نساعده”. ولم يذهب نعمان إلى المدرسة “قرّر أبي إنّي ساعده”. ومع ذلك نزح والد نعمان في أحد فصول الشتاء إلى وادي الرّطل ليعلّم أحد أبنائه في مدرستها، برغم وجود مدرستين في وادي التركمان “كانت مدرسة وادي الرّطل تهتم بالأولاد أكتر، لأنه ما كان حدا متعلّم ليهتمّ بدروس الأولاد بالبيت”. في جميع الأحوال، كانت المدرسة عبارة عن غرفة واحدة يجمعون فيها التلامذة من كلّ المستويات ويعلّمهم أستاذ واحد يأتي غالباً وخصوصاً في البدايات من خارج الهرمل. يسكن الأستاذ في منزل أحد أهالي القرية وتتناوب العائلات على دعوته إلى الطعام كفعل تكريم واهتمام بمن يعلّم أبنائهم.

عوّض نعمان “الغبن” لحرمانه من التعليم بتعليم أبنائه. لذا قصد الهرمل واستأجر غرفة مع حمام “ما بقدر ودّيهم بالتّلج ع الهرمل، وما عندي سيارة، بس قلت ما بدّي يكرّروا نفس حياتي، لازم ساعدهم ليعيشوا حياة أفضل”. صار نعمان يربّي الماعز ويشحّل بعض الأحراج لصناعة الفحم من المشاحر “وكمان إزرع شوية حمص وشعير وعندي شوية أشجار كرز ولوز وبيع مواسمهم”. يشكر نعمان ربّه أنّ مدرسة أولاده في الهرمل كانت متفهّمة “إدفع لهم ع التيسير”. وبعد الشقاء، تخرّج ولداه “واحد مهندس كهربا والتاني محامي ولكنهما لم يجدا عملاً بعد، أمّا البنت فتزوجت”.

اليوم، وبعد كل هذا التّعب ما زال نعمان يعيش من المصادر عينها “عم ربّي شوية طرش (بضعة رؤوس من الماعز) وبشحّل الحرج وعم أصرف ع حالي”. لكنّه لا يعرف ماذا يفعل في حال أصابه مرض ما أو تعرّض لحادث “يمكن إستدين فحصيّة الحكيم متل ما كنت إعمل قبل، وانشالله ما عوز كتير دوا”. ومن حوله لم يتغيّر الكثير “بعدنا بالوادي منزقّ المي بالصهريج ومندفع مصاري”. وتعزّ على نعمان العزلة: “كانت كلّ الناس عايشة بوادي التركمان، فلّت بسبب الإهمال، لا مدارس ولا مي وحتى الطريق ما كنت منيحة، هلّأ ما في حولي إلّا البيوت الفاضية”. لم ينزح نعمان لأنّ “هذا التراب بيعزّ لأنّي عشت عليه، وما برتاح غير هون حتى لو الحياة بالمدينة أريح، بتضلّ تعنّ بقلبي هيدي البلاد”. ولن ينزح نعمان عن الوادي “حتى لو بيقولولي خود بيت بالمدنية ومفروش بكل شي ما بقبل، كل نسمة هوا هون بتسوى الدني، ولمن الله بدّه يعطيني شايفني وين”.

يرى نعمان أنّ المواطنين بلا دولتهم “ما بيسووا شي”، ولكن هذه الدولة التي يرغب بوجودها “مش شايفتنا ناس، ولا مرّة سألت عنّا، وكأنّا مش أولادها”. يشير إلى البئر الذي حفرته الدولة بتمويل خارجي قبل 20 عاماً أو أكثر بقليل “لو طلّعته للناس يمكن ما فلّوا كلّهم”. ولو دعمت الدولة الزراعة كانت الناس صمدت في أراضيها “كانوا زرعوا كرز ولوز وتين وعنب وعاشوا منهم”. حتى الطريق المعبدة والمحفّرة لا تتّسع لسيارتين “بس كون راجع مع حدا ويلتقي بسيارة تانية لازم وحدة منهن تطلع برّا الطريق”.

كميلة “المديرة” (تصوير حسن الساحلي)

كميلة “المديرة”

ما أن تنبلج شمس الصباح حتى تبدأ كميلة يومها. تحضّر فطوراً لصغير أبنائها ثم تحلب الماعز التي ستخرج بها إلى التلال والوديان “هيدي عيشتنا من أكتر من تلاتين سنة”. تعيش المرأة التي تُعرّف عن نفسها بهذه الجملة “أني كميلة مرْت عبّاس”، في مراح عبّاس على فم وادي التركمان منذ أن تزوّجت عباس “يعني يمكن من شي أربعين سنة ما بعرف”، تقول وهي تحاول تذكّر تاريخ زواجها. أربعون عاماً ومع ثلاثة شبّان وابنة وعبّاس ولم تتمكّن العائلة من الانتهاء من بناء منزل جديد من غرفتين ومطبخ وحمام عوضاً عن غرفتي التراب المتهالكتين ومن دون مرحاض أو مطبخ اللتين تعيشان فيهما. تغسل كميلة أوانيها خارج البيت بالقرب من خزّان الماء الذي يملأه عباس من الصهاريج المدفوعة الثمن، إذ لا ماء في الوادي: “كل هيدي البيوت لي حولنا ما عندهم مي، كلّنا منشتري مي”، تقول وهي تشير بيدها إلى المنازل الكثيرة في مراح عبّاس والتي تشكّل أكبر تجمّع سكانيّ في وادي التركمان.

نسال كميلة عن الفرق بين عيش المرأة في الوادي وبين عيشها في المدينة “بالمدينة العيشة أريح، وما في شقى قد عنّا، بس أنا مبسوطة لأنّه راسي مرتاح”. وماذا يعني أن يكون رأسها مرتاحاً نسألها “كل شي بدي إياه بعمله، هالزلمي (عن زوجها) ما بيناقرني، تاركني دير حياتي متل ما بدي يعني فيكي تقولي عنّي مديرة”، وتضحك من قلبها.

اليوم ومع وتيرة العودة إلى البناء في الجرود، تبدو الرغبة في العيش بعيداً عن ازدحام الهرمل عالية. فمنطقة السَوَح التي تقع ما بين وادي التركمان على الطريق من المدينة، ومرجحين تشهد طفرة في بناء البيوت التي يكاد يلامس عددها الخمسين بيتاً على الأقل وكلّها بُنيت في السنوات السّت أو السبع الأخيرة، ولكنها تستعمل كبيوت صيفية للهروب من حرّ الصيف حيث مناخ الجرد معتدل إلى عليل حتى في عزّ تموز وآب، ولكن غياب مقوّمات العيش المرتبط بحضور الدولة والإنماء ما زال وحده المستعصي.

 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

 

  1. بعد أشهر من جولتنا في وادي التركمان التي جرت في شهري شباط وآذار 2021، ركّز الجيش اللبناني حاجزاً عند مدخل الوادي.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، أجهزة أمنية ، سلطات إدارية ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني