صيادو العريضة: إذا ما بيفتحوا مصب النهر رح نهاجر بمراكبنا جماعياً


2022-09-06    |   

صيادو العريضة: إذا ما بيفتحوا مصب النهر رح نهاجر بمراكبنا جماعياً
مصب النهر في العريضة وتبدو الأتربة تقفله

كان خالد النداوي (20 عاماً) يساعد والده الصياد البحري خليل النداوي على دفع زورق الصيد فوق الرمال والأتربة التي بدأت تقفل باب خروج الصيادين من بلدة العريضة نحو البحر في شهر شباط الماضي من العام 2022، حين اقتلعت موجة عاتية غطاء المحرك وأصابت والده في رأسه ووجهه. فقد خليل النداوي، والد الأبناء الستة توازنه ووقع في البحر الذي حمله بعيداً. حاول خالد مع أعمامه وشقيقيه الذين كانوا معه على المركب، العثور على والده من دون جدوى. مع انتشار الخبر، خرجت معهم العريضة بشيبها وشبابها ونسائها ورجالها وصغارها نحو الأراضي السورية من جهة ولناحية الشيخ زناد من جهة ثانية من دون أن يعثروا على الصياد الذي حمله الموج بعيداً وهو فاقد الوعي. انتهى اليوم بعثور خفر السواحل على جثة خليل “شهيد لقمة العيش” كما كتبت زوجته كاملة شقرا على صورة وضعتها في صدر البيت، هي كل ما تبقى من رب الأسرة الذي كان يعيل سبعة أفراد، هو ثامنهم.

من يومها، “يوم استشهاد خليل” كما تقول كاملة، وخالد كره البحر والخروج إلى الصيد، فيما تسكن مع بناتها وأبنائها الذكور في غرفتين، سقف واحدة منهما، وهي غرفة النوم، ينهار تدريجياً على شكل قطع من الإسمنت فيما تبدو قضبان الحديد للعيان. في الغرفة عينها يوجد نافذة من دون درف تردّ البرد شتاء، وحتى شبك يحول دون دخول الحشرات والبعوض في هذا الصيف الحار الملتهب.

لكن مشكلة كاملة لا تقتصر فقط على خسارتها خليل، زوجها ومعيل أسرتها، بل تتعدّاها إلى العوز الذي تعيشه مع نحو 150 أسرة تعتاش من صيد الأسماك في العريضة. أزمة هؤلاء المتجددة كل عام تتمثل في إقفال أتربة النهر الجنوبي الكبير ونفاياته وكذلك الرمل الذي يحمله نوى البحر مصبّ النهر في المتوسط، ما يجعل الصيادين ومن معهم عاجزين عن الخروج إلى البحر. قلّة من بينهم، نحو ستة صيادين، جاؤوا بتراكتورات زراعية ربطوا إليها مراكبهم وسحبوها من على تلال الرمال والأتربة، بعدما تجمّع شبّان ورجال ونساء البلدة لدفعها، مخاطرين بتكسيرها وتركوها على بعد نحو مئة متر من الشاطئ بعدما ربطوها بحبال إلى الصخور القريبة.

ومع ترك بعض المراكب في عرض البحر، نظم رجال العريضة من الصيادين أنفسهم في نوبات حراسة ليلية “منخاف يجي موج قوي وياخد المراكب، او يجي حدا بالليل يسرقها لأنه في طلب ع القوارب للهجرة حالياً”، يؤكد رئيس تعاونية الصيادين محمد عبلة.

عند الرابعة من فجر كل يوم يتناوب صيادو العريضة على الخروج على متن المراكب المتروكة في عرض البحر لكي يتسنى لصياد من كل عائلة الخروج ولو مرة واحدة في الأسبوع علّه يعود ببعض الأسماك والسلاطعين ويبيعها لتؤمن له ثمن شراء الخبز على الأقل لعائلته، ريثما يحين دوره من جديد.

كل هذا، ووزارة الأشغال لم تكلّف نفسها عناء الاتفاق مع متعهّد لجرف الرمول والأتربة وفتح مصب النهر وبوابة الصيادين، وفق ما يقول عبلة لـ “المفكرة القانونية”. تتذرّع الوزارة بعدم وجود التمويل اللازم لأعمال الجرف التي تستغرق نحو شهر، فيما يسأل صيادو العريضة عن مليونين و200 ألف دولار وصلت إلى الوزارة العام الماضي كدعم من الدول المانحة لتنظيف مرافئ الصيادين ودعمهم.

وهكذا شارف الصيف على الأفول، وهو الموسم الآمن للخروج إلى البحر، فيما صيادو العريضة يقضون نهاراتهم يتفرّجون على أبنائهم الجوعى، ويصفّون الكراسي يومياً ليجلسوا على نواصي الطرقات الضيقة في البلدة من دون أي بديل أو من يهتم لأمرهم.

نساء العريضة يصلحن الشباك الممزقة

“من العريضة شمالاً إلى الناقورة جنوباً”

لا صيدلية في العريضة، لا مستوصف، لا دكّان يحتوي حتى على ربطة خبز. ومن لم يزر البلدة قد يحسدها ويحسد أهلها على موقعها الجغرافي. فهي تنام على شاطئ البحر فيما يحدّها من الجنوب نهر الأسطوان ومن الشمال النهر الجنوبي الكبير ليفصل بينها وبين الأراضي السورية، فيما تبدو هي شبه جزيرة مقتولة بالإهمال وإدارة الظهر الرسمية، بدل أن تكون جنّة سياحية وخدماتية وواحة زراعية بفضل موقعها في قلب السهل العكاري.

لا ترى العريضة على مدار أربع سنوات أي شخصية عامّة إلى أن يحين موسم الانتخابات، فتبدأ سيارات المرشحين الفخمة ومواكبهم بالتوافد إلى أن يمضي يوم الاقتراع لتنتهي العلاقة الموسمية المبنية على المصلحة “لازم الانتخابات الجاية نزتّ المرشحين والنوّاب بالبحر” يقول صياد غاضب.

وفيما يثني الصياد علي العلي يثني على كلام زميله الغاضب ويقول “نحن مش موجودين بلبنان”، تسرع ابنته، مريم (10 سنوات) وتأتي بكتاب الجغرافيا لتقرأ “يمتد الشاطئ اللبناني من العريضة شمالاً إلى الناقورة جنوباً”، لتحاجج والدها. بدت الصغيرة التي احمرّت وجنتاها خجلاً تستنجد بكتاب الجغرافيا لتؤكد انتماءها إلى بلاد لا تعرف عنها شيئاً “أنا مش رايحة حتى ع طرابلس بعد” تقول.

قبل انفجار 4 آب واستفحال الأزمة الاقتصادية وإقفال مؤسسات عدة، كانت بيروت تضع كتفاً مع العريضة باستقبالها أكثر من 50 شاباً من البلدة للعمل في مهن محدودة الدخل: “70% من لي كانوا يشتغلوا ببيروت رجعوا ع الضيعة” يقول عبلة. وتشير كاملة شقرا إلى أنّ ابنها خالد نجا بأعجوبة يوم تفجير مرفأ بيروت “كان عم يرتّب البضاعة ع رفوف السوبرماكت لي بيشتغل فيها لمّن طلع الانفجار وتكسّر القزاز وانهارت الرفوف من حوله”. جرح بكر كاملة ولكنه نجا “تاني يوم ضبّ أغراضه ورجع ع العريضة، وأنا قلت له ما بقى تروح ع بيروت يرضى عليك”، تؤكد.

مع بيروت، طالما شكلت المؤسسة العسكرية رافعة اقتصادية لنحو مئة عائلة في البلدة “اليوم، صار العسكري بيرجع من خدمته وبيجي يترجّى الصيّاد يطلّعه معه ع البحر”، يقول الصياد وسام خالد “العسكري جوعان متل الصيّاد، وتنيناتهم مش عم يطلعوا ع البحر لأنّه مرفأ الصيادين مسكّر برمل البحر وأتربة النهر الجنوبي الكبير”.  

ويرى الصيادون أنّ على وزارة الأشغال، المعنية الأولى بمرافئ الصيد البحري، أن تضع آلية تلقائية لتنظيف مصبّات الأنهر، ومنها النهر الجنوبي الكبير الذي يخرجون منه إلى البحر. ويقترح عبلة إلغاء معاملة الترخيص لفتح مصبّ النهر كل عام “لأنّ المشكلة تتكرّر سنوياً”، وهكذا “نخرج من الموافقات الرسمية الضرورية كونها لا تأتي”.

إلى جانب الأتربة والرمول، يعاني صيادو العريضة من نبتة “إجر البطة”، وهي نبتة مائية تنبت بكثافة على سطح مياه النهر “أحياناً بتصير متشابكة ومحبوكة متل السجادة وتعرقل حركة المراكب وخروجها، وما حدا بينضفها”، كما تقول زهرة زوجة الصياد نعيم. إلى جانب التأثير السلبي لـ “إجر البطة” على رزق عائلتها، تخاف زهرة من هذه النبتة التي تصفها بـ “الوقحة”، لأنها تنمو بكثافة وقوّة وتصبح مرتعاً للأفاعي المائية التي تخرج أحياناً من النهر لتدخل البيوت وترعب سكانها وأطفالها. 

أمام منزل الصيّاد خالد محمد درويش، يتجمّع عدد من رجال القرية ومن بينهم الصياد حسين درويش. يكشف حسين عن ذراعه ليرينا ندبة عميقة “عضّتني كلبة شاردة”، يقول. وهل أخذت حقنة ضد داء الكّلّب؟”، نسأله. يضحك درويش بسخرية ويكشف عن مكان عضّة الكلبة حيث عالج نفسه “بالدوا الأحمر وحبة مضاد للالتهابات عيار 500، ما كان معي مصاري حتى روح ع المستشفى”.

يقول عبلة إنّ الصيادين صاروا عاجزين عن شراء أدوية المرضى من عائلاتهم “في كتير ناس وقفت علاجاتها فعلياً وصارت حياتها بخطر”، فيما العوز والحاجة واضحين في الكثير من البيوت “المستورة”، كما يسميها رئيس تعاونية الصيادين “لي بيعرف شو في داخل البيوت بيعرف، ولي ما بيعرف بيقول كف عدس”.

مع هذا الكلام لا يعد مستغرباً مشهد نحو 15 إلى 20 شاباً يخرجون يومياً من العريضة نحو الشيخ زناد وينتشرون على الشاطئ أملاً بمرور مركب هجرة نحو قبرص أو إيطاليا “الأمهات صاروا عايشين ع أعصابهن”، تقول كاملة شقرا “صرنا إذا طلع ولد من البيت ما منعرف إذا بيرجع، كلّهم بدهم يفلّوا”.

عبلة يشير إلى المراكب القليلة التي استطاعوا سحبها إلى البحر

الهجرة نفسها هي ما يفكر به صيادو العريضة “إذا ما بيفتحوا مصبّ النهر قريباً، رح نجيب تراكتورات زراعية ونشحن زوارقنا كلها ع البحر ونركب فيها مع عيلنا ونفلّ، إيه نفلّ، لأنه ما حدا من المسؤولين معتبرنا لبنانيين ومنستحق نعيش”، يقول عبلة باسم الصيادين. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني