حوار مع الباحث في علم الاجتماع المولدي الأحمر : “إجراءات سعيد اجتهاد محفوف بمخاطر الانزلاق نحو الأسوأ “


2021-08-23    |   

حوار مع الباحث في علم الاجتماع المولدي الأحمر : “إجراءات سعيد اجتهاد محفوف بمخاطر الانزلاق نحو الأسوأ “

ما يزال الجدل قائما حتى هذه اللحظة حول ما يمكن وصفه بالمخارج القانونية الممكنة للوضع السياسي الذي خلقته قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد في 25 جويلية 2021، والتي جمّد فيها عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النوّاب وأقال حكومة هشام المشيشي استنادا على قراءته الخاصة للفصل 80 من الدستور التونسي.

وفيما تتزاحم التأويلات القانونية حول هذه التدابير الاستثنائيّة، وما تلاها من قرارات وإجراءات، تبدو القراءات التي تتجاوز النصّ القانوني في تفكيك الأزمة السياسيّة، وجذورها وارتداداتها شحيحة. في هذا السياق، حاورت المفكرة القانونية، مولدي الأحمر، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية وبمعهد الدوحة للدراسات العليا، في محاولة لتسليط الضوء على مآل تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس في ظلّ المنظومة السياسية التي خطّت تاريخ البلاد خلال العشريّة المنصرمة والسعي إلى فهم ما حدث من منظار تاريخي وسوسيو-سياسي بمعزل عن قيود النصّ. 

***

المفكرة القانونية: لنبدأ من اللحظة الأولى لقرار رئيس الجمهوريّة تفعيل الفصل 80 يوم 25 جويلية 2021. لقد تحوّل هذا الفصل إلى أرض خصبة للجدال والتأويلات والقراءات. كيف يمكن تفسير هذا التناقض والخلاف في قراءة نصّ واحد؟

المولدي الأحمر: قال علي بن أبي طالب عن القرآن أنه حمّال أوجه فما بالك بالدساتير. الناس يعتقدون أن الدساتير عبارة عن نصوص شفافة يمكن تطبيقها ببساطة وسهولة مثل القواعد الرياضية، لكن الواقع غير ذلك. وما وجود محكمة دستورية والصراعات حول تشكيلها من عدمه وحول تركيبتها إلا دليل على عدم شفافية الدساتير. وهذا ليس خاصا بالمجتمعات التي تتدرّب على الديمقراطية مثل تونس، فنحن والمجتمعات العريقة في ذلك سواء. وقد حدث جدال واسع حول سعي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى ضمّ قاضية تنتمي لتياره الفكري للمحكمة العليا بنيّة الاعتماد عليها في ترجيح الكفة لفائدته عند الحاجة إلى رأي تلك المحكمة. 

فالنصوص تعكس موازين قوى اجتماعية متعددة الخصائص وغير متكافئة في فترة تاريخية ما، وهذه الموازين غير ثابتة خاصة في المجتمعات التي تعيش انتقالا سياسيا. كذلك لأن تأويلها خاضع للسياق والأهداف المرجوة التي يسعى المؤولون إلى تحقيقها. وفي النهاية لأن البشر عاجزون عن ترجمة أفكارهم والمعاني التي يقصدونها عبر اللغة مهما دققوا في الفواصل والنكت والتخصيص والاستثناءات، إذ لا يمكن اختزال الواقع الكثيف في جمل شفافة. لهذه الأسباب يختلف المؤولون للدساتير، وهذه فرصة للتذكير بأن القانونيّين يميلون إلى تحكيم القانون في فهمهم للأحداث التي تخرج عما يتوقعه المشرعون، غافلين عن الأصول الاجتماعية التصارعية للقانون ذاته. 

عندما أقول هذا الكلام فأنا لا أشكّك في جدارة القانونيين ومهنيّتهم، بل أقول أن مفاهيمهم القانونية مُصمّمة كي تتعالى عن الواقع الإجرائي، وهي تصمّمُ عقولهم كي يستبطنوا ميتافيزيقا القانون…وفي تطبيقهم الصارم للقوانين إنّما هم يعبّرون بامتياز عن حرفيّتهم وعن ضميرهم المهني. لذلك شاهدنا مثلا قراءتين متعارضتين للفصل 80 من الدستور، الأولى لقيس سعيّد، والتي قام بها وهو في أتون الحركة والفعل السياسي التصارعي المتحرك، حيث تتجلى تعقيدات الواقع وإكراهاته وعدم إمكانية السيطرة على مجرياته بشكلانيّة القانون. أمّا الثانية فهي لأستاذ القانون عياض بن عاشور الذي كان حريصا على إعلاء شأن القانون كي تبقى الظاهرة السياسية تحت السيطرة ويمكن التنبؤ بتطوّراتها، أي حريصا على احترام قانون اللعبة كما يقتضي ذلك الدستور في شكلانيته وعلى تدريسه بوصفه قانونا ينبغي احترامه. وقد كتبت في غير هذا المكان أن كلا الرجلين يمثلان أفقين اجتماعيين مختلفين، سواء من الناحية الاجتماعية أو من ناحية العلاقة الشخصية بدوائر السلطة ورموزها، حتى وإن لم يتورط كلاهما بشكل مباشر في مساندة أو معارضة النظام السابق. أضف إلى ذلك انتماءهما إلى نفس “الميكروكوزم ” الأكاديمي حيث الصراعات الدفينة تفعل فعلها في العلاقات الشخصية. 

الخلاصة أنه في كل منعطف سياسي يغيّر موازين القوى، يحصل منعطف في التشريع وفي تأويل الدساتير والقوانين بصفة عامة. وتحدث جلبة تأويلية كبرى حول نقاط بعينها ثم تهدأ العاصفة -أحيانا إلى حين- بعد أن يفرض تأويل ما نفسه ويترسّخ في فقه القوانين ومؤسساته، وذلك من أحوال العمران. ولهذه الأسباب أنا لا أحكم من وجهة نظر قانونية على الكيفيّة التي استخدم بها الرئيس الفصل 80 من الدستور لأنه ليست لي الكفاءة المهنية كي أقوم بذلك، لكنني أستطيع القول أن الحدث سياسي أكثر منه قانوني، وينبغي أن يقرأ بأدوات العلوم السياسية، وهذه أيضا لا تعطي الرئيس صكا سياسيا على بياض.   

المفكرّة القانونية: هل يمكن القول أنّ مأزق الديمقراطية التونسية ينبع من غياب المشاريع السياسيّة واقتصارها على الحركة في مربّعات النصوص القانونية؟

المولدي الأحمر: أظنّ أنّ الموضوع أعقد من ذلك بكثير. أزمة الانتقال الديمقراطي في تونس تضرب بجذورها بعيدا في تاريخنا الثقافي-السياسي. فلفترة طويلة جدّا لم نكن نتمثل الظاهرة السياسيّة إلا بوصفها منتوجا زعاميا استثنائيا مثلما كان النموذج المرجعي التاريخي الضارب في القدم -والذي هو مخياليّا الرسول- استثنائيا. والزعيم عندنا في البيت هو الأب الذي، في الثقافة العامة وليس النخبوية، له الحق معياريا في أن يتحكم في كل شيء، وأتباعه هم الأطفال والنساء. ثم هو في السياسة الخليفة والسلطان وفي القرون المتأخرة الباي. وكل سياسيّ في بلادنا داخله أب- باي متخفٍّ. ولذلك بدأ السياسيون في الآونة الأخيرة يقولون “لا ينبغي على الرئيس أن ينحاز لشقّ ضد شقّ، فمن المفروض أن يكون أب الجميع”. وبورقيبة في خطاباته كان يقول “أبنائي الأعزاء بناتي الفضليات”. وفي مزاحنا التونسي نقول: “بوك باي” و “شايخ كالباي” ونتغزل بالنساء بالقول ” لوكان نحوزك يا بية” (وهي هنا منزوعة من السلطة). وعندما نزع بورقيبة من الباي سلطته أصبح بعد عشرين سنة من ذلك الحدث رئيسا (بايا) مدى الحياة، ولم يكن السياسيون التونسيون الذين حكموا معه (إذا وضعنا جانبا المرحوم أحمد المستيري وإلى حد ما أحمد بن صالح وبعض من كان معهما) يتصورون تونس من دونه، وعندما كتبوا مذكراتهم كتبوا عن بورقيبة. 

النظم الزعامية (أقصد تلك التي يكون فيها الزعيم محور الدولة كما كان بورقيبة والقذافي وصدام حسين وعبد الناصر وغيرهم) تؤسّس للاستبداد، الذي يفرض شروطا على الفعل السياسي المستقلّ (يجبر المعارضة الحقيقية على العمل تحت الأرض) تُنتج بدورها نفس النموذج الزعامي السائد، لكن بدون أتباع أي بدون عصبية مستقلة كما يقول بن خلدون. وهذا ما حدث في عهد بورقيبة وبن علي. لذلك بمجرد أن سقط عرش القائد الأوحد، ظهر ألف زعيم وزعيم في البلاد. كلّ فرح بحزبه الذي يُعدّ المنتسبون إليه أحيانا على الأصابع، وهو أب-باي بين أنصاره. لقد درست في بحث أكاديمي نتائج انتخابات 2011 و 2014 و2019 وخرجت بنتيجة أنه يجب علينا أن نعيد النظر في مفهوم الحزب عندنا. هل هذا كل ما في الأمر؟ الأكيد لا، لأن الانتقال الديمقراطي يتعثر أيضا وبقوة بالأزمات الاقتصادية ونحن اليوم في خضم هذه الأزمة. أما لماذا يبدأ تشخيص الأزمة في بلادنا أولا بشكل قانوني بينما هي سياسية في الأصل؟ ببساطة لضعف القدرة التحليلية للنخبة السياسية الفاعلة وبسبب قوة نخبة القانونيين الذين عوضوا تاريخيا نخبة فقهاء الأمة.

المفكرة القانونية: لاقت قرارات رئيس الجمهورية احتفاءً كبيراً لدى شرائح كبيرة ومختلفة في المجتمع التونسي. كيف نقرأ هذا الالتقاء؟ وما هي دلالاته؟ 

المولدي الأحمر: هناك عدة مستويات في هذه الظاهرة. أولا هناك أزمة خانقة في البلاد في كل المجالات، وقد خلقت حالة من انسداد الأفق وخاصة من اللا يقين. ومعروف في نظرية الزعامة أن كل مبادرة تفتح في جدار الأفق المسدود ثغرة وتبدّد إلى حدّ معقول حالة اللا يقين تلقى تجاوبا من الناس. لكن هذا غير كافٍ -وهذا ثانيا- لأن منح الأمل للناس (هنا المواطنين) وطمأنتهم على مستقبلهم يحتاج إلى المصداقية المنتجة للثقة. وبما أنّ الثورة قامت على الفساد بكل كثافته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية (وهذا ليس كلاما مُرسلا بل نتيجة أبحاث ميدانية أكاديمية قمنا بها ومنشورة – لكن أكثر الناس لا يقرؤون)، فإن رأسمال نظافة اليد الذي اشتغل عليه قادة حزب النهضة سنة 2011 تحوّل  إلى قيس سعيد الذي عرف كيف يستغلّه بعدما بدّده النهضاويين طيلة عشر سنين عجاف طالبت خلالها قواعدهم بتطبيق الشريعة (قلب الكثير من التونسيين مقولة هاربين لربي إلى هاربين من ربي). ثالثا، كان مشهد الأحزاب في مجلس النواب وهم في أوضاعهم السياسية المخلّة منفرا: البعض يعتبر زملاءه من حزبه بمثابة نعجاته، والبعض يعتدي على غيره بالعنف، والبعض الآخر يتفنّن في تعطيل أعمال المجلس بطريقة فلكلورية (الخوذة والبوق…) بما يشي بما يخبئه للتونسيين إذا عادت إليه السلطة، ورئيس المجلس يتحايل على سير الجلسات، أضف إلى ذلك العدد الهائل من النواب الذين تتعلّق بهم قضايا عديدة. كل ذلك جعل المواطنين يهرعون لمن اعتبروه زعيما صادقا متواضعا، رغم توجّس قسم واسع من النخبة السياسية التي تسانده من نتائج هكذا مسار إذا لم يوضع له حدّ بسرعة.

المفكرّة القانونية: تعالت العديد من الأصوات التي تدعو إلى إنهاء تجربة الانتقال الديمقراطي بشكلها الذي عرفته البلاد طيلة العشرية القادمة. ووصلتْ الدّعوات إلى إعادة النظر في بنية المنظومة السياسية ككلّ وآليات التداول على السلطة ومؤسساتها. كيف يمكن تفكيك هذا الخطاب؟ وما الذي غذّاه طيلة الفترة المنقضية؟

المولدي الأحمر: من المؤكد أن النظام السياسي الذي تأسس بعد الثورة قد فشل في إيجاد شروط العمل المشترك والتناغم بين مكونات السلطة التنفيذية وبينها وبين السلطة التشريعية. والسبب أن تصميمه كان مشبعا بالتوجّس، فقد حدث اتفاق غير معلن بين القوى السياسية التي قادت العملية على اختلاف مشاربها بشأن نقطة واحدة هي الخوف من عودة الاستبداد. لذلك كان الهاجس أن لا تتمركز قوة الدولة من جديد، وخاصة الأجهزة التي مارست بها الاستبداد، في يد واحدة. وهناك نقطة انفرد بها الإسلاميون ذات وجه مزدوج: كانوا خائفين من انتكاسة الثورة وعودتهم إلى السجون، لذلك عملوا على تقوية سلطة البرلمان ومحاولة اكتساح مفاصل القرار في الإدارة التونسية للتوقي. وكانوا من ناحية أخرى يفكرون في كيفية إعادة “أسلمة المجتمع” من الأسفل ضد النموذج المجتمعي السائد. ولذلك عادُوا الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمثّل أكبر تجمع مدني حداثي في البلاد. هذه المنظومة فشلتْ. فلا حكومات التوافق “الباجي-الغنوشي” استطاعت العمل بسلاسة، ولا الحكومتان اللتان حاول الرئيس قيس سعيد أن يجعلهما متناغمتين مع توجّهاته تقدّمتا قيد أنملة في العمل الحكومي. بالعكس انهار البلد أكثر وأكثر. وفي هذه الأثناء، أصبح رئيس البرلمان ينافس رئيس الدولة في مهامّه دون أن يجد في حزبه من يردعه عن ذلك، لأنه تحوّل إلى بورقيبة النهضاويين، زعيما مُهابا مدى الحياة. وقد حدث له مع حزبه ما حدث تماما لبورقيبة في السبعينيات مع جماعة المستيري. فإذا كان لديك رئيس مجلس نواب يعتبر نفسه أحقّ بالرئاسة من الرئيس المنتخب بأغلبية ساحة من المواطنين، ورئيس دولة فاقد للتواصل مع رئيس الحكومة، ومجلس نواب فاقد لقيمته الأخلاقية، فمن الطبيعي أن نكون في أزمة خانقة. ويمكن أن نضيف إلى هذه الصورة المحبطة أن هذه الشقوق بين السلط التي تقود البلاد هي التي يدخل منها التأثير الخارجي الذي له ثقله ويشوّش مستقبل البلاد بل ويكاد يرتهن سيادتها. 

المفكرة القانونية: هل يمكن القول أنّ الديمقراطية التونسيّة كانت هشّة؟ أو كما يذهب البعض لم تنتج سوى البؤس الاقتصاديّ والاجتماعي؟ 

المولدي الأحمر: كل الثورات التاريخية أنتجت بعَيْد الثورة البؤس الاقتصادي والحروب الداخلية أو ضد الخارج. لقد تفادينا ذلك في تونس وهذا يُحسب للتونسيين. الثورة تعني في ما تعنيه فشل كل المنظومة الأمنية والإيديولوجية في تأمين مواقع ومصالح من كان يعتمدها في السيطرة على الثروة وعلى الفرص. وعندما يخسر هؤلاء جزء كبيرا من مواردهم وفرصهم وشبكات علاقاتهم المؤدية للموارد لا يستسلمون، بل يدافعون عن أنفسهم بطرق شتى، منها اعتمادا على نظرة بعيدة المدى، مثلا عبر الإغتيالات المدروسة سياسيا بعناية. لتوضيح الفكرة عندما قررت فرنسا الموافقة على استقلال تونس قامت بدراسة المستقبل وأزاحت حصانا ربما كان رابحا من سباق قيادة الدولة التونسية المستقلة، وهو فرحات حشاد. وبذلك حددت أفقا معينا لتطور الحالة التونسية في منتصف القرن الماضي بما يضمن مصالحها، وهي ما زالت تراقب هذا الوضع إلى اليوم. وهناك التكتيكات السياقية التي تعطل بها القوى الخاسرة نجاح الثورة، ومنها الامتناع عن الاستثمار وتهريب الأموال وخلق حالات التأزم المستمرة، أحيانا بمساعدة خارجية خفية، وعدم الاعتراف بالثورة مطلقا ونزع كل قداسة عن رموزها. لذلك يتحدث البعض في تونس عن ثورة البرويطة/العربة عوضا عن ثورة الكرامة. لكنه لابدّ من الاعتراف بأن الاستبداد ترك جراحا سوسيو-سياسية في الجسم السياسي التونسي أثّرت في مساره لاحقا. فلم يكن للأحزاب التي عارضت الاستبداد لا الموارد البشرية المتدربة ولا الفكرة السياسية الواضحة والمبتكرة، ولا كانت لقادتها الممارسة العملية الحقيقية للديمقراطية داخل منظماتهم. لم يسمح لهم الاستبداد بالتدرُّب على بناء الظاهرة السياسية وفق المفاهيم والممارسات الديمقراطية. والنتيجة هي التشرذم والضعف الفكري الحالي. هناك من يقول أن هذا يعني أنه لم تحدث ثورة، وهو رأي قابل للنقاش. ولكن النقاش الحقيقي يبدأ عندما يتحرر المناقشون من النماذج الفكرية التي تشبّعُوا بها والتي صقلها المؤرّخون والمنظّرون بعد الثورات بمدّة طويلة، ولم تكن حيثياتها الواقعية مطابقة للنظرية إلا بشكل نسبي جدا…تماما كما فعل المؤرخون والمحدثون المسلمون مع السيرة النبوية.

المفكرة القانونية: الصورة التي ظهر بها رئيس الجمهورية ليلة 25 جويلية، والمقبولية التي لاقتْها قراراته، ألا يمكن أن يكون بداية نهاية نجاعة العمل السياسي الحزبي الكلاسيكي في استقطاب الناس، وأنّنا على أبواب مشهد جديد يتطلّع إلى أطر جديدة للتنظم؟

المولدي الأحمر: هذه النقطة ليست واضحة لي. فأنا لم أقرأ شيئا عن “نظرية” الرئيس في هذا الشأن وليس هناك مادة يمكن مناقشتها. لكن يبدو لي أن الرئيس متوجس من النخبة تماما مثلما حصل لحزب النهضة. الإسلاميون كانوا ينظرون للنخب الثقافية التونسية على أنها تعيش غربة هوياتية، وكلها “مربوحة” للتيارات السياسية الحداثية، لذلك لعنتها واعتبرتها نكبة؛ والنتيجة أن النهضة هي من انهزم. يبدو لي أن الرئيس متوجس أيضا من النخبة التي ربما يفكر بأنها لن تسايره في فكرة الديمقراطية المباشرة. لكن الفكرة لم تعرض على هذه النخبة، كما لا ينبغي أيضا الاستهانة بقوة هذه النخبة وبقدرتها على المقاومة وتوجيه الرأي العام. من حقّ هذه النخبة على اختلاف مشاربها أن تناقش الشأن العامّ، وليس صحيحا أن الأفكار المبتكرة تأتي من خارج النخبة، والرئيس ذاته من ذات النخبة. لكن الطرح الذي يخوض فيه الرئيس ليس فارغ المضمون والمعنى، بل بالعكس هناك أزمة حقيقية في الغرب بشأن العدالة. الديمقراطية جاءت من أجل تحقيق العدالة لكنها لم تحقّقها بل حقّقت مصالح بعينها. وبرأيي بإمكاننا أن نتجرأ على التفكير المستقلّ حتى وإن أخذنا من غيرنا بعض إبداعاته. هناك معركة لا بدّ من خوضها وكل تأجيل لها إنما هو ضياع للوقت ولفرصة الانخراط الفاعل في صنع التاريخ: التحرر من فكرة أن هناك حداثة واحدة اخترعها الغرب مرة واحدة وبشكل نهائي، وأن على الشعوب الأخرى أن “تلحق بركب الحضارة” كما كان يقول قادة الحركة الوطنية، وكما يقول اليوم شقّ من النخبة الفكرية التونسية. أتذكر أنني في السنة الثالثة من الجامعة كتبت في خاتمة ورقة الامتحان للأستاذ فرج السطنبولي: “آن الأوان كي نبني حضارة لا أن نلتحق بركب الحضارة”. كانت في العبارة سطوة الشباب لكن الفكرة ما زالت متوهجة في ذهني وكل ما أضفت عليها لا يتعدى روح النسبية. 

المفكرة القانونية: عبّرت العديد من المنظّمات والجمعيات الحقوقية عن مخاوفها من ردّة على مستوى المكتسبات الخاصة بالحريات الفردية وحرية التعبير والتنظم والاحتجاج. هل يمكن أن يمثّل منعرج 25 جويلية تهديدا حقيقيا لهذه المكتسبات؟ وما مدى مناعة المجتمع التونسي تجاه عودة الاستبداد والتسليم له؟

المولدي الأحمر: مهمة منظمات المجتمع المدني أن تدافع عن حريات وحقوق المواطنين وأن تطالب بإرساء المساواة والعدالة، سواء كنا داخل النظم الديمقراطية أو في حالات الاستبداد. وإذا لا ينبغي أبدا لوم هذه المنظمات أو انتقادها في هذا المسعى. وفي الواقع، هناك تخوف حقيقي من أن ينزلق الأمر ربما إلى ما لم يخطّط له الرئيس، فهو ليس اللاعب الوحيد في الحلبة. والمشكلة أنه يظهر كذلك وكل المسؤولية تقع على كاهله. إلى حدّ الآن، لا أحد يعرف ما الذي سيحدث في قادم الأيام، وكيف سيحلّ الرئيس مشكلة التزامه بحدود الدستور. في رأيي، لن يستطيع الرئيس الالتزام بذلك إذا أراد المضي قدما إلى الأمام، لكن في هذه الحالة عليه أن ينجح في الإثبات الفعلي بأن ثمن خرق الدستور كان التصحيح الفعلي لمسار الثورة التي تطالب بإعادة الأخلاق للسياسة، بمعنى أن يصبح السياسيون “خُداما” حقيقيين للمواطنين. بمساعدتهم مؤسساتيا على تحقيق الحرية والتنمية والعدالة والكرامة، وأن لا يكون بوسعهم أبدا، أخلاقيا ومؤسساتيا، تأبيد مواقعهم السياسية. فتلك هي مقاصد الديمقراطية، وينبغي أن توجد الآليات الصلبة ليتحقق ذلك، وأن ترسى قوانين اللعبة من جديد وتُحترم بصرامة. ما قام به قيس سعيد هو اجتهاد محفوف بمخاطر الانزلاق نحو الأسوأ اعتمادا على فكرة مقاصد الديمقراطية قياسا على مقولة المبدأ الفقهي الإسلامي “مقاصد الشريعة”.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، محاكم دستورية ، تشريعات وقوانين ، تونس ، دستور وانتخابات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني