“

إنْ كانت الثورة التي انطلقت في بيروت تخيف الأحزاب والحاكمين في لبنان، فإنّ ثورة الجنوب صارت رعباً حقيقياً للأحزاب المهيمنة وتحديداً في منطقة صور. تخاف الأخيرة فقدان السيطرة الكاملة على ورقتها الضامنة وقسماً من قاعدتها الشعبية بعد أن كسرت الإنتفاضة المناطقية حاجز الخوف والتابو المتمثّل بالخروج عن طاعة الأحزاب والتوقّف عن تأليه القيادات. وليس مبالغاً فيه القول إنّ صور تحتضن للمرة الأولى في تاريخها مظاهرة مطلبية متفلّتة من القيود السياسية والحزبية والمذهبية.

تقول الناشطة من صور نور صفي الدين “شاهدنا ما يحصل (في باقي المناطق) وبدأنا نخطط، قمنا بتجميع أنفسنا، وبدأ الناس بالانضمام إلينا”. إذاً، استفزّ مشهد الناس في ساحتي الشهداء ورياض الصلح في بيروت شباب صور وشاباتها منذ اليوم الأوّل فبدأوا يتداعون للنزول إلى الشارع. كانوا قلّة في ساحة العلم في البداية ولكن ما لبث عددهم أن ارتفع إلى ما يكفي لاستمرار اعتصامهم بالتزامن مع التظاهرات والاعتصامات في باقي المناطق.

ولكن الاختلاف الأكبر في هذه المدينة يكمن في الحساسية السياسية المفرطة الناتجة عن هيمنة الثنائي الشيعي أمل وحزب الله على حساب الأحزاب الأخرى والهيئات المدنية والأهلية في صور. وهذا ما جعل الحراك حتى الآن عرضةً للتصويب بشتى أنواع الوسائل الممكنة بدءاً بالتخوين والتهديد وصولاً إلى العنف والاعتداء.

لم تمثّل صور مفاجأة بنزول ناسها إلى الشارع فحسب، بل أيضاً بصمودهم على الرّغم من الاعتداء عليهم على يد مناصري حركة أمل ورفضهم الخروج من الساحة تحت ضغط الطرف المتضرّر أي الحكومة والأحزاب. ولا يزال الجمهور في ساحة العلم صامداً يعمل على المحافظة على قوّته واستمراريّته قدر الإمكان على الرغم من قلّة أعداد المشاركين مقارنةً بمناطق أخرى.

من هم المشاركون في حراك صور؟

تمثّل فئة الشباب عصب الحراك في صور تجمعهم رغبة في إسقاط الحكومة وتحسين حياتهم المعيشية. ويضم المشاركون ناشطين وناشطات من المجتمع المدني من أبناء صور، بعيدين عن الاصطفافات الحزبية الموجودة، بالإضافة إلى شباب فاعلين تسرّبوا من الأحزاب التي كانوا يؤيدونها أو ينتمون إليها بينها حزب الله وحركة أمل. تبدأ الحشود بالتوافد يومياً من ساعات الصباح الأولى ويبلغ العدد ذروته بين الساعة الرابعة من بعد الظهر والعاشرة ليلاً حين يتخطى العدد ألفي شخص.

وقد شكّلت الساحة مقصداً لكل أبناء الجوار من بنت جبيل وصريفا ومارون الراس وجويّا وغيرها. من بين هؤلاء أدهم نجدي الذي أتى على كرسيّه المتحرك مع عائلته من بلدة صريفا للمشاركة. يقول أدهم إنّ هذا المكان سمح له بالمشاركة رغم وضعه الصحي بعد أن كانت طرقات لبنان ضيّقة عليه باستثناء الطريق إلى المستشفى. كذلك وجدت العائلات في هذا المكان مساحة لتعليم أبنائها وبناتها معنى النضال من أجل الحق.

من الوجوه المألوفة اليوم في ساحة العلم سامح علوية الذي يبيع الأعلام للمشاركين. ليس بيع الأعلام مهنة مستجدّة لدى سامح بل هو يعتاش منها منذ سنوات إذ يبيعها في جميع المناسبات والاعتصامات الحزبية التي تحدث في المنطقة. إلّا أنّه يقول إنّه هنا للمشاركة في الاعتصام أيضاً بعد أن وجد أنّ مشاركته في إغلاق الطرقات في بلدته مارون الراس غير كافية.

يشكّل الحراك في صور تجربة جديدة للعديد من المشاركين بينهم حسن مدلج الذي يقول إنها المرة الأولى التي يخرج فيها إلى إعتصام. فقد قرّر حسن أن يشارك اليوم بعد تدهور وضعه المادّي “أشارك اليوم لأنّي أريد أن آكل. منذ سنة وأنا لا استطيع إيجاد عمل”. ولكن لم تمرّ مشاركته من دون تهديد حاله حال الكثير من المشاركين. فالخروج للتظاهر ضد الأحزاب في صور ليس بالأمر السهل بالنسبة للكثيرين من أبناء المنطقة.

ولكن على الرغم مما تعرّض له الناشطون في هذا الحراك حتى الآن إلّا أنهم قرروا وضعه وراء ظهورهم على قاعدة “ما مضى قد مضى” انطلاقاً من حرصهم على إنجاح الحراك. لذلك يركّز هؤلاء على الشعارات الحقوقية والمطلبية بعيداً عن لغة الشتائم ويصرّون على سلميّة ثورتهم ويضعون الأغاني الثورية التي تعبّر عن مطالبهم يرقصون على أنغامها. ومن بين اللافتات والشعارات التي يطلقونها “كلّن يعني كلّن” و”نزلنا كرمالك” و”إذا بالوقت مش صادقين بدنا نصدق ورقة إصلاحكم!” بالإضافة إلى شعارات أخرى تحثّ الآخرين على الوقوف معهم في مطالبهم. تصرخ الجموع بأعلى ما يمكنها، وترقص بكل ما أوتيت من فرح. فتتحوّل الساحة إلى ما يشبه الاحتفال الذي لا يتوقف على الرغم من المعاناة التي تجمع المشاركين.

التنسيق والتبرّعات

تشكّلت لجنة التنسيق لحراك صور بعد أكثر من يومين على الحراك بهدف تنسيق الأمور على الأرض. وهي تضم أفراداً وناشطين من أبناء المنطقة يقوم دورهم على إرشاد المواطنين وتوجيههم. وقد أصدرت هذه اللجنة بياناً انطلق من عدم الثقة بالطبقة السياسية وطالب باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط مؤلفة من اختصاصيين وخبراء يسمّيهم المجلس النيابي بالتنسيق مع ممثلي الحراك. وقد أوجدت اللجنة صندوق “تبرّع للحراك” بهدف تأمين مبالغ مالية تُنفق على أجهزة الصوت والخيَم وبعض الوجبات إذا سمح الوضع. كما يستقبل الصندوق كل ما يقدّمه الفاعلون وأهالي المنطقة إلى المعتصمين من طعام وشراب.

حزب الله يوجّه رسائل من خلال مسيرة سيّارة

في اليوم التاسع للحراك أي يوم أمس الجمعة 25 تشرين أول 2019 كانت المدينة على موعد مع مسيرة حاشدة لمناصري حزب الله بعد انتهاء أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله من كلمته المتلفزة. وقد بدأ التجهيز لهذه المسيرة منذ الصباح عبر رسائل على واتساب تدعي المؤيدين وجمهور الحزب للخروج في سياراتهم. وقد ورد في إحد الرسائل الداعية إلى هذه المسيرة  “مسيرة سيارة سلمية ضد الفساد وتنديداً بأبواق الفتنة التي تهتف ضد المقاومة وسلاحها وسيدها”. وكان خط سير المسيرة معدّاً مسبقاً من منطقة الحوش إلى الشارع البحري وطريق السوق. وقد جابت مئات السيّارات والدراجات النارية هذه الشوارع رافعة أعلام حزب الله وحركة أمل، تزامناً مع المسيرات التي خرجت من الضاحية الجنوبية في بيروت. غير أنّ المسيرة منعت من الاقتراب من دوّار العلم، خوفاً من أي احتكاك مع الموجودين هناك. وقد أقفل عناصر من الحزب والجيش الطريق المؤدية إلى مكان الاعتصام واستُقدمت تعزيزات أمنية.

ولكن مصادر في حزب الله أكّدت لـ”المفكرة القانونية” أنّ هذه المسيرة  لم يُرَد منها إثارة الشغب أو افتعال إشكال مع المتظاهرين، بل توجيه رسالة بأنّ القاعدة الشعبية للحزب ما زالت كما هي. وقد استمرّت المسيرة على وقع أناشيد حزب الله لأكثر من ساعتين مسببةً زحمة في الطرقات. ولكن أصوات أبواق السيّارات والدراجات النارية لم تستطع أن تغطي على أناشيد وأغاني الثورة التي كانت تعلو في دوّار العلم، على الرغم من قرب المسافة بين الطريق الذي سلكته المسيرة ومكان الاعتصام.

بدت صور يوم أمس تعيش في عالمين مختلفين، ففي الوقت الذي يمضي جزء من أهل المدينة وقتهم في الساحة والاعتصام لإيصال صرختهم ووجعهم، يخرج الجزء الآخر من أبناء هذه المدينة لتجديد الولاء لأحزابه. ويمكن القول إنّ صور عاشت “قطوعاً” كاد أن يسبّب انفجاراً في المنطقة لولا وعي الطرفين للأرضية الجديدة التي ظهرت مع بدء الحراك.

“