تونس بين أزمة الديمقراطية وأشباح السلطوية


2021-08-02    |   

تونس بين أزمة الديمقراطية وأشباح السلطوية

مساء 25 جويلية 2021، كانت تونس تقف بين مشهدين، لكل منهما دلالته وحمولته السياسية والاجتماعية، المشهد الأول جسّده التأييد الشعبي العارم لقرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد اختصاصات البرلمان وحل الحكومة ورفع الحصانة عن النواب، ومشهد ثانٍ جسّده وقوف رئيس مجلس النواب راشد الغنّوشي أمام البرلمان دون القدرة على دخوله بعد أن مَنعتْه القوات العسكرية من ذلك.

كيف نقرأ التصادم بين المشهدين، هل عُوّضت الديمقراطية بالدبابة مثلما أرادت حركة النهضة ترويجه إلى العالم، أم أن الأزمة تكمن في منظومة الانتقال الديمقراطي نفسها؟ لماذا لم يتبنّ الموقف الشعبي في معظمه سردية الانقلاب وأيّد حلّ البرلمان والحكومة؟ لماذا عجز فقهاء القانون الدستوري عن إقناع الناس بأن الرئيس بصدد احتكار سلطة التأويل الدستوري على هواه؟ لماذا لم يفلح خوف النخب المشروع في لجم الاحتفاء الشعبي و”عقلنة” سقف التوقعات الاجتماعية الذي بلغ حدود المناداة بتفعيل مبدأ التصفية المطلقة؟

لم يكن خافيا منذ البداية أن الرئيس التونسي كان يقذف حجرا سميكا داخل بناء ديمقراطي أصابه الخراب الداخلي منذ زمن، وكان يدرك أن الجموع المُحبَطة والساخطة ستأتي من دون عناء كبير إلى صفّه. ورغم أنه كان جزءا من الصراع السياسي على النفوذ والصلاحيات طيلة الفترة السابقة، إلا أنه كان يعلم مسبقا أن البرلمان الذي بلغ مرحلة ما بعد الانحدار، والحكومة التي فشلت في إدارة الأزمة الصحية، غير قادرين على مواجهة الكتلة الاجتماعية الغاضبة، التي راكمت طيلة الفترة السابقة حالة من العداء لمؤسسات الحكم ورموزها. هذا الوضع الذي أحال الرئيس إلى متحكّم وحيد في السلطة، لا تلوح مخارجه واضحة إلى حدّ الآن، في ظل عدم وضوح البرنامج السياسي للمرحلة الجديدة، وضبابية الإجابات السياسية عن إشكالات منظومة الانتقال الديمقراطي وأزماتها المؤسساتية والقانونية.

منظومة الانتقال الديمقراطي وإعادة إنتاج الهيمنة

يذهب ألان تورين إلى أن “ما يصل الحرية السلبية بالحرية الإيجابية هي الرغبة الديمقراطية بتزويد المقهورين والتابعين بالقدرة على التصرف بحرية، وعلى النقاش مع الذين يقبضون على زمام الموارد الاقتصادية والسياسية والثقافية من باب التساوي معهم في الحقوق والضمانات”.[1] في السياق التونسي، يلوح أن تجربة العشر سنوات، رغم أنها زودت الأغلبية الاجتماعية بقيم جديدة حاملة لأفكار الحرية والعدالة والمساواة، فإنها على مستوى الممارسة التاريخية أنتجتْ انفصالا بين مؤسسات الحكم الجديدة وفئات اجتماعية واسعة. لم تفلحْ مرحلة ما بعد 2011 في بعْث مؤسّسات ديمقراطيّة تزوّد الأغلبيّة غير المحظوظة بضمانات فعلية لثبيت حالة جديدة قائمة على العدالة والمساواة. لم يكنْ المزاج الشعبيّ مخطِئاً عندما اتّجه شيئا فشيئا نحو الاعتقاد بأن منظومة الانتقال الديمقراطي -رغم تضخمها المؤسساتي والقانوني- قد أعادت إنتاج الهيمنة والاحتكار السياسي، من خلال نسج علاقات سيطرة جديدة-قديمة، قائمة على التحالف الموضوعي بين من منحتهم صناديق الاقتراع الأغلبية البرلمانية وأصحاب المال والنفوذ. لقد حافظتْ الإدارة الجديدة لمرحلة الانتقال الديمقراطي على أساس الحكم الهيمني القديم. فقد كانت الائتلافات الحاكمة، التي تشكّلت أساساً من تحالفات غير مستقرّة بين حركة النهضة الإسلامية وتشكيلات يمينية مزدحمة ببقايا النظام القديم، تتحرّك من داخل إحداثيات التموقع داخل مفاصل الدولة، وعلى قاعدة بناء شبكات نفوذ تربطها بالأوليغارشيات المالية.

في هذه الأثناء، كان المجتمع يعيش حالة من الإنهاك المادي والمعنوي، وأخذت مظاهر اللاعدالة واللامساواة في الانتشار، ممّا رسخ الاعتقاد أن الديمقراطية التمثيلة انتقت زبائنها المحظوظين وتركت الأكثرية لمصيرها المُعتم. منذ 23 أكتوبر 2011، تمترستْ جلّ الائتلافات الحاكمة ضدّ الحركات الاجتماعية المنادية بعدالة أكثر للمهمشين والمعطلين عن العمل والمناطق الداخلية، وقد واجهتها بأسلوب “غير ديمقراطي” قائم على العقاب والشيطنة ومحاولات العزل والاحتواء. كانت المحاكمات الشتوية المتكررة للفاعلين في الحركات الاحتجاجية دلالة قوية على أن الحكم حافظ على مضمونه الأمني-العقابي في إدارة الأزمة الاجتماعية. والمؤسسات التي أنتجتها صناديق الاقتراع (خاصة البرلمان) كانت تشتغل بمعزل عن حياة المجتمع، ولم يكن وجودها الشكلاني والنمطي كافيا لإشاعة شعور إيجابي بفكرة الديمقراطية في الذهنية العامة. أما الدستور كنص علوي ناظم لمرحلة الانتقال الديمقراطي، رغم روحيّته الداعية للمواطنة والعدالة واحترام الحقوق، فإنّه لم يتحوّل إلى حالة قانونية مؤثّرة في معيش الأغلبية، وظل التعاقد السياسي والاجتماعي مطوقا بقواعد السيطرة والاحتكار السياسي.

المحنة التونسية: الدولة ضد الأغلبية الاجتماعية

ولدت الثورة التونسية في مرحلة شهدت فيها المنظومات الاجتماعية الرعائية للدولة (الصحة، التعليم، السكن، النقل…) حالة من الانهيار التاريخي، بسبب تنامي الخصخصة وإضعاف الدور الاجتماعي للدولة واحتكار مواردها من قبل شبكة مصالح مغلقة مرتبطة بالعائلة الحاكمة. رغم تجديد تركيبة الحكم بعد 2011، إلا أنّ الدولة حافظت على دورها القديم القائم على رعاية أقلية محظوظة عبر تسخير الموارد والامتيازات. وفي هذا السياق، يوفر تقرير النفقات الجبائية والامتيازات المالية الملحق بقانون المالية لسنة 2021 إضاءة كبيرة عن هذا الاتجاه: فقد بلغ حجم الامتيازات المالية والجبائية الممنوحة في سنة 2019 مبلغ 5644 مليون دينار أي حوالي 4,96% من قيمة الناتج المحلي الخام و13,4% من حجم ميزانية الدولة[2]. وقد أرسِل هذا التقرير إلى الهامش أثناء مداولات مجلس النواب حول قانون المالية الأخير، بل غنمت اللوبيات المالية والاقتصادية امتيازات مالية وحوافز جبائية جديدة. ويجري تسخير هذه الموارد الضخمة رغم انعدام أثرها على الاقتصاد والمجتمع، سواء على المستوى التنموي أو على مستوى استيعاب ظاهرة البطالة.

لم تكن الإدارة السياسية لمرحلة ما بعد 2011 تبحث عن مداخل اجتماعية واقتصادية تسمح بإدخال تحويرات هيكلية على مضمون الحكم الذي تحمله الدولة، والتأسيس لقطيعة مع دورها القائم على التهميش والميز واللاتكافؤ بين المركز والأطراف. بل اتجهت السياسات الاقتصادية نحو الإلحاق الكلي للاقتصاد التونسي بالمشروع النيوليبرالي الدولي عبر برامج التعديل الهيكلي، الذي يهدف في جزئه الأكبر إلى الإجهاز على بقايا الدولة الرعائية وإحلال منطق السوق، من خلال تفكيك منظومة الدعم وتقليص الاستثمارات العمومية والتوجيه الكلي للموارد نحو “التشجيع على الاستثمار”.

هذا الاتجاه، والذي لا تلوح في الأفق بوادر فعلية نحو مراجعته، جعل حصيلة العشر سنوات لا تقلّ مأساويّة عن حصيلة نصف القرن الفارطة، مما جعل الوعي الشعبي بالأوضاع الاقتصادية يتشكّل من خلال فكرة أن الوضع المعيشي يزداد بؤسا. وقد شكّل هذا البعد عاملا محفزا لجلّ الحركات الاجتماعية الاحتجاجية في تونس منذ سنة 2011.

السلطوية أم إعادة الهيكلة؟

جزء من الاتجاه السياسي الداعم لرئيس الجمهورية لا يقارب الأوضاع من خلال فهم أزمة منظومة الانتقال الديمقراطي وانفصالها البنيوي عن الانتظارات الشعبية أو من خلال النظر إلى خياراتها الاقتصادية والاجتماعية ودورها في إعادة إنتاج علاقات سيطرة واحتكار جديدة بوجوه وشبكات جديدة، وإنما يقارب الأزمة من زاوية فكرة ضعف مؤسسات الحكم وانحطاط خطابها السياسي، لذلك يساندون المركزة الآنية للسلطة ويدعون إلى فرض النظام السياسي الرئاسي وتشكيل حكومة “كفاءات” بخلفية اقتصادية، دون اقتراح نقاط واضحة لبرنامجها الاقتصادي.

رغم أن المسار الجديد يبدو إلى حد الآن غامضا ومتحركا ولا يسمح بإطلاق أحكام نهائية، إلا أنه لا يقف فوق التشكيك والمساءلة. هل سيجري تفكيك المضمون الهيمني لمنظومة ما بعد 2011 بحملة محاسبة لبعض الرموز المالية والسياسية دون برنامج سياسي قائم على تفكيك الأساس الاقتصادي للفساد؟ هل يمكن بناء ديمقراطية بضمانات من سلطة تحتكر سلطة التأويل الدستوري، أم من خلال إعادة هيكلة مؤسسات الانتقال الديمقراطي وتفعيل دورها الرقابي وتفكيك ارتهانها للمصالح الحزبية واللوبيات المالية؟

لا يمكن بناء حياة ديمقراطية بضمانات سلطوية، ودون التأسيس لتعددية تعطي النخب والمجتمع الحق غير المشروط في الاختيار الحر والنفاذ إلى الحقوق العامة والخاصة، ودون مصادرة حقهم الرقابي على كل السلط. كلّ مركزة تهدف إلى صناعة الإجماع القسري وإشاعة الامتثالية ستؤدي إلى تعزيز الاتجاه السلطوي، الذي لا تبدو فرضية عدم تركيزه محسومة، في ظل غياب برنامج سياسي واضح للمستقبل.

 

  1. ألان تورين. ماهي الديمقراطية: حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية (ترجمة حسن قبيسي) ط3، بيروت: دار الساقي، 2016، ص: 18.
  2. تقرير حول النفقات الجبائية والامتيازات المالية، ملحق بقانون المالية لسنة 2021، وزارة الاقتصاد والمالية والاستثمار، تونس، 2020.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، سياسات عامة ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني