في اليوم الثاني من جلسة الهيئة العامة في مجلس النواب اللبناني، تم طرح اقتراح القانون الرامي إلى تعديل آلية المناقلات القضائية (المادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي) على النقاش العام. وفور ذكر رئيس المجلس النيابي نبيه بري لهذا الإقتراح، طلب رئيس الحكومة سعد الحريري الكلام عارضاً أن تستعيد الحكومة الإقتراح لدراسته. وللتذكير، كان النائب روبير غانم تقدّم باقتراح القانون المذكور بالتنسيق مع رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد الذي سعى من خلاله إلى تعزيز صلاحيات المجلس فيما يتصل بالمناقلات القضائية. ويلحظ أنه تم اقتطاع هذا الإقتراح من مسودة مشروع قانون كان وضعها الوزير شكيب قرطباوي في 2012 لتعزيز استقلال القضاء[1]. وعملت “المفكرة” على تفنيد الإقتراح في نصه الأصلي[2] وفي نصه المعدل[3] من قبل لجنة الإدارة والعدل معتبرة أن هذا الإقتراح يهدف إلى إعادة تقاسم النفوذ في القضاء بمنأى عن المعايير الدولية التي ترعى مسألة المناقلات القضائية، وفي مقدمتها مبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه.
وقبل أن يدلي النواب دلوهم في هذا الشأن، سارع الرئيس بري إلى إعلان تأييده للإقتراح. “لا خوف على البلد إذا كان هناك قضاء مستقل. لبنان وضعه أحسن من بقية الدول واقتراح القانون يغطي شي (يقدم حلولا) بعد فشل محاولات من حكومة تمّام بك (رئيس الوزراء السابق تمام سلام) للقيام بتشكيلات لو جزئية ولو لتعيين 20 إلى 30 أو 50 قاضياً. عدة مرات كانت هناك محاولات لتشكيلات ويقع الخلاف حول ثلاثة أو أربعة قضاة فيتوقف الأمر…”. وتمنى تحديد مهلة محددة لإصدار مرسوم المناقلات قائلا “ما بدنا نرجع لورا”. ويذكر أن مجلس القضاء الأعلى بكامل أعضائه كان زار رئيس مجلس النواب في 4 كانون الثاني 2017 لتهنئته بالأعياد، وذلك للمرة الأولى في تاريخه، وعلى نحو يناقض الأعراف المعتمدة في هذا الخصوص.
التعليق الأول صدر عن رئيس الحكومة سعد الحريري: “هل معقول شهران؟”. وهو يقصد إعطاء الحكومة شهرين لدرس الموضوع. ثم تحدث وزير العدل سليم جريصاتي متفهماً حرص رئيس مجلس النواب على استقلالية القضاء. وقال:”هذا الأمر أساسي. والدستور نص على ذلك. فالقاضي مستقل بنفسه ولا أحد يستطيع التأثير عليه أو على عمله. الإستقلالية بالنص المعروضة علينا اليوم، هي استقلالية مستقاة من نصّ شامل قام به وزير العدل السابق (شكيب قرطباوي). أخذنا منه فقرة إسمها استقلالية بموضوع التعينات القضائية أي المناقلات الشاملة أو الجزئية، بحيث إلتغى بنتيجته دور المرسوم (في إشارة منه إلى احتمال نفاذ التشكيلات من دون صدور مرسوم). المرسوم العام بعد الطائف الذي ترك فسحة قليلة لرئيس الجمهورية كي يمارس رقابته بفعل قسمه وفسحة أخرى برسم رئيس الحكومة كي يمارس سلطته الإجرائية على رأس السلطة الإجرائية والتي يكون وزير العدل رأس حربة في هذا المجال. النتيجة اليوم لا يمكن الموافقة عليها في ظل دستور الطائف. أما أن ندرس تعزيز الإستقلالية فسوف ندرس الأمر ضمن الحكومة خلال مهلة شهرين”.
على أن طلب الإمهال الذي تقدمت به الحكومة كان محط اعتراض رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب روبير غانم الذي لم يتوانَ عن التلميح إلى الفساد الحاصل في القضاء اليوم. قال: “القانون الحالي المعمول به اليوم منذ سنة 2001 المادة 5 تقول الكلمة الفصل في التشكيلات القضائية هي لمجلس القضاء الاعلى. ولكن ماذا حصل؟ لقد تم ربط هذه المادة ببند ثانٍ مفاده أنه تصدر التشكيلات بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل. ولكن ماذا يحصل إذا وزير العدل غير موافق أو لديه أناس يريد تأمينهم بمراكز معينة؟ عندها وزير العدل يعرقل الإجراءات مثلما حصل، فتوقفت التشكيلات القضائية[4] على مدى سنتين ونصف. يقومون بإنتدبات قضائية في كل المحافظات. قاضٍ يكون بصدد القيام بعمل ما، فينتدبونه لعمل آخر، فلا يقوم بعمله ولا بالعمل الآخر ومن وقتها لم يحصل تشكيلات”. تابع:” نحن لا نقلل من صلاحيات مجلس الوزراء. فهو الذي يقوم بالتعيين في مجلس القضاء الأعلى وهو الذي يقوم بتعيين الرئيس والمدعي العام ورؤساء محاكم التنفيذ الخ …لكن ما نقوله أنه إذا اختلف وزير مع مجلس القضاء الأعلى واستمر الخلاف شهراً بينهما. عندها يجتمع مجلس القضاء ويأخذ قراراً ب3/4 الأصوات بالموافقة على التشكيلات ولا يكون ذلك من رأسه وانما تنفذ التشكيلات إلى حين صدور مرسوم”.
واستطرد غانم عارضاً لما يحصل اليوم وقال:”اليوم يأتي قاضي محسوب على أحد، يوقف التشكيلات كلها. فهل يعقل ذلك؟” و”بعدين معليش اليوم ما فيك تقول أنا مع الحق لأن هذه قضية محقة”، اليوم أنت تقول “روحو شوفو فلان زلمة فلان حتى يظبطلك ياها، يعني بتدفع مصاري لسماسرة معينين بالعدلية يؤمنون لبعض القضاة”. واستدرك غانم قائلا أنه لا يحاول الإساءة إلى كل القضاء في لبنان. ف “لا يزال هناك قضاة نزيهون ونحترمهم لكن القضاء بات فاسداً. كلنا نعلم هذا الأمر ولنسأل أي مواطن لبناني فيقول لك “مافي قضاء”.نحن اليوم إذا أردنا تأجيل هذا الموضوع فنحن نعطي دلائل غير جيدة عن مجلس النواب”.وختم بالقول:”عندما يكون قد مضى على القاضي سبع سنوات بمركزه، تكون المداورة إلزامية والباقي يعتمد على معايير الإنتاجية والكفاءة… الخ”.
فرد الحريري على غانم عازياً الفساد في القضاء لتراكمات المرحلة السابقة والإنقسامات الحاصلة في البلد مؤكداً ألا عودة الى الوراء. وقال:” المرحلة السابقة لن نعود إليها .الانقسام الذي حصل في البلد هو الذي كلفنا ليس في القضاء وحسب وانما بالاقتصاد والادارة والموازنات، لذلك لا يعني الذي حصل في السابق أنه صح. لكن الذي يحصل اليوم اننا نطلب دراسة هذا الموضوع ونعطي فرصة ليكون هناك استقلالية فعلية للقضاء”. أضاف:”إن المبدأ هو أن مجلس القضاء الأعلى يقدم اقتراحاته، والوزير يوافق على هذه الإقتراحات. في السابق كان يحتاج إلى 24 إمضاء. اليوم لا يوجد هذا الامر فقط هناك رئيس مجلس الوزراء والوزير وفخامة رئيس الجمهورية ما يعني أن الأمور اليوم باتت مختلفة. لذلك كل ما نطلبه هو إعطاؤنا شهرين فرصة لدراسة الإقتراح ونعود اليكم”. وهنا تدخل النائب أنور الخليل معترضاً على “مقولة أن القضاء فاسد” والتي وردت على لسان النائب غانم. فرد عليه الرئيس بري:”لا، لا ما قال هيك”.
بدوره وافق عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب نواف الموسوي على ما جاء على لسان الحريري واعتبر أن “ما جرى في السابق هو تبعا لسلوكيات سياسية في المرحلة الماضية”، ووافق على طلب الحكومة. لافتاً إلى أن “اللجنة عملت بجهد على الإقتراح”. وقد أكد الموسوي أن “النص لا يكفل استقلال القضاء لأن مجلس القضاء الأعلى 80 % منه معيّن وليس منتخباً من القضاء”. معتبراً أنه “اذا أردنا الذهاب إلى استقلالية القضاء يا دولة الرئيس كما نص الدستور عليها، علينا التوجه نحو أن يكون مجلس القضاء الأعلى منتخباً من قبل القضاة وبعيدا عن السلطة السياسية”. فجاء تعليق بري عليه:”عشت انشاء الله”، بما يعني أن هذا المطلب بعيد المنال.
بدوره عبر النائب بطرس حرب عن خشيته من أن يبقى القانون كما هو وتجري التشكيلات القضائية في ظل هذا القانون. وقال:”هذا الإقتراح يحصن القضاء اذا كانت الحكومة تحتاج شهرين لدراسة هذا الاقتراح، أنا موافق شرط ألا تجري التشكيلات القضائية قبل ذلك”. فرد الرئيس بري:”أنا أجيبك: التشكيلات القضائية يجري درسها”. فتابع حرب سائلاً من باب التشكيك عما إذا “كانت التشكيلات التي يتم درسها ستؤخذ بقرار من المجلس الاعلى للقضاء خصوصاً بما يتعلق بالنيابة العامة وقضاة التحقيق؟”.
وهنا تدخل النائب جورج عدوان قائلاً: “يجب أن نقسم بين الناحية القانونية والناحية الدستورية. فمن الناحية الدستورية، أوافق على ما قاله وزير العدل لجهة أنه لا يمكن أن نأتي بقوانين تتعارض مع الدستور واتفاق الطائف. هنالك مشكلتان وليس مشكلة واحدة. فهناك مشكلة الوزراء الذين يأتون ويتدخلون في القضاء، وهناك مشكلة على مستوى مجلس القضاء الذي يا ما تحكّموا فيه وكيف يقومون بمناقلاتهم وكل قاضٍ محسوب على أحد في مجلس القضاء”. هنا اعترض الرئيس بري مدافعا عن مجلس القضاء الأعلى وطالباً شطب بعض العبارات مؤكداً “في لبنان في قضاة”.
فتابع عدوان: “في قضاة بمجلس القضاء لديهم محسوبون من القضاة يضعونهم مكان ما بدهم وأنا اتحمّل مسؤولية كلامي. لذلك نأمل من الحكومة ووزير العدل أن يتقدموا بنظرة شاملة لمعالجة الموضوع كله”.
وفي ختام المناقشات، أعطيت الحكومة مهلة الشهرين التي طلبها الرئيس الحريري. وهي فترة ثمينة ستبادر خلالها المفكرة القانونية إلى طرح مشروعها بشأن المناقلات القضائية وتكوين مجلس القضاء الأعلى.
[1] “المفكرة القانونية وضعت ملاحظاتها على مشروع تعديل قانون القضاء العدلي في لبنان(2012): أي منهجية للإصلاح القضائي؟وأي أولويّات؟”، المفكرة القانونية، العدد 5 تموز 2012.
[2] المرصد المدني لاستقلالية القضاء وشفافيته، نقل القضاة وفق معايير موضوعية؟، المفكرة القانونية، العدد 33، كانون الأول 2015.
[3] المرصد المدني لاستقلالية القضاء وشفافيته، “هامش المساومة على المناصب القضائيّة يتوسع”، المفكرة القانونية، العدد 38 نيسان 2016.
[4] نزار صاغية. مفاعيل مسكوتٌ عنها للمناقلات القضائية المُجهضَة: براثن السيّاسة في قلب كلّ قاضٍ. المفكرة القانونية، العدد 44، تشرين الأول 2016.