بلاد الأرز و… اللزّاب


2021-08-30    |   

بلاد الأرز و… اللزّاب
اللزاب (تصوير كامل جابر)

عندما تستمع إلى الطبيبين يوسف طوق وأنطوان ضاهر يتحدثان عن شجرة اللزّاب، تشعر أنّ هذه الشجرة الحرجيّة المعمّرة والقديمة في لبنان، التي تستوطن جرود الهرمل، خاضت مع مناصريها وما تزال حرباً شرسة لإثبات هويّتها ونفسها في بلد اتّخذ من الأرز شعاراً له، وعُرف بالأرز دون غيره حتى صارت تسمية بلاد الأرز مرادفة لاسم لبنان. 

الدكتوران طوق، ابن بشرّي، وضاهر ابن القبيات، من أبرز الناشطين البيئيين في لبنان. فالأوّل، (طوق) هو الذي سعى قبل نحو 40 عاماً لإنقاذ أشجار الأرز ونجح قبل سنوات في استكمال حلمه بالتعاون مع أفراد آخرين وجمعيات من تشجير مئة ألف أرزة في منطقة بشري والأرز وجبل المكمل الذي يعلوهما. وباشر منذ 30 سنة بتشجير المنطقة نفسها باللزّاب. أما ضاهر فهو من مؤسّسي مجلس البيئة في القبيات ويُعنى أيضاً بحماية الأرز واللزّاب بخاصّة في محافظة عكار وجبل لبنان وصولاً إلى مثلث الهرمل الضنيّة عكّار. 

يقول الرجلان، طوق وضاهر، إنّ المقولة الشهيرة بأنّ الأرز كان يغطّي جبال لبنان تاريخياً قبل أن يتعرّض لمجازر القطع في مراحل عدّة من بناء هيكل سليمان وتوابيت الفراعنة، مروراً بمراكب الفينيقيين التي جابت البحار، وصولاً إلى زمن سكّة القطار أيام العثمانيين، ليست سوى أسطورة بالنسبة إلى هوية الشجرة التي تعرّضت للقطع. ويؤكد طوق أنّ شجر اللزّاب هو الذي كان يغطّي جبال لبنان وخصوصاً القمم العالية جداً بدءاً من 1950 متراً، ولغاية 2930 متراً، وهو الارتفاع الذي لا تعيش عليه أيّ شجرة أُبرية حرجية سوى شجرة اللزّاب، مؤكّداً أنّ هناك لزّابة معمّرة رصدها قبل القرنة السوداء بقليل، (على ارتفاع 2930 متراً، بينما تقع القرنة السوداء على ارتفاع 3080 متراً عن سطح البحر)، حيث لا يمكن لأي شجرة أبرية أن تعيش غيرها. 

ويؤكّد طوق أنّ “الأرز لا يعيش فوق 2000 متر، ويتّخذ من السفح الغربي لسلسلة جبال لبنان الغربية موطناً له كونه يحتاج إلى رطوبة عالية يستمدّها من البحر المقابل للسلسلة”. وهناك غابة أرز وحيدة تعيش في السفح الشرقي للسلسلة الغربية، وتحديداً في غابة محمية كرم شباط. ويعيد ضاهر قدرة الأرز على العيش في المحمية من جهة الشرق إلى “موقع المحمية التي يطلّ سفحها الشرقي على بحيرة حمص، وبالتالي يستمد الرطوبة التي يحتاجها نمو الأرز منها”، مؤكّداً أن اللزّاب لا يبالي بالجفاف والمناخ الجافّ والقاسي صيفاً وشتاءً ولذا نجده على أعلى مرتفعات جبال لبنان. و”هذا ما يمنحه فرادته”. 

ويدعم ضاهر هذا الكلام (بأنّ اللزّاب هو ما كان يغطي جبال لبنان) بالحديث عن عطر اللزّاب: “هناك مقولة أخرى تفيد أنّ بحّارة المراكب الآتية إلى لبنان كانوا يشمّون رائحة عطر الأرز عند اقترابهم من شواطئه”. ليؤكّد أنّ “لا رائحة للأرز، بينما اللزّاب هو الشجرة العطرية، وتفوح روائحه إلى البعيد، ويصنعون من صمغه البخّور، وعندما نفركه بين كفينا نجد رائحته عليها”.

4 أنواع من اللزّاب في لبنان

يوجد في لبنان أربعة أنواع من اللزّاب، من بين نحو 40 إلى 60 نوعاً موجودة في العالم من فئة “اللزّابيات” وفق الدكتور طوق، وهي “Juniperus Excelsa وjuniperus foetidissima  و Juniperus oxycedrus و  Juniperus drupacea”. ويسمّى الأوكسيسيدروس بالعرعر السوري أو الكوكلان (في جرود البترون وتنورين) ولا تكبر شجرته أكثر من 5 إلى 6 أمتار. بالمقابل، قد يصل ارتفاع الإكزلسا أو فوتيديسيما إلى 20 متراً، ويصعب التمييز بين هذين النوعين إلاّ من قبل خبير في اللزّاب، ويعتبر جرد الهرمل موطنهما كما عكار والضنية في لبنان. ويُعرف النوع الرابع من اللزّاب، أي دريباسيا باللزّاب الطفران ويعيش في مناطق أقلّ ارتفاعاً من الجرود العالية، وهو منتشر في سفح اللقلوق أيضاً. 

ويلفت طوق إلى أنّ نموّ اللزّاب أبطأ بنسبة 50% من نموّ الأرز و”لكنّه يعمّر أكثر بكثير منه”. وتحتاج اللزّابة إلى “500 سنة لتأخذ شكل الشجرة، إذ تكون على شكل جمّ أبري أخضر ينمو مع الوقت ويتشذّب بفعل عوامل الطبيعة حيث تبدأ الأغصان السفلية بالتكسّر مع الرياح والثلوج “مثلاً لزرعتهم من 30 سنة بعدهم جمّ لزّاب”. ويخلص إلى القول إنّ من يزرع اللزّاب “ما بده ينطر ليقعد تحته ويتفيّا، الأجيال القادمة هي التي ستفعل”.

اللزاب (تصوير كامل جابر)

خشب اللزّاب هو الأمتن

ويعتبر الدكتور ضاهر أنّ النمو البطيء للزّاب يمنحه خاصّية الصلابة أكثر من أيّ شجر آخر: “بيطلع خشبه كتير صلب وكتير كثيف”، مشيراً إلى أنّ جدودنا كانوا يستعملون خشب اللزّاب وليس الأرز لبناء بيوتهم لأنّه الأمتن “وما بيسوّس أبداً، وهو أقوى من الفولاذ”. ويبني ضاهر خلاصته على مشاهداته في البيوت الحجرية والطينية القديمة المهدّمة: “نجد جسر الحديد مصدأ ومكسوراً بينما جسر خشب اللزّاب ما زال متيناً وسليماً ومتماسكاً ولم يطلْه حتى السّوس”. ولذا كان خشب اللزّاب الأساس في بناء البيوت والقصور، و”لكن لأنّ الأرز مذكور في التوراة والكتب القديمة، كانوا يسمّون كلّ أشجار لبنان الحرجية أرز”.  

وإلى جانب البيوت، استعمل جدودنا خشب اللزّاب لاستخراج القطران، وفق ضاهر: “كانوا يحمّوا خشب اللزّاب ع النار ليطلع منه زوم أسود هو القطران ويستعملونه لعلاج مرض الجرب الجلدي، وليبعدوا الحشرات والأفاعي عن المنازل”. ويتحدّث عن “قطّارات” ما زالت آثارها موجودة في عكار، و”أفضل قطران هو قطران اللزّاب”. ويردّ صلابة خشب اللزّاب أيضاً إلى احتوائه على القطران “كتير قوي خشبه لأنّه القطران الموجود فيه هو ضد التسوس والحشرات ويقتلهم”. 

توليد اللزّاب من دون مروره بأمعاء الكيخن

قبل 30 عاماً، اعتقد الجميع أنّ شجر اللزّاب لا يتكاثر إلّا من خلال مرور ثماره (البذور) في الجهاز الهضمي لطيور الكيخن أو بعض القوارض، وهي نظرية دحضها د. طوق بعد دراسته لكيفية استنبات شتول للزّاب لاستعمالها في التشجير. بدأ طوق أبحاثه في 1990 “كنت عم بسأل كيف بدنا نولّد لزّاب وصرت إتعلّم شوي شوي، وصرت إسأل عن اللزّاب، ولمّن عرفت قديش هو مهم أدركت أنّ اللزّابة هي مستقبل جبالنا في لبنان”. يومها أكّد له الجميع “بما فيهم المهندسين الزراعيين إنّه بدّه ياكلوا الكيخن حتى ينبت لوحده”. بعد سنتين من الاختبارات، تمكّن طوق من توليد اللزّاب خلال شهر عبر 3 أو 4 طرق، بينما هي “بذرة بدها 3 إلى 4 سنين لتفرّخ”. ومن هذه الطرق “أول شي ننقع البذر بالمي المغليّة لمدة 15 ثانية، بعدها نضعها في مياه بحرارة 50 درجة لمدة 24 ساعة ونتركها لتبرد، ونجدها قد فرّخت بعد شهر بالتمام”. وفي طريقته الثانية، نقع طوق بذر اللزّاب بمزيج من نصفين: رمل وتورب (وهو نوع من السماد العضوي الممزوج بالتراب). وكون التورب يحتوي على مادة الأسيد فهو يسرّع نمو بذرة اللزّاب “وهيك من 30 سنة بدأت بتوليد اللزّاب وتشجيره”. بدأ طوق أيضاً منذ 8 سنوات بزراعة اللزّاب ع 2850 متراً “ونجح وكبر وعندي لزّاب زرعناه بالقرنة السودا صار طول الشجرة 50 سنتيمتراً”. ويقوم بحماية هذه الشجيرات عبر تسييج كل شجرة بالحجارة لوحدها ومن ثمّ تسييج المجموعة كلّها بطريقة تحميها من الرعاة الكثر صيفاً في القرنة السوداء وسفح جبل المكمل. 

 

مشروب جين اللزّاب

تعرّف طوق خلال وجوده في أوروبا على مشروب اسمه “جنيفر” (Jennifer) هو عبارة عن مزج كحول مع ثمرة (حبوب) أحد أنواع شجر اللزّاب “وهي كثيرة هناك”. وبما أنّ “كلّ بلد في العالم يستعمل نباتاته وأشجاره ليصنع منها منتجات خاصّة به، قلت بدّي جرب إعمل ليكور من أهمّ شجرة بالشرق الأوسط وهي اللزّاب”. وبما أنّ الليكور عبارة عن كحول مضافة إلى نكهات، “عملت ليكور من اللزّاب فقط، وآخر من اللزّاب ومن نباتات برّية عطرية ولديها نكهات ومنها الأرز والسنديان والبربريس وعنب الديب (السويّد) وهو نوع من الخوخيات، والشوح وغيرها، وأكيد إله فوائد كونه من الطبيعة”. 

 

 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، بيئة ومدينة ، سلطات إدارية ، أملاك عامة ، مجلة لبنان ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني