حِكمة “استئناف بيروت” في حماية تحقيقات المرفأ: لا يجوز ممارسة حق الدفاع تعسّفاً

،
2021-10-07    |   

حِكمة “استئناف بيروت” في حماية تحقيقات المرفأ: لا يجوز ممارسة حق الدفاع تعسّفاً

أصدرت محكمة استئناف بيروت بتاريخ 4/10/2021 قراريْن برد طلبيْ الردّ المقدّمين ضدّ المحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق بيطار. وكان النوّاب نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل تقدّموا بتاريخ 24/9/2021 بهذيْن الطلبيْن، بهدف وقف التحقيقات في القضية المذكورة تبعاً لسقوط حصاناتِهم النيابية[1]، وبالأخصّ بهدف التحرّر من دعوتهم للاستجواب في مواعيد حُدّدت في آخر الأسبوع الماضي. ويلحظ أنّ محكمة الاستئناف ردّت الطلبيْن خلال أقل من 10 أيام من تقديمهما، معلّلة إسراعها في ذلك بالنتائج الوخيمة التي قد تنشأ عن وقف التحقيق في هذه الجريمة “الصادمة” للمجتمع، وبخاصّة في ظلّ بداهة عدم اختصاص المحكمة للنظر فيهما. وبذلك تكون المحكمة قد عطّلت ليس فقط تعسّف هؤلاء النوّاب إنّما في الآن نفسه احتمال تقديم طلبات تعسّفية مشابهة مستقبلاً من أيّ كان. وتجدر الإشارة إلى أنّ محكمة الاستئناف قد ركّزت على التعسّف المُرتكب من المدّعين من خلال تغريمهم بغرامات مالية بحدّها الأقصى المسموح به قانوناً وفق المادة 127 من قانون أصول المحاكمات المدنية.

وقبل المضي في استعراض أهم الملاحظات على هذين القراريْن، تجدر الإشارة إلى أنّهما صدرا عن الغرفة الثانية عشرة (المكوّنة من رئيسها نسيب إيليا ومستشاريْها روزين حجيلي ومريام شمس الدين) وأنّ المحقق العدلي بيطار استعاد ملكة التحقيق فور صدورهما بعد انقطاع دام زهاء أسبوع.

 

تأكيد عدم الاختصاص

أكّدت محكمة الاستئناف عدم اختصاصها النوعي للنظر في طلبات ردّ المحقق العدلي. وللتذكير، كانت”المفكرة القانونية” أوّل من أكّد على عدم اختصاص المحكمة انسجاماً مع القراريْن الصادريْن عن المحكمة ذاتها في سنة 2007 في قضيّة اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وقد أكّدت المحكمة للوصول إلى هذه النتيجة أنّ القانون خلا من أيّ نصّ صريح يولي محكمة الاستئناف النظر في طلب ردّ أو تنحّي المحقّق العدلي، وأنّه لا يعود لهذه المحكمة أن تملأ الفراغ التشريعي لتحديد من تعود إليه صلاحية النظر في هذه الطلبات. وللوصول إلى هذه النتيجة، ذكّرت المحكمة أنّ المحقّق العدلي وبخلاف قاضي التحقيق، لا يتبع لمحكمة الاستئناف، بل هو “جزء من المجلس العدلي، الهيئة القضائية الاستثنائية” وأنّ أداءه عمله في قصر عدل بيروت لا يغيّر من هذه النتيجة.

 

حِكمة المحكمة واجتهادها لمنع عرقلة التحقيق

لم يكن التحدّي الوحيد المطروح أمام المحكمة هو بتّ الطلبات المقدّمة بإعلان عدم اختصاصها. التحدّي الأكبر أمامها تمثّل في سرعة البتّ بهما، منعا لعرقلة التحقيق لآمادٍ طويلة قد تؤثر عليه وتمنع استكماله بصورة صحيحة، والأهمّ منعاً لتقديم طلبات تعسّفية مماثلة من أفرقاء آخرين لتحقيق الهدف نفسه. ولهذه الغاية، قرّرت المحكمة إعلان عدم اختصاصها من دون مزيد من الانتظار بعدما دوّنت تقاعس الجهة المدّعية عن تحديد أسماء الجهات الواجب إبلاغها الدعوى (المدّعون والمدعى عليهم) وأيضاً تقاعس قلم المحقّق العدلي عن إعطاء لائحة بهذه الأسماء ضمن المهل المحدّدة لها (24 ساعة). لا بل عاتبت قلمها ضمناً في متن قرارها لتبليغه المحقّق العدلي بيطار طلب الردّ المقدّم من المشنوق خلافاً لتعليماتِها، وهو الأمر الذي أدى إلى وقف بيطار عمله طوال أسبوع. ويفهم من هذه المعاتبة أنّها كانت تعتزم ردّ طلبيْ الرد لعدم الاختصاص من دون إبلاغ المحقق العدلي، أي من دون تعطيل التحقيق ولو ليوم واحد. وهي بذلك وجّهت رسالة، من خلال حكمها، مفادها تعطيل أي مفعول لطلبات الردّ التعسّفية التي قد يرغب أيّ من المعنيين بالملف تقديمها أمامها لاحقاً طالما أنّها ستجد المصير نفسه من دون أن يتمّ حتى إبلاغها للمحقّق العدلي، أي من دون أن تعطّل عمله ولو ليوم واحد.

ولتبرِير قصر المهل التي فرضتها وإسراعِها في بتّ طلبيْ الردّ، أسهبت المحكمة في تبيان النتائج الوخيمة التي قد يسفر عنها طلب ردّ القضاة عموماً وبخاصّة في قضية صادمة كقضية المرفأ.

وعليه، دوّنت حرفياً في الحكم بما يتّصل بوجوب رد طلبات الرد بسرعة: “أنّه بالنظر لتداعيات ذلك الطلب على القضية بشكل عامّ وما قد يتأتّى عنها من تأخير في البتّ فيها وما قد يستتبع ذلك من تأثير معنويّ على القاضي وعلى الخصوم فيها… درجت المحاكم الناظرة بطلبات ردّ القاضية على البتّ بها في أقرب زمن…”.

كما دوّنت بما يتّصل بخطورة أي تأخير في البتّ في قضية المرفأ: “وحيث أنّ ثمة خصوصية في القضايا المحالة إلى المجلس العدلي وهو محكمة جزائية استثنائية .. توجب الإسراع في البت في أي مسألة قد تعرض أمام المحقق العدلي … أو أمام المجلس العدلي … باعتبار أنّ للجرائم المُحالة على المجلس العدلي لها تأثير صادم على المجتمع عموماً في البلاد إن للناحية الاجتماعية أو الاقتصادية ما استوجب بالنظر لطبيعتها إخراجها من دائرة اختصاص المحاكم الجزائية العادية وإدخالها في مجال اختصاصه”.

ويُضاف إلى هذه المعطيات العدد الكبير للمدّعين والمدعى عليهم في قضية تفجير المرفأ وما سبّبه من ضرر شامل. وهو معطى يفرض على المحكمة هنا أيضاً اعتماد حكمة في التعاطي مع طلبات الردّ، تحت طائلة سقوط التحقيق برمّته تحت وطأة طلبات ردّ متعاقبة.

وبالطبع، لا يتعارض توجّه المحكمة في هذا الخصوص مع ضمان حقّ الدفاع طالما أنّ اللجوء إلى محكمة الاستئناف غير المختصّة بداهة هو تعسّف محض وأنّ حق طلب كفّ يد المحقق العدلي في حال الارتياب المشروع يبقى محفوظاً بحقّ أيّ من المعنيين بالتحقيق باللجوء إلى محكمة التمييز، تماماً كما فعل الوزير السابق يوسف فنيانوس.

ولإدراك أهميّة ما فعلته الهيئة الحاضرة للمحكمة في هذا الخصوص، يجدر التذكير بأنّ البت في طلبات ردّ المحقق العدلي في قضية الحريري من قبل المحكمة نفسها (بهيئات مختلفة) كان استغرق أكثر من شهر تعطّل التحقيق في أثنائها، قبل أن يصل إلى النتيجة ذاتها وللأسباب نفسها.

 

المحكمة تفتح المجال أمام معاقبة التعسّف

كان بيّناً منذ اللحظة الأولى أنّ توجّه طالبي الرّد تعسّفي من حيث لجوئهم إلى محكمة غير مختصّة بداهة. وما يؤكّد التعسّف هو توقيته: فرغم استدعاء هؤلاء منذ 2 تموز، لم يقدّم أحد منهم في حينه طلب ردّ بهذا الخصوص، واثقين من حصانتهم النيابية ومن مساعي قوى نيابية في تهريبهم من قبضة المحقّق العدلي سواء من خلال إبداء قراءات مشوّهة للأحكام الخاصّة برفع حصانة النوّاب أو أيضاً من خلال فرض تفسير ضيّق للمادة 70 من الدستور الخاصّة بالإجراءات المتّصلة بملاحقة الوزراء (ضمناً الوزراء السابقين). وعليه، لم يقدّموا طلب الردّ إلّا بعدما حدّد المحقّق العدلي جلسات لاستجوابهم تبعاً لسقوط حصاناتِهم النيابية فور منح الثّقة لحكُومة نجيب ميقاتي، وخلال 4 أيام من ذلك التاريخ. وهم بذلك خالفوا قاعدة أخرى نصّ عليها قانون أصول المحاكمات المدنية والتي توجب تقديم طلبات الردّ خلال 8 أيّام من وقوع سبب الرد أو العلم به. وقد بدا هذا التعسّف أكثر وضوحاً من خلال تقديم طلبات ردّ لا تتضمّن أيّاً من البيانات الضرورية مثل أسماء المدعين والمدعى عليهم في قضية تفجير المرفأ خلافا للمادة 126 معطوفة على المادة 445 من قانون أصول المحاكمات المدنية.

وعليه، تجدر الإشارة بشكل خاصّ إلى تمسّك المحكمة في تغريم كلّ من طالبي الردّ بغرامة حددتها بالحدّ  الأقصى المسموح به (وهو مبلغ 800 ألف ليرة) في ما يشكّل إدانة واضحة لتعسّفهم على أساس المادة 127 من قانون أصول المحاكمات المدنية. ورغم رمزية القيّمة الفعلية لهذه الغرامة بعد انهيار العملة الوطنية، فإن مجرّد تثبيت التعسّف بحق هؤلاء إنما يفتح باباً واسعاً أمام كل من يعتبر أنّه تضرّر من جراء عرقلة التحقيق، وعملياً كل من الضحايا أو الموقوفين، أن يُداعي النوّاب الثلاثة للمطالبة بتعويضات شخصية هي بمثابة عقوبات مدنية لأخطاء فائقة الخطورة لم تحُل الصفة النيابية في تمثيل الأمة من ارتكابها ضدّها.

 

قرار رد طلب النائب نهاد المشنوق

قرار رقم 557/2021

[1] سقطت الحصانة النيابية تبعاً لمنح الثقة لحكومة نجيب ميقاتي بتاريخ 20/9/2021 ما يعني انتهاء العقد الاستثنائي لمجلس النوّاب، إذ لا حاجة لطلب إذن ملاحقة للنائب خارج دورات الانعقاد العادية والاستثنائية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني