تونس المُستقِلّة: “ليبراليون” و”اشتراكيون” في خدمة رأس المال


2022-02-11    |   

تونس المُستقِلّة: “ليبراليون” و”اشتراكيون” في خدمة رأس المال

كانت التصفية وإعادة الهيكلة صِنوان، تحت ظلالهما سارت دولة الاستقلال الناشئة نحو تاريخها الجديد. دَارت آلة التصفية في اتّجاه الأخوة الأعداء الرافضين لـ”استقلال منقوص”. وبدون رهبة من استخدام أكثر وسائل الإسكات دمويّة انتهت ذروة الصراع باغتيال زعيم المناوئين، صالح بن يوسف، بعد أن طاردته سنة 1961 بندقيّة “رفاق الأمس” خارج جغرافيا الوطن، إلى حدود مدينة فرانكفورت في ألمانيا. أمّا إعادة الهيكلة فلم تكن أقلّ شأناً من التصفية، إذ كانت تُعمِلُ مَعاولها في مجتمع أعيَته عقود الاستعمار، وما زالت بُناه التقليدية تُعاند الأزمنة الجديدة. ولم تخلُ لائحة التحديث السياسي والاجتماعي من الجرأة والنقصان: إلغاء المَلَكِيّة، حلّ الأوقاف، توحيد التشريع وتحديثه، توحيد التعليم وتعصيره، إصدار مجلّة الأحوال الشخصية، وغيرها من مظاهر التحديث. 

كانت نُخب الحكم الجديدة، بقيادة الرئيس الحبيب بورقيبة، مسكونة بفكرة صناعة “وطن ما بعد 1956”. ومن هناك انبثقت سرديّات “مقاومة التخلّف” و”بناء الأمّة” و”الازدهار الاقتصادي”، ضمن سياقات ما زال يُسيطر فيها الاستعمار على الكثير من مفاصل الاقتصاد والحياة، وتُعاني فيها الأغلبيّة الاجتماعية من نُدرة الموارد والأمّيّة والانفصال عن المراكز الحضرية. وبالتوازي مع ذلك، أخذت حَماسة النّصر طريقها التدريجي نحو الانطفاء، وعن قريب ستُطالب الجماهير الجائعة بحصّتها من مغانم الاستقلال. كانت نخب معركة التحرير متشبّعة بشتّى الأفكار السياسية، ولكنّها كانت على قدر كبير من الخواء على مستوى الرؤية الاقتصادية. فقد أفرط بعض “رجالات الاستقلال” في تزيين الرفاه الاجتماعي للاستقلال الموعود أثناء حقبة النضال ضدّ المستعمر، بدون إدراك المآزق المُرتقَبة. وبعد 1956، ستستيقظ سلطة الاستقلال الفتيّة على عوامل جديدة أكثر تعقيداً: إكراهات الحكم، حاجيّات المجتمع والاقتصاد، وثِقل علاقات الهيمنة القديمة، مضاف إليها إغراءات السلطة والجاه. ومن داخل هذه العوامل ستشهد البلاد مسارات سياسية واقتصادية متقلّبة ومتشنّجة، وستصبح الدولة والاقتصاد ساحة مفتوحة لصِراعات حول البرامج والنفوذ والامتيازات.

عندما يفشل التبشير الليبرالي في تطوير رأس المال 

بالتوازي مع النزعة الرامية إلى التحديث الاجتماعي والسياسي، اختار الخطاب الاقتصادي لسلطة ما بعد الاستقلال وجهة “ليبرالية”، تُشجّع على الحرّيّة الاقتصادية والملكيّة الخاصّة والاستثمار الخاصّ. وقد وُظِّف الخطاب الليبرالي ضمن سياسة “أعيَانية” حافظت بموجبها السلطة الناشئة على مواقع الطبقات الاجتماعية القديمة المُهيمنة، بخاصّة كبار الملاّكين العقاريين، وعلى مصالح رأس المال الأجنبي. وقد جاءتْ تركيبة الحكم التي ضَمّت الأعيان والموظّفين وأصحاب المهن الحرّة لتَتَناسبَ مع هذا التوجّه، الذي وصفه الصغير الصالحي بـ”تواصل البنية الاجتماعية للحكم المخزني”. أدركت نخب الحكم الاستقلالية هشاشة رأس المال المحلّي، وانتماء الذهنيّة البرجوازية إلى حقبة ما قبل رأسمالية، إضافة إلى استمرار الهيمنة الاستعمارية. وقد حاول أحد أبرز روّاد الاشتراكيّة التونسية، أحمد بن صالح، توصيف الحالة الاقتصادية بُعَيْد الاستقلال قائلاً: “إنّ تونس كانت تشكو من نقص في رؤوس الأموال التي كانت في المتناول للاستثمار. فالمستوى العامّ للدخل ضعيف، أمّا الادّخار بحسب أصناف المداخيل فهو إمّا غير موجود وإمّا غير مُستخدَم على الوجه الأفضل. وما زال تراكُم رأس المال بعيداً عن بلوغ الكثافة الكافية لدفع الاقتصاد في حركة تصاعدية”.

من داخل الوعي بضعف التراكم الرأسمالي، انساقتْ السلطة بقيادة الرئيس بورقيبة نحو سياسة الإعفاءات الجبائية والامتيازات المالية والمِنَح والقروض المُسَهَّلة لفائدة الخواصّ المحلّيين والأجانب، والتفويت في جزء لا بأس به من أراضي الدولة لفائدة كبار الملّاكين. كما “استفاد أصحاب رؤوس الأموال الخاصّة من بقاء الأجور راكدة، بالرغم من أنّ المؤشّر العامّ لأسعار التفصيل ارتفع بين 1956 و1961 بنسبة 16 بالمائة”. ولكنّ حصيلة هذه السياسة التحفيزية كانت أقلّ بكثير من توقّعات السلطة الجديدة، التي نسَجَت آمالاً كبيرة حول الحرّيّة الاقتصادية كمدخل للإنماء الاقتصادي، إذ سَجّل حجم الاستثمارات في السنوات الخمس التي تلتْ الاستقلال تراجعاً مقارنة بالسنوات الفاصلة بين 1948 و1956، وقُدِّرت نسبة النموّ في السنوات الفاصلة بين 1959 و1962، بنحو 3.2% سنويا. وقد فسّرت السلطة في فترة لاحقة هذه الحصيلة الهزيلة بهشاشة رأس المال المحلّي وعدم قدرته على إنجاز مهامّ تاريخية كبرى. فبورقيبة نفسه أشار في أحد خطاباته قائلاً: “إنّ تونس ليس بها فئة من رجال الأعمال الأقوياء الجريئين حتّى يستطيعوا مواجهة جهود جبّارة كالتي قامت بها البرجوازيّة الأوروبية”.      

لم يكن مُنتظَراً من البرجوازيّة التونسية أن تكون أنموذجاً مطابقاً للبرجوازيّة الأوروبية، مثلما حلم بذلك بورقيبة، ولكنّها عموماً فَضّلت الحفاظ على خصائصها الموروثة عن حِقَب سابقة، من خلال الإبقاء على أنشطتها الاستثمارية غير المُنتجة والمربحة بأقلّ التكاليف، على غرار العقارات والتجارة والفلاحة. ويشير عبد اللطيف الهرماسي إلى أنّ التغيّر الأساسي الذي حصل في سلوك البرجوازيّة بُعَيْد الاستقلال “كان في تسابقها على وراثة عقارات وممتلكات الأجانب بأثمان بخْسة وحلولها محلّ الجالية الأوروبية في الإقبال على منتوجات الاستهلاك المستورَدة”. وبالتوازي مع ذلك، استفادت البرجوازيّات المحلّية ورؤوس الأموال الأجنبية من الإطار التشريعي السخي للسياسة الليبرالية على غرار قانونَيْ 4 جوان 1957 و10 فيفري 1958، وغَنمت حوافز مالية وعقارية وجبائية لا بأس بها. إضافة إلى تأسيس روابط متينة داخل الحزب الحاكم وفي أجهزة الدولة، وهو ما سيجعلها تُحافظ على مصالحها الطبقية حتّى في الفترات التي تغيّرت فيها السياسات الاقتصادية للدولة.

الاشتراكية الدستورية كمدخل آخر للمُراكمة الرأسمالية

أطبق عقد الخمسينيّات، تاركًا وراءه انطباعاً بأنّ البرجوازيّة المحلّية بأوضاعها تلك لا يمكن أن تكون طبقة مُوجِّهة للاقتصاد برغم تمثّلتها في الحكم وبرغم حصولها على الامتيازات. وهو ما فسَحَ المجال أمام ضابط اقتصادي جديد، جسّدته الدولة عن طريق أجهزتها الإدارية والمالية والاقتصادية، الأمر الذي جعلها أشبه بـ”الرأسمالي الجماعي” على حدّ تعبير عبد اللطيف الهرماسي. وستكون حقبة الستينيّات مرحلة الاستثمارات “الدولَتية”، التي بلَغ حجمها الثلثَيْن من مجموع الاستثمارات في الفترة الفاصلة بين 1962 و1971. وفي هذا السياق، شكّلت الاشتراكية الدستورية التي أُقرَّت رسمياً في أكتوبر 1964، مدخلاً أيديولوجياً وسياسياً لإنجاز تعديلات فوقية على البنى الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق قدر من المراكمة الرأسمالية التي عجز عنها رأس المال الخاصّ، من خلال إنجاز استثمارات تجهيزية كبرى وخلق مؤسّسات ادّخارية وتمويلية. وفي الأثناء، واصل أصحاب الأموال استثماراتهم في القطاعات غير المربحة على غرار المضاربة العقارية والتجارة والبناء. إضافة إلى دخول السياحة كقطاع استثماري مُربِح سعت الدولة منذ أواخر الستينيّات إلى التخلّي عنه لفائدة الخواصّ.

ماذا كانت تعني العلاقة بين الاشتراكية ورأس المال في منظور نُخَب الحكم؟ أحد تفسيرات هذا السؤال الذي يحاول مُهندس الاشتراكية التونسية أحمد بن صالح الإقناع به، من خلال الإشارة إلى أنّ “رأس المال ليس في حدّ ذاته خطراً، ولكن قد تكون وسائل الحصول عليه واستخدامه خطراً. ولئن كانت الاشتراكية – وخاصّة في بلد مثل تونس – ضدّ رأسمالية المستغلّين والمضاربين والنخب المثقّفة فإنّها ليست ضدّ رؤوس الأموال ولا ضدّ الثقافة”. وبهذا المعنى، يُريد بن صالح التنصيص على أنّ الاشتراكية التونسية ضد رأس المال المضارب وغير المنتج. أمّا دور الدولة ضمن هذه “العمليّة التعويضية” إن صحّ التعبير، فهو دور مؤقَّت في نظر بن صالح، وهدفه التربية والرقيّ الاقتصادي وتحفيز الفئات الاجتماعية على المبادرة والتجريب. وبعد ذلك، “تتخلّى [الدولة] عن ذلك الدور بفضل ما قامت به من عمل في التربية وفي الرقيّ الاجتماعي”. ولكن هل فقدت البرجوازيّة امتيازاتها ضمن هذه السياسة التوجيهية؟ هل أفلحتْ الاشتراكية في إدماج الجموع المحرومة والنهوض بواقعها؟

يذهب أحمد بن صالح إلى أن “الأبوية” كبَحَت التطوّر الاقتصادي في تونس، من خلال الاستعانة بكتلة من المصالح المتشابكة التي تضمّ كبار الملّاكين والتجّار والإطارات الإدارية والحزبية والقيادات النقابية. ولعلّ بن صالح لم يكن بمنأى عن هذه الأبوية، فقد كان مؤيِّداً لها ولم يُبدِ تحفُّظاً إزاءها طالما أنّها سايرتْه في مشروعه. فقد جمع تحت يديه خمس وزارات من دون أن يكون ذا مقدرة خارقة على إدارتها جميعاً. وضمن الالتزام بعقيدة “الوحدة القومية”، بارك بن صالح سياسة الاحتكار السياسي التي مارسها حزب الدستور، من خلال ضرب استقلاليّة المنظّمات الاجتماعية والمهنية والطلّابية، وإلحاقها بهياكل الحزب الحاكم، وحظر الحزب الشيوعي سنة 1963، ومصادرة الصحف والتضييق على كلّ التيّارات السياسية المعارضة. كان بن صالح شاهداً على تلك الحقبة وفاعلاً بارزاً فيها، إذ انتهت بتصفيته من قِبل الجناح الأكثر قلقاً من أن تذهب تجربة التعاضد بعيداً في ضرب الأساس الاجتماعي للحكم، الذي تُمثّله البرجوازيات الفلّاحية والتجارية.

رغم الإصرار على ربط الاشتراكية بالنهوض بالإنسان التونسي في أدبيّات الحزب الاشتراكي الدستوري، لم تُؤَنْسِن التجربة علاقتها مع فئات المنتجين الفعليين التي تضمّ صغار ومتوسّطي الفلّاحين وعمّال التعاضديات. فقد حَرَمتهم من ثمارها واستنزفتْ طاقاتهم الإنتاجية من دون عوائد مجزية. وركنت التجربة إلى الممارسات البيروقراطية والفوقية، وهادنتْ مصالح كبار الملّاكين العقاريين الذين كانوا جزءاً من بنية السلطة وامتيازاتها. وفي هذا السياق، يشير الصغير الصالحي إلى ظاهرة اللامساواة التي عرفتها أحداث “كسر الطوابي” (كسر الحدود بين الملكيّات الفلّاحية في تجربة التعاضد)، إذ اقتصرت على الملكيّات الصغيرة والمتوسّطة ولم تشمل أراضي كبار المالكين العقاريين. وقد تأسّست التعاضديّات الفلّاحية التي بلغ عددها 1600 في الفترة الممتدة بين 1961 و1969 داخل ملكيّات صغار ومتوسّطي الفلّاحين، وهو ما جعل هذه الفئات تستشعر أنّ التعاضد يسير ضدّ مصالحها وعلى حساب ممتلكاتها القليلة. ومن المُلاحَظ أنّ التجربة انتهت أيضاً لفائدة كبار الملّاكين العقاريين والتجّار وإطارات الدولة والحزب الحاكم الذين استفادوا من انهيار أسعار الأراضي الفلّاحية أواخر الستينيّات لشراء الأراضي بأثمان بخسة، وهكذا “كان إنهاء التعاضد فرصة ذهبية للإثراء في دوائر السلطة وأصهارها”.

عصر ليبرالي آخر في خدمة الطبقات المهيمنة

رغم الاستثمارات الاجتماعية المُهمّة التي أنجزتها الدولة خلال حقبة الستينيّات، التي بلغت في بعض الأحيان 50% من مجموع الاستثمارات، وهو ما كان له أثر في تطوير المنظومات الأساسية كالصحّة والتعليم، شكّلت البرجوازيات القديمة والنخب الجديدة المستفيدة من مواقعها في الحكم والإدارة الأساس الاجتماعي المهيمن للدولة، التي ستضغط في اتّجاه التخلّي التدريجي عن الدور الرعائي للدولة أو تجميده في أهون الحالات. 

شهدتْ مرحلة السبعينيّات انتقالاً في اتّجاه “اللّبرَلة” على مستوى الشعارات السياسية والاجتماعية، رغم الإبقاء على خطاب اشتراكي شكلاني داخل مؤسّسات الحزب الحاكم وعلى مستوى قيادة الدولة. وقد حاول أحد أبرز الفاعلين في مرحلة السبعينيّات، رئيس الحكومة الأسبق الهادي نويرة، إعطاء أساس فكري واجتماعي للحقبة الليبرالية التي ساهم في صناعتها، قائلاً: “إنّ أوّل دافع للعمل الإنمائي وأعظمه أثراً سواء في الحقل الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو الأخلاقي أو السياسي، هو أن يعتبر الفرد نفسه بالضرورة أنّه يعيش في جوّ ملائم وفي كنف أوضاع مستقرّة تكون خير ضمان يشدّ أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض”. وقد حاول الهادي نويرة رسم الأهداف الكبرى للمرحلة، التي لخّصها عموماً في “التنمية السريعة التي تستدعي نسبة مرتفعة من الاستثمارات” و”التشغيل الذي يستدعي تكوين طالبي شغل متلائمين مع حاجيّات الاقتصاد”، و”المساهمة في الإنتاج وتخفيف الفوارق” و”السيطرة على المشكل المالي في الميدان الداخلي والبلدان الأجنبية”.

شكّلت مقُولات “الفرد” و”الحرّيّة الاقتصادية” و”التنمية السريعة” أوعية أيديولوجية فضفاضة لخدمة مصالح كتلة اجتماعية، تضمّ المقاولين وكبار الملّاكين والوسطاء المرتبطين برأس المال الأجنبي. وقد استفادتْ هذه الكتلة من الإجراءات التي اتُّخذت على أنقاض السياسة الاشتراكية، من بينها حلّ التعاضديّات الفلّاحية المكوَّنة في فترة التعميم (1978)، وحلّ التعاضديّات التجارية، وإلغاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية في عدد من القطاعات، وتفويت الاستثمار الخاصّ في جزء كبير من أراضي الدولة عبر بيع 166 ألف هكتار وكراء 61 ألف أخرى. وستنمو هذه الكتلة التي ستجذب إليها عدداً لا بأس به من المُضاربين والمستثمرين في قطاعات الفندقة والبناء والتوريد والتصدير، مستغلّة في ذلك الأساس التشريعي المُحفِّز الذي انعكس في قانون أفريل 1972، والذي يوفّر لائحة من الامتيازات للمستثمرين المحلّيين والأجانب، وقانون أوت 1974 المتعلّق بالاستثمارات في الصناعات المعملية. وقد استفادتْ أيضاً من نَفاذِها إلى الصفقات العمومية والحوافز المالية العامّة عن طريق العلاقات المتينة التي ربطتها بكوادر الحزب الحاكم والدولة.

كانت السياسة “الليبرالية” تَسير على أرض مليئة بالتناقضات: تناقض بين خطاب سياسي يعد برفع الإنتاجية مقابل سياسة استثمارية معاكسة تتّجه بمعظمها نحو قطاعات ربحية غير منتجة. إضافة إلى عدم المخاطرة بإلغاء الدولة من المشهد رغم العمل على إضعافها واستنزافها من الداخل. تناقض آخر بين مظاهر ثراء ونزعة استهلاكية مُفرِطة في صفوف البرجوازيّات القديمة والناشئة مقابل انتشار الفقر والهجرة الداخلية والإحباط في صفوف الجموع القابعة في دواخل البلاد، وفي أحياء الصفيح الآخذة في التكاثر. ورغم تحقيق نسب نموّ مرتفعة في عقد السبعينيّات قياساً بالعقد السابق، لم يترك هذا الارتفاع آثاره على الحياة اليومية للناس، إذ تشير الإحصاءات الرسمية أواخر السبعينيّات إلى ظاهرة التفاوت الاجتماعي الذي كرّسته السياسة الليبرالية من خلال المؤشّرات التالية: 22.5% من السكّان تحت مستوى الحدّ الأدنى للفقر؛ 20% من السكّان يتقاسمون 50% من الدخل الوطني في أعلى الهرم؛ 20% من السكّان يتقاسمون 5% من الدخل الوطني في أسفل الهرم.

كان شعار “الانفتاح السياسي” الذي طَبعَ الخطاب السياسي بداية السبعينيّات متناقضاً أيضاً مع الممارسة الانغلاقية التي اتّسمت بها السلطة في تلك الفترة، والتي برّرَتها النخب الحاكمة على الصعيد الاجتماعي بشعار “نبذ تطاحن الطبقات وتنافر الأجيال”، وعلى المستوى السياسي بشعار “الوحدة القومية حقيقة تاريخية يجب أن تستمرّ”. وقد شهدت تلك الحقبة مُصادَرة للفضاء السياسي برمّته واتّجاهاً واضحاً نحو تعزيز أجهزة الرقابة الأمنية من خلال الترفيع الواضح لميزانيّة وزارة الداخلية مقارنة بوزارة التربية والتعليم. وخلال شهادته في مؤسّسة التميمي للبحث العلمي، يشير محمّد بالحاج عمر، الأمين العامّ السابق لحزب الوحدة الشعبية (حزب محظور في تلك الحقبة) إلى أنّ “كلّ التيّارات وقعت متابعتها وتمّ سجنها وسجلّت تلك الفترة أكبر عدد من الإضرابات في كلّ القطاعات. وبالطبع شُغّلت الآلة القمعية التي يوجد مكانها في وزارة الداخلية، واشتغل البوليس السياسي في متابعة المواطنين والتنصّت على الهاتف. وظهر الضغط البوليسي ضدّ القوى العمّالية والسياسية والشباب التقدّمي الديمقراطي”. وقد شهدتْ نهاية السبعينيّات إحدى أكبر الحركات الاحتجاجية التي عرفها التاريخ التونسي المعاصر، التي باتت تُعرَف بـ”الخميس الأسود” (26 جانفي 1978). وقد كانت تلك الأحداث – التي ساهم فيها الاتّحاد العامّ التونسي للشغل- نتاجاً لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفئات الاجتماعية الأقلّ حظّاً. وقد واجهتْها السلطة بالقمع والرصاص واستقدام القوّات العسكرية المُسلّحة إلى الشوارع، فكانت الحصيلة – غير المكشوف عنها رسمياً إلى الآن – 400 قتيل تقريباً ومئات الجرحى.

انتهى عقد السبعينيّات ليُشكّل دلالة على دخول المنظومة الاستقلالية أحد أكبر مآزقِها، من خلال تضخّم دورِها الهَيْمَنيّ إزاء الأغلبيّة الاجتماعية، وإزاء التيارات السياسية والمدنية النابذة. إذ اجتمعت وحدانيّة السلطة مع احتكار الموارد من قِبل أقلّيّة اجتماعية مرتبطة بجهازَيْ حزب الدستور والإدارة. إضافة إلى غربة الدولة عن المجتمع بعد الوعود التاريخية العظيمة والإنجازات الاجتماعية التي دشّنتها أوّل الستينيّات، وتَحوُّلها إلى جهاز في خدمة برجوازيّة مُتمَعّشة من الامتيازات والموارد بدون حِسّ تاريخي برهان النهوض الاقتصادي. وفي الأثناء، أصبحتْ الشعارات الاقتصادية المتقلّبة انْعكاساً لصراعات النفوذ داخل نخب الحكم. وهو ما سيؤدّي إلى تثبيت مواقع الطفيليّات المالية المحلّية ووضع البلاد ضمن مسار إلحَاقي بالسوق الرأسمالية العالمية، سيتجسّد من خلال أزمة المديونية غير المسبوقة في سنة 1986، والالتجاء إلى مؤسّسات النقد الدولية والأسواق المالية العالمية، داخل ظروف إقراض مشروطة ومُضرّة بالاقتصاد الوطني.

نشرت هذه المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم


1  الصغير الصالحي، “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة: منظومة التهميش في تونس”، ط2، تونس: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، 2019، ص. 233.
2 أحمد بن صالح، “مسيرة الانطلاق 1961-1969” (تعريب محمّد قوبعة) تونس: دار الجنوب، 2012، ص. 77.
3 الهادي التيمومي، “تونس 1956-1987″، ط1، تونس: دار محمّد علي للنشر، 2006، ص. 72.
4 عبد اللطيف الهرماسي، “الدولة والتنمية في المغرب العربي: تونس أنموذجاً”، سراس للنشر، 1993، ص. 47.
5 الهادي التيمومي، ص. 75 (مرجع مذكور سابقاً).
6 المرجع نفسه، ص. 94.
7 عبد اللطيف الهرماسي، ص. 47، (مرجع مذكور سابقاً).
8 المرجع نفسه، ص. 51.
9 المرجع نفسه، ص. 67.
10 أحمد بن صالح، ص. 69، (مرجع مذكور سابقاً).
11 المرجع نفسه، ص. 68.
12 المرجع نفسه، ص. 43.
13 ياسين النابلي، “أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السير الأعرج وراء مزمار بورقيبة“، المفكّرة القانونية، 17 نوفمبر 2020.
14 انظر تقرير الديوان السياسي إلى المؤتمر السابع للحزب الدستوري التونسي، بنزرت 18-22 أكتوبر 1964. (أورده أحمد بن صالح في المرجع المذكور سابقاً).
15  الصغير الصالحي، ص. 428، (مرجع مذكور سابقاً).
16 المرجع نفسه، ص. 432.
17 الهادي نويرة، خُطَب 1973 و1974، نشريّات وزارة الإعلام والشؤون الثقافية، تونس: المطبعة الرسمية، 1980، ص. 89.
18 المرجع نفسه، ص. 248.
19 عبد اللطيف الهرماسي، ص. 78، (مرجع مذكور سابقاً).
20 المرجع نفسه، ص. 248.
21  حافظ عبد الرحيم، النخبة السياسية والحراك الاجتماعي من خلال تجربة البناء الوطني في تونس ما بين عشريَّتَيْ الخمسينات والثمانينات (رسالة دكتوراه تحت إشراف عبد الباقي الهرماسي)، كلّيّة العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، 1996-1997، ص. 243.
22  الهادي نويرة، ص. ×× (مرجع مذكور سابقاً).
23  حافظ عبد الرحيم، ص. 235، (مرجع مذكور سابقاً).
24  محمّد بالحاج عمر،  بعض الحقائق الجديدة حول فترة الهادي نويرة (أعمال الندوتَيْن الأولى والثانية حول مكانة ودور الوزير الأوّل الهادي نويرة في بناء الدولة الوطنية)، ط1، تونس: منشورات مؤسّسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، 2013، ص. 34.
25  ياسين النابلي، “أحداث 26 جانفي 1978: ذاكرة مهرَّبة من دفاتر النظام“، موقع نواة، 26 جانفي 2016.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني