سد بلعا يبلع المال العام في قعره المفقود


2022-04-11    |   

سد بلعا يبلع المال العام في قعره المفقود

تمنح تلة سيدة القرن، في أعالي نقطة التقاء بلدتيْ اللقلوق والعاقورة، مشهداً بانورامياً لمحافظتيْ جبل لبنان من ناحية قضاء جبيل، وشمال لبنان من جهة قضاء البترون. من أعلى التلّة، تترامى على الجهتين عشرات البرك الزراعية المتناغمة مع طبيعة المنطقة. في هذه البرك، يُخزّن الأهالي والمزارعون نحو 11 مليون متر مكعب من مياه الأمطار والثلوج والسيول لاستعمالها في ريّ الأراضي في فصل الصيف. هناك تمتدّ كروم التفاح والكرز والجوز والعنب على مدّ النظر، إضافة إلى حقول الخضار على أنواعها ومشاتل الورد. فالسكّان يركنون في عيشهم إلى قطاعيْن منتجيْن: الزراعة كون منطقتهم مصدراً أساسياً لإنتاج الفاكهة والخضار، والسياحة المستندة إلى طبيعتها الخلابة وجبالها المزدانة بالصخور المنتشرة كمنحوتات طبيعية، وكذلك البرك الزراعية التي تكمل مشهديّتها السياحية، إضافة إلى مناخها البارد شتاء ما يوفّر رياضة التزلّج خصوصاً في اللقلوق، والمناسب للاصطياف هرباً من حرّ السّاحل ومدنه.

بين هذه البرك المتآخية مع الطبيعة، يبرز سدّ بلعا كتلة إسمنتية غريبة عن الطبيعة المحيطة، منذ بدء تشييده في 2014 ولغاية توقفه قبل أكثر من عام بسبب الأزمة المالية. هناك استملكت الدولة ممثلة بوزارة الطاقة ما بين 100 إلى 150 ألف متر مربع من الأراضي التي كانت بساتين للأشجار المثمرة لتحفر الأرض وتقيم سداً ببركة، لا يمكن تسميتها بحيرة، تراوح سعتها بين 800 ألف متر مكعّب ومليون متر مكعب، أو مليون و200 ألف متر مكعب، بحسب معلومات وزارة الطاقة التي تتولّى تنفيذه. بدأ تمويل المشروع بـ 26 مليون دولار، وأنفق عليه لغاية بداية الأزمة في نهاية 2019 ما بين 50 مليون دولار، (وفق اعتراف وزارة الطاقة خلال ردّها على مقالة صحافية أشارت إلى أنّ تكلفته بلغت 90 مليون دولار) و100 مليون دولار كما يقول الناشطون البيئيون الرافضون للسدّ ومعهم شخصيات من جرود تنورين والعاقورة، وكما تبيّن المعطيات الميدانية وخصوصاً ردم البواليع وكلفتها.  

ورغم مساوئ الأزمة الاقتصادية الحالية، يعتبر ناشطون بيئيون ومعارضون للسدود أنّ “ربّ ضارّة نافعة” حيث تعجز مؤسسات الدولة اليوم عن استكمال بناء بعض السدود التي خاضوا معارك لإيقافها من دون جدوى، ومن بينها سد بلعا في قضاء البترون وجرده. 

يتسلّح معارضو المشروع بعدم ملاءمة الأرض لبناء سد بلعا، جازمين بتكرار سيناريو سدّي بريصا والمسيلحة وغيرهما من السدود الفاشلة التي كلّفت خزينة الدولة وستكلّف، في حال استكمال تنفيذها كلّها، مليارات الدولارات مع المنشآت والمرافق التابعة لها، من دون أن تجمع المياه المتوقّعة منها. ويطرح هؤلاء أسئلة جوهرية حول الجدوى الاقتصادية من هذه السدود ومن صرف المال العام وحول هدره ومعه المحاسبة، إضافة إلى أثرها على البيئة والمياه الجوفية والسكان ومصادر عيشهم، والمناطق التي تنفّذ في نطاقها تلك السدود.  

كلّ ذلك ووزارة الطاقة لا تطبّق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات رقم 28 في تاريخ 10 شباط 2017، ولا ترد على الكتب المتتالية التي وجهّتها إليها “المفكرة القانونية” في الأشهر الماضية، من حزيران 2021 ولغاية أوائل كانون الأوّل 2021. وقد أفادتنا المستشارة الإعلامية في الوزارة ريتا شاهين أنّه مع استقالة مدير عام الموارد المائية والكهربائية د. فادي قمير، وعدم تعيين مدير جديد “لا يمكن الحديث عن سدّ بلعا أو غيره من السدود”. ولم تُفرج الوزارة عن أيّ من الدراسات التي أشاعتْ أنّها قد أجرتْها حول الجدوى الاقتصادية للسدّ أو حول نوعية التربة والتكوين الجيولوجي لأرضية بركته، فيما ثبت بالدلائل أنّ البدء بدراسة الأثر البيئي، وهو شرط أساسي قبل إقامة أي سدّ، حصل بعد 3 سنوات من بدء تنفيذ المشروع، وفق ما أكد نائب رئيس بلدية شاتين الأسبق د. فادي الشاعر لـ “المفكرة”.

9 سنوات ولم تنته الـ “3 سنوات”

في 16 تشرين الثاني 2012، أعلن وزير الطاقة والمياه الأسبق جبران باسيل خلال توقيع مذكرة تنسيقية بين وزارة الطاقة اللبنانية ووزارة الطاقة الإيرانية لتنفيذ مشروع سدّ بلعا وملحقاته أنّ إيران “ستنتدب شركة تقوم بأعمال التخطيط وتكون مسؤولة عن السدّ، بينما التنفيذ سيكون من خلال شركة لبنانية تلزّمها المشروع الشركة الإيرانية، وتشرف عليه”. وأكد باسيل يومها أنّ تنفيذ السدّ سيستغرق 3 سنوات تبدأ من يوم إطلاق العمل، لافتاً إلى أنّ إيران قدّمت عرضاً لا يمكن رفضه حيث أنّ السعر جيّد جدّاً، ولكن الموضوع بحاجة لاستكمال بعض الأمور. ويومها سوّقت وزارة الطاقة بأنّ سدّ بلعا سيوفّر مياه الشفة بالضخّ والجاذبية للمناطق الواقعة في أعالي قضاء البترون وصولاً إلى وسطه. ولكن وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني أشارتْ خلال زيارتها للسدّ في آب 2019 إلى أنّ مياهه ستغذّي بلدات تنورين وشاتين ودوما في جرد البترون بنحو مليونيْ متر مكعب من المياه، متوقعة الانتهاء منه في 2020. 

هذا في الكلام، أما في الواقع فإنّ السدّ لم يموّل من إيران، وفق ما يؤكّده رئيس بلدية تنورين السابق منير طربيه لـ “المفكرة”، ولم ينتهِ تنفيذه في 3 سنوات، وسط معارضة شديدة تعتمد على معطيات علمية تقول بضرورة وقف المشروع حتى وإن صار في مراحل متقدّمة، لمنع هدر المزيد من الأموال في هذه الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي يرزح تحتها لبنان. فما الذي حصل؟ وما هي الملاحظات الجوهرية على السدّ؟ 

يؤكد طربيه الذي كان رئيس بلدية عند البدء بتنفيذ سدّ بلعا، أنّ بلدية تنورين التي كانت بلعا تقع في نطاقها قبل استحداث بلدة شاتين وضمّ بلعا إليها، اعترضت على التمويل الإيراني للسدّ “خوفاً من العقوبات الدولية على إيران، وكونه تبيّن لنا أنّ الشركة الإيرانية التي قالت إيران إنّها ستتولّى تنفيذ السدّ والإشراف عليه، مدرجة على لائحة الشركات المشمولة بالعقوبات الدولية”. 

ويومها علتْ أصوات سياسية عديدة ترفض التمويل الإيراني للسدّ ومن بينها نوّاب من القوات اللبنانية في المنطقة. وعليه رست الأمور على أن تموّل وزارة الطاقة والمياه السدّ.

نحن نتحدث عن تنورين، البلدة التي تشكل القطب الثاني والأهم في قضاء البترون، بعد عاصمته الساحلية، والتي تتمتع بنحو 200 نبع ماء في أرجائها، بحسب طربيه. وفيها تتمركز شركة تنورين للمياه المعدنية وشعارها الأبرز “الأرز بيشرب تنورين”. فكيف لمنطقة تتمتع بهذه الثروة المائية التي تباع إلى قسم كبير من مواطني لبنان وسكّانه، أن تكون عطشى وبحاجة إلى سدّ يدور حول جدواه جدل علميّ كبير، في ظلّ ارتفاع كلفة المتر المكعب الواحد لتصل إلى 50 أو 100 دولار؟ كون بركة السدّ في حال جمعت ما هو مخطّط لها، فلن تجمع أكثر من مليون متر مكعّب من المياه كما يزعم وزراء الطاقة المتعاقبون. 

لم تعترض بلدية تنورين على التمويل الإيراني فقط، وفق طربيه، بل أيضاً على الموقع المختار للسدّ: “اقترحنا على وزارة الطاقة تنفيذه في الجرد الأعلى أو في تنورين التحتا في مجرى وادي نهر الجوز، ولكن القيّمين على السدّ رفضوا اقتراحنا”. ولم يرغب طربيه في الدخول في السياسة وخصوصاً في المعلومات التي تقول إنّ بلدية تنورين تأثّرت بموقف الوزير والنائب السابق بطرس حرب من السدّ، كونها محسوبة عليه حيث أراد حرب بناء السدّ في جرد تنورين وليس في بلعا. ولكن الوزير جبران باسيل أصرّ على بنائه في بلعا. ويوضح الناشط في مجموعة حراس القمم في العاقورة فراس الهاشم أنّ باسيل لم يرغب في بناء السدّ في الجرد الأعلى لأنّه لا يرغب في رفع سعر الأرض فيها، واختار بلعا لكي يعزّز شعبية التيار في المنطقة وليكون السدّ على مرأى من الكلّ كإنجاز يُعتدّ به، ويعدُ بتنشيط المنطقة اقتصادياً. 

وكان باسيل قد كتب في تغريدة في 28 آب 2019: “متل ما اشتغلنا للبالوع الأوّل وصار مشهور وصاروا زواره كتار، هيك رح نشهر بالوع بلعا ويصير مقصد سياحي قرب سدّ بلعا. بالشغل ومش بالحكي لبنان بيصير كلو سياحة”. وقصد باسيل في تغريدته بالوع بعتارة الشهير ببالوع بلعا، وهو من أشهر المعالم السياحية في المنطقة، ويعود بدخل سياحي ملحوظ على بلدة بلعا والمحيط. مع العلم أنّ بالوع بلعا الأصلي يقع في أسفل السدّ ولم يتمّ تجهيز منطقته لتكون مقصداً سياحياً كما بالوع بعتارة تماشياً مع النية لإنجاز السدّ الذي لم يدرس أحد تأثيره على البالوع والمياه التي تتدفق فيه شتاء وربيعاً وخلال جزء من فصل الصيف. 

ولاقتْ ندى بستاني، باسيل في تأكيده على البعد السياحي والجمالي لسد بلعا في تصريح لها في آب 2019 عينه مؤكدة “أننا حرصنا على أن تترافق عملية بناء سدّ بلعا مع إنشاء طريق دائري حول البحيرة لتمكين أهالي المنطقة والزائرين من التمتع بجمال الموقع وزيارة بالوعيْ بلعا وبعتارة اللذيْن تم تجهيزهما لاستقبال الزوّار”. 

ويبدو التركيز على البعد السياحي للسدّ والوعود بإسهامه في جذب السيّاح وإنعاش المنطقة، جلياً في بلعا التي ارتفعت فيها أسعار الأراضي بشكل جنوني مع بدء استملاكات وزارة الطاقة. ويقول نائب رئيس بلدية شاتين الأسبق فادي الشاعر لـ “المفكرة” إنّ سعر متر الأرض كان بحدود 20 دولاراً مع بدء الاستملاكات، وارتفع اليوم إلى ما يفوق 200 دولار “وما حدا ببيع” بعدما دفعوا في الاستملاكات ما بين 80 إلى 110 دولارات للمتر المربع الواحد. 

وفي ظلّ التوجّه إلى بناء مرافق سياحية في بلعا “طبعاً ما حدا رح يبيع” وفق الشاعر الذي جهز مطعماً مع مسبح كون منزله وأرضه تقعان في نقطة قريبة ومشرفة على بركة السدّ. وكما الشاعر، شرع كثيرون من أبناء شاتين في تنفيذ مشاريع سياحية استعداداً للانتعاش السياحي الموعود. 

فصل شاتين وبلعا عن تنورين للمضي بالسدّ

تخطّت وزارة الطاقة رفض بلدية تنورين لإنشاء السدّ بعد فصل بلدة شاتين ومعها بلعا التي يقع السدّ في نطاقها، واستحداث بلدية شاتين وضمّ بلعا إليها. وهنا يرى المحامي بول حرب، وهو اليوم مسؤول القوات اللبنانية في تنورين، أنّ السلطة عمدت إلى فصل منطقة شاتين ومعها بلعا عن تنورين ليتسنّى لها المضي بالسدّ. وقام حرب بالطعن في إنشاء بلدية شاتين: “أنا ضدّ السدّ ليس لسبب سياسي بل لأنّ أرضه غير صالحة لجمع المياه وعليه نكون أمام هدر للمال العام، عدا عن تشويه المنطقة”، يقول حرب. ويؤكد أنّ “أرض بلعا لن تجمع المياه بسبب تكوينها الكارستي، ونظراً لوجود 22 بالوعاً في موقع بحيرته، عدا عن ارتفاع كلفته 3 أضعاف على الأقلّ عمّا أُعلن عنه”، كما يقول. 

ويرى المحامي حرب أنّهم “أنشأوا بلدية شاتين بدهاء سياسي ولـ 3 أهداف: 1- لينالوا موافقة على السدّ، 2- لسلخ شاتين عن تنورين وتفكيك مكوّنات الأخيرة بعد فصل شاتين وبلعا عنها تمهيداً لفصل بقية مكوّناتها مثل وطى حوب ووادي تنورين وغيرهما، وبالتالي إضعافها، 3- خلق بلدية إضافية تشكل صوتاً موالياً لهم في انتخابات اتحاد بلديات تنورين التي غالباً ما يفصل الخاسر والرابح فيها صوت واحد”. 

وفي 2016، أصدر مجلس شورى الدولة قراره بقبول الطعن وإبطال قرار إنشاء بلدية شاتين. وقبل تنفيذ حكم مجلس شورى الدولة، أصدر رئيس الجمهورية ميشال عون، وفق حرب، “مرسوماً جمهورياً يقضي بتعديل المرسوم الصادر في العام  1928، والذي أنشأ البلديات والقرى. ووفق المرسوم يحقّ للبلدات والقرى المدرجة أسماؤها ضمن المرسوم 1928 التقدّم بطلب لإنشاء بلدية. وتمّ تعديل المرسوم بطريقة أعيد فيها تسمية بلدية تنورين كبلدية مؤلّفة من بلدية تنورين ووطى حوب وشاتين إلى بلدية تنورين ووطى حوب فقط، أي أنّه تمّ حذف شاتين من مكوّنات تنورين”. على هذا الأساس، يضيف حرب: و”بناء على تعديل الرئيس عون للمرسوم، عاد وزير الداخلية نهاد المشنوق حينذاك، وأصدر قراراً بإنشاء بلدية شاتين وتضمّ بلعا”. عاد حرب وطعن مجدّداً بالمرسوم الجمهوري وقرار المشنوق معاً في 2016 “أي مباشرة بعد قبول شورى الدولة بالطعن، بمشاركة ابن شاتين المحامي بشارة طربيه”. وركز حرب في طعنه على نقطة أساسية تتعلق بأنّه “عند إنشاء بلدية جديدة يجب تقديم طلب بذلك من قبل أهل البلدة المعنية بالبلدية، بينما خلا قرار إنشاء البلدية في المرة الثانية من أي طلب من أبناء شاتين، مما يجعل القرار باطلاً”. ولم يصدر حتى الآن قرار من مجلس شورى الدولة بخصوص الطعن.

دراسة الأثر البيئي بعد 3 سنوات على مباشرة بناء السدّ

عبرت مسيرة بناء سدّ بلعا بسلسلة عقبات تجلّت بداية باعتراض وزارة البيئة على عدم وجود دراسة الأثر البيئي التي تشكّل ألف باء بناء أي سدّ مع دراسة التربة والتكوين الجيولوجي للأرض. ويقول رئيس الحركة البيئية بول أبي راشد لـ “المفكرة” إنّ الحركة أرسلت كتاباً إلى وزارة البيئة مع بدء حفريات سدّ بلعا في 2014 تلفت نظرها فيه إلى عدم وجود دراسة أثر بيئي. فأرسل وزير البيئة آنذاك محمد المشنوق كتاباً إلى وزارة الطاقة يطلب فيها إيقاف العمل بسدّ بلعا إلى حين إنجاز دراسة أثر بيئي تؤكّد إمكانية المضيّ فيه. لكن وزارة الطاقة “تمرّدت على قرار وزير البيئة ولم توقف بناء السدّ”، على حد تعبير رئيس الحركة البيئية.

المفارقة أنّه في العام 2017، أي بعد ثلاث سنوات على المباشرة ببناء السدّ، حضر فريق مكلّف من وزارة الطاقة واجتمع مع بعض سكان منطقة بلعا وشاتين، وفق ما يؤكده نائب رئيس بلدية شاتين السابق الشاعر لـ “المفكرة”: “قالوا لنا حينها إنّهم يقومون بدراسة الأثر البيئي والاجتماعي للسد”. يومها قال لهم أحد أبناء بلعا “يطعمكم الحج والناس راجعة”، في إشارة إلى ضرورة إنجاز دراسة الأثر البيئي قبل البدء بالسدّ وليس بعده بـ 3 سنوات”. ويصرّ الشاعر على عدم معارضته السدّ “ولكن نحن نعترض على دفع المال العام من دون إجراء الدراسات الضرورية للتأكّد من جدواه ونجاحه”. 

عندما تسأل أعضاء مجلس البلدية المنحلّة السابقة في شاتين، والتي تضم سدّ بلعا في نطاقها، عن الدراسات والمستندات التي قُدّمت إلى البلدية حول السدّ، لا تجد أجوبة شافية أو أيّة أوراق تخصّ السدّ. فرئيس البلدية سركيس روكز خارج لبنان، فيما يشير الرئيس الأول للبلدية بعد إنشائها في 2012 سمير سعد غوش لـ “لمفكرة” إلى أنّ موضوع السدّ “هو شأن وزارة الطاقة وليس للبلدية حق رفض السدّ أو الموافقة عليه”. ويؤكّد هذا الأمر عضو بلدية شاتين المنحلّة اليوم جاد يوسف لـ “المفكرة” بقوله “استلمنا بلدية ما فيها مستندات أو أرشيف وليس لدينا أيّة أوراق تتعلق بالسد”. 

“بلعا يعني بالوع يعني ما بتخزّن مي”

يقف المهندس الدكتور نزار يونس على شرفة منزل ابنته في شاتين وخلفه صخور تغطي جبال منطقة بلعا وشاتين، ليقول إنّ تركيبة الأرض الصخرية الكارستية في المنطقة لا تسمح ببناء السدود: “هناك قشرة ترابية تغطي الصخور الكارستية في بعض الأماكن، وهناك صخور غير مغطاة بأي شيء، وهذه طبيعة الأرض هنا، وموقع سد بلعا منها”. يقول المهندس نزار يونس إنّ اسم بلعا بالأساس أتى من البواليع، “وهي مداخن كبيرة تسرّب المياه إلى باطن الأرض، وهي موجودة في معظم الأماكن بتركيبة صخرية كارستية منخورة كقالب الجبنة، وعليه، ليست صالحة إطلاقاً لإنشاء السدود وبحيراتها، وهذه البواليع موجودة بكثرة في موقع سدّ بلعا”. وبعد أن يؤكّد أنّه أبلغ هذا الكلام إلى الوزير جبران باسيل عندما طلب منه مرافقته إلى موقع سدّ بلعا، يرى يونس أنّه “حتى لو تمّت معالجة الأرض والبواليع بصبّ الباطون-الإسمنت، كما فعلوا، ولو سكروا مئة بالوع، هناك شيء اسمه سيفون سيفتح عندما تتجمّع المياه فوقه، وستتسرّب المياه وتذهب، ونكون قد هدرنا المال العام”.  

ويؤكّد أنّ كلّ السدود الجبلية “فاشلة من أساسه ونحن في لبنان لسنا بحاجة إليها”، معتبراً أنّ الإصرار على بناء سدود جبلية في طبيعة مشابهة لطبيعة لبنان، ومن بينها سدّ بلعا، هو ضدّ المنطق والعلم والتاريخ والجغرافية وضدّ البيئة والاقتصاد وضدّ كل شيء”. ويعطي مثالاً عن كلّ السدود التي أنشئت في لبنان وبكلفة مليارات الدولارات “بس ما في سدّ نجح إلّا نصف نجاح، في سدّ شبروح وهو يعمل جزئياً اليوم ولا نعرف متى يتوقف”.

وطبيعة الأرض التي لا تسمح بتخزين المياه هي بعدٌ آخر لمعارضة بلدية تنورين سدّ بلعا والذي يشير إليه رئيس البلدية السابق الدكتور منير طربيه: “يقولون إنّهم جاؤوا بخبراء ومكاتب، ونحن نعرف أنّهم لا يتعاملون إلّا مع من يقولون لهم ما يريدون سماعه، أي غبّ الطلب”. ويضيف “بلعا يعني بواليع يعني ما بتجمّع مي، بس ما حدا بدّه يقتنع”.  

يروي ابن تنورين المحامي بول حرب أنّ شقيقه المختصّ في هندسة حركة الأرض جوزف حرب: “يعمل في شركة “هيدرو كيبيك”، وهي من كبرى شركات تشييد السدود وإنتاج الطاقة الكهرومائية، وقصد الوزير جبران باسيل وأخبره أنّ طبيعة الأرض غير مناسبة، واقترح عليه مكاناً آخر في وادي نهر الجوز في تنورين التحتا ولكنه لم يأخذ برأيه”. 

ويتذكّر حرب أنّه عندما كان عمّه رئيساً لبلدية تنورين أخبره الأهالي أنّ “شجرة جوز ضخمة قد غارت في الأرض، يعني بلعتها الأرض”، ويومها ذهب حرب مع عمّه إلى المكان وشاهدا كيف أنّ الأرض ابتعلت شجرة ضخمة بسبب وجود البواليع الكبيرة فيها، ليتساءل “كيف بدهم يعملوا سدّ في أرض مماثلة ومفكّرين رح تجمّع مي؟”

ويروي الرئيس الأسبق لبلدية شاتين سمير سعد غوش لـ “المفكرة” عمّا حصل أمامه في السبعينيات عندما نزل خبراء مياه بالحبال ومعهم مراكب مطاطية إلى بالوع بعتارة وأبحروا فوق المياه لمسافة مائتي متر من البالوع تحت الصخور نحو منطقة السدّ اليوم “يعني جوّا الأرض في بحيرة مياه وخزان جوفي كتير كبير، وفي فراغات”. ولكن مع الوقت، وفق غوش” ظهرت البواليع في الأرض”، ليتساءل إن كانت وزارة الطاقة قد أنجزت دراسة فنية للتأكد من مدى تناسب طبيعة الأرض لبناء سد”، مشيراً إلى أنّ سعة السدّ تقلصت بعد ردم البواليع ومعالجة الأرض من مليون و300 ألف متر مكعب إلى نحو 800 ألف متر مكعب”. ويقول غوش إنّ شاتين رحّبت بالسدّ عند إقراره طمعاً بتوفير المياه، وأنّ الاعتراضات حصلتْ على خلفية الاستملاكات ولكنّ الدولة استدركت الأمر ودفعت ثمناً جيداً بالمتر المربع من الأرض بلغ 100 دولار كمعدل وسطي واستملكت نحو 150 ألف متر مربع”.  

مائة مليون دولار لمليون متر مكعّب من المياه 

كان من المفترض أن يكلّف سد بلعا بين 18 و26 مليون دولار كحد أقصى، لكن حتى العام 2019 أنفق على السدّ نحو 70 مليون دولار، وفق ما يؤكّد لـ “المفكرة” مصدر رسمي متابع لأعمال إنشاء السدّ يخشى ذكر اسمه تجنّباً لفقدان وظيفته. 

يقول المصدر: “لا يوجد منطق اقتصادي في دفع هذا المبلغ على سدّ يُجمّع 800 ألف متر مكعب من المياه والمفارقة أنّهم خربوا الأراضي التي من المفترض أن يرويها، ولم ينتهِ السد بعد”. 

هذا عدا عن كلفة ردم البواليع حيث ينقل عاملون في المشروع أنّ الشركة المنفّذة وضعت في أحد البواليع 10 آلاف متر مكعّب من الباطون لتسكيره “ومع ذلك اختفى كلّ الباطون”. ويؤكّد متعهّد بناء لـ”المفكرة” أنّ سعر المتر المكعب من الباطون من النوعية الجيدة كان يبلغ عند ردم بواليع سدّ بلعا وقبل الأزمة الاقتصادية نحو 90 إلى 100 دولار من ضمنها تكلفة نقله وحقنه في الفجوات، ممّا يعني أنهم حقنوا في بالوع واحد ما قيمته مليون دولار يومها من الباطون “وقس على 25 بالوعاً”. وكان شاهد من شاتين، أكّد أنه وثق بعينه ظهور 22 بالوعاً على الأقل “عديتها وشفتها واحد واحد”.

هذا الكلام يربطه المصدر الرسمي بما حصل في العام 1994: “يومها وضعوا تلوينة في أحد بواليع منطقة بلعا فظهرت في نبع دَلّي في منطقة كفرحلدا في جرد البترون المنخفض، بينما تقع بلعا في الجرد العالي على حدود تنورين، وهذا الأمر يؤكد اتصال المجاري الجوفية ببعضها”. ويقول أحد أبناء شاتين إنّ الأمر نفسه حصل مع الباطون حيث “ظهرت تعكيرة الماء بالباطون في النبع نفسه”، ليقول “حدا بيردم بواليع ذات قعر مفقود؟” القعر المفقود عينه يوثقه ابن شاتين، الشاهد على أعمال السد “نحنا منحفر جور صحية بتطلع ذات قعر مفقود، كل الناس العاديين بيعرفوا إنّه المنطقة كلها بواليع، فكيف لم تدرس وزارة الطاقة نوعية التربة وتكوينها الجيوهيدرولوجي؟”، ليسأل عن تأثير السدّ عند تسكير كلّ منافذ أرضيته على الينابيع الجوفية في كل منطقة تنورين ووسط البترون، ومنها بالوع بلعا الأساسي الذي يقع في أسفل السدّ، ليؤكّد أنّ أهمية دراسة الأثر البيئي التي لم تُنجز قبل المشروع تكمن في هذه المخاوف كلّها. 

بعد فشل محاولة ردم البواليع بالباطون، انتقل منفذو المشروع إلى الخطة “ب”، وهي تقضي بردم البواليع بالصخر، مشيرين إلى حاجتهم إلى نحو مليون متر مكعب من الصخر. ووفق أحد العاملين في الصخر، كان سعر المتر المكعب المستخرج من الأرض يومها (عند ردم البواليع) يبلغ نحو 20 دولاراً من ضمنها كلفة نقله من مكان قريب، مما يعني أنّ كلفة السد سترتفع 20 مليون دولار إضافية. وحاول منفذو المشروع، الحصول على الصخر من منطقة عين الدب في جرد العاقورة، “وهي عامرة باللزاب على ارتفاع 2300 متر عن سطح البحر، ومصدر المياه الجوفية في المنطقة، وفق ما قاله الناشط وعضو مجموعة حراس قمم العاقورة فراس الهاشم لـ “المفكرة”. وبعدما عقدوا اتفاقاً مع رئيس بلدية العاقورة، قام “حراس القمم” في المنطقة وبالتعاون مع ناشطين بيئيين بإسقاط الاتفاق متسلّحين بتصنيف عين الدب من الحمى الطبيعية في لبنان، وفق الخطة الشاملة لترتيب الأراضي.

بعدها انتقل منفذو السد إلى تنورين وعقدوا اتفاقاً مع بلديتها يقضي باستخراج الصخر من منطقة البليطة، وهي مصنفة أيضاً حمى طبيعية وفق الخطة نفسها، وغنية باللزاب والصخور. وقام أعضاء لجنة البيئة في تنورين ومعهم مجموعة حراس القمم في المنطقة بإسقاط الاتفاق أيضاً، حسب ما أكده عضو اللجنة وحراس القمم سايد فاضل لـ “المفكرة”.

مليون متر مكعب من المياه أو 800 ألف متر مكعب سعة سد بكلفة لامست 90 إلى 100 مليون دولار، تثير احتجاج رئيس الحركة البيئية بول أبي راشد “نحن هنا أمام كلفة ضخمة ومضخّمة للمتر المكعب من المياه، خصوصاً وأنّ منطقة اللقلوق وجرد تنورين عامرة بالبرك الزراعية لتخزين المياه السطحية، وبكلفة أقل بكثير من كلفة بناء سدّ بلعا”. ويصف أبي راشد ما حصل ويحصل في بلعا بـ “الفضيحة، والخطأ الفادح”.

البرك الزراعية خزانات من دون كلفة 

في جولة مع المهندس الدكتور نزار يونس بين ست بحيرات زراعية حفرها في مزرعته في منطقة عين الحفة في أعالي شاتين وبالتحديد في التلة المشرفة على موقع سدّ بلعا، يؤكد يونس أنّ السدود في لبنان هدر كبير للمال وأنّها تؤذي علاوة على ذلك البيئة وتشوّهها. ويشير إلى أنّ بحيراته الست تجمع مليون متر مكعب في السنة بكلفة لا تتخطّى الدولار الواحد للمتر المكعب من الماء “ويمكننا أن نروي بمياهها 250 هكتاراً ونحن لا نروي، أنا وجيراني من الأهالي، سوى 150 هكتاراً لأننا لا نستعمل دائماَ وسائل حديثة للري”. ويشير يونس إلى انتشار البرك الزراعية في مختلف أنحاء منطقة جرد تنورين واللقلوق والعاقورة “وهي تجمع المياه ولا يمكن مقارنة كلفتها مع كلفة السدود”. وبعدما يؤكد أنّ البحيرات الزراعية الجبلية ليست اختراعاً جديداً، يعطي مثالاً عن جارة لبنان قبرص التي تعتمد على البحيرات الزراعية، مشيراً إلى أنّها دشّنت البركة الزراعية الرقم 1000 قبل عشر سنوات “وهي تخزّن مليار متر مكعب من المياه عبر البحيرات وبكلفة لا تتجاوز الدولار الواحد لكلّ متر مكعب من المياه”. ويشير إلى أنّ لبنان يدفع من 20 إلى 50 دولاراً وما فوق كلفة المتر المكعب الواحد من المياه، وفق الأكلاف المرتفعة للسدود، ليستنتج أنّ “السدود هي اختراع لأناس يفتقرون للعلم والفن والهندسة والمنطق، فحتى لو سلّمنا جدلاً أنّ كلفة سدّ بلعا لم تتخطّ 50 مليون دولار كما يقولون، فإننّا ندفع 50 دولاراً للمتر المكعّب هذا في حال جمع السد المياه لكنه لن يجمع”. ويلفت يونس إلى فرق أساسي بين السدود والبرك الزراعية يتمثل بتشويه الأولى (أي السدود) للبيئة والطبيعة بكلفة كبيرة جداً، بينما تتواءم البحيرات الزراعية مع طبيعة الأرض وتمنحها جمالاً وهذا واضح للناظر من أعالي المنطقة إلى جمال بحيراتها وبركها الزراعية”. وبالإضافة إلى تناغم البحيرات الزراعية مع طبيعة الأرض، يلفت يونس إلى إمكانية “استغلال كل شبر من الأرض من حول البرك الزراعية وزراعتها بعكس السدود التي تتحول إلى كتل ضخمة من الإنشاءات والإسمنت قاضية على فرص الزراعة في أرجائها ومحيطها”.   

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، تحقيقات ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، الحق في الحياة ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني