بذريعة المسّ بدول شقيقة: الأمن العام يحظر عرض فيلم “أين ذهبت كل الابتسامات؟”


2023-10-07    |   

بذريعة المسّ بدول شقيقة: الأمن العام يحظر عرض فيلم “أين ذهبت كل الابتسامات؟”
ملصق الفيلم الوثائقي في مسرح دوار الشمس في بيروت

في زوايا مسرح دوار الشمس في بيروت، كانت هناك حكاية تصارع كي تُروى، حكاية “ابتسامات ضائعة”، أصوات مكتومة وشاشات مطفأة. فيوم أمس الجمعة 6 تشرين أول 2023، وفي الموعد المحدد لعرض الفيلم الوثائقي “أين ذهبت كل الابتسامات؟” للمخرجة آنيا ستريليتش، تم تجهيز المسرح، واستعد الجمهور، ولكن بعد ذلك، حدث تطور مفاجئ. اختارت السلطات اللبنانية، الوصية على الضمير الثقافي للأمة، أن تُسدل الستار، بعد أن ضاق صدرها بقصص عمال نيباليين وثقتها المخرجة الكرواتية في 30 دقيقة.

ملصق مهرجان كرامة-بيروت عند مدخل مسرح دوار الشمس

هكذا أعلنت إدارة مهرجان كرامة – بيروت لأفلام حقوق الإنسان تبلغها من الأمن العام اللبناني حظر الفيلم الذي كان معدّا للعرض عند الساعة 6:30 مساء، ضمن فعاليات المهرجان السنوي، بحجة “الإساءة للدول الصديقة”. تقول إدارة المهرجان للمفكرة القانونية إنها تبلغت قرار المنع شفهيا، حيث رفض الأمن العام تبليغها قراره مكتوبا، مكتفين بجملة: “ما منعطيكم ورقة، بس هيدا فيلم يمس بدول شقيقة وممنوع من العرض.” المفكرة القانونية اتصلت بمكتب شؤون الإعلام في الأمن العام فاستهملنا لغاية الإثنين المقبل للرد على أسئلتنا.

والفيلم المنتج بالتعاون مع شركة Mountain River Films، وهي دار إنتاج مقرها نيبال، غير متاح للجمهور بعد، سواء للمشاهدة بشكل فردي أو على شبكة الإنترنت، إذ لايزال في مرحلة العرض العالمي الأول (World Premiere). وقد تطلبنا الأمر جهدا كبيرا للاطلاع عليه من مصادر خارجية، للوقوف على مشاهده، ليس بحثا عن مبررات حظره، بل في محاولة لفهم ماذا رأت فيه عيون الرقابة، وقررت أنه محتوى غير مناسب لعيون عموم اللبنانيين.

يروي الفيلم قصص عمال نيباليين بلسانهم. يتحدثون عن ظروف عملهم في الدول التي يقصدونها، لاسيما في الشرق الأوسط. صورت مشاهده بأكملها في النيبال، ويتضمن شهادات لشبان نيباليين، عمال ينتقدون الفقر والبطالة في الدولة المعلقة على سفوح جبال الهملايا، والسياسات الحكومية فيها التي تشجع على هجرة اليد العاملة، وأداء وكالات الهجرة في بلادهم، فضلا عن مقابلات مع عمال كانوا في دول خليجية، بوصفها مع ماليزيا، أكثر الوجهات استقطابًا لليد العاملة النيبالية، ودائما بحسب الفيلم المحظور لبنانيًّا.

لقطة من الفيلم الوثائقي لعمال نيباليين يتحضرون للهجرة

ويذكر الفيلم الوثائقي، عن لسان خبراء وأفراد من الأسر النيبالية، وعمال، سواء من المهاجرين أو الطامحين للهجرة، أن موجات الهجرة من النيبال تتصاعد كل عام ويعتمد الاقتصاد النيبالي بشكل

كبير على التحويلات المالية، دون أن يكون لدى العمال المهاجرين أدنى فكرة عن المصاعب التي قد تنتظرهم في الخارج، بسبب الوعود غير الدقيقة، والمضللة أحياناً والخادعة، التي تقدمها شركات التسفير التي قد تستغلهم ماديا بدورها، ليطرح الإشكالية التالية: هل ينبغي أن يستمر الناس في العيش في ظروف سيئة في بلدانهم أم يواجهون ظروف عمل سيئة قد تصل حد المرض والموت في الخارج؟

وقد عرض الفيلم حتى اللحظة في مهرجانات سينمائية مشابهة حول العالم، من مهرجان جاغران السينمائي في الهند، ومهرجان ماس لحقوق الإنسان في نيكاراغوا، ومهرجان نيبال السينمائي الدولي في هامبورغ الألمانية، وصولًا إلى مهرجان كالجاري للعدالة السينمائي في كندا، فيما تتحضر مخرجة الفيلم المقيمة في بلجيكا لعرضه قريبًا في بلدها الأم كرواتيا.

وإذ لم يواجه الفيلم قرارات بالحظر باستثناء القرار اللبناني، تواصلت المفكرة القانونية مع المخرجة آنيا ستريليتش، التي كانت قد أعلنت بحماس في تموز الماضي عن عرض الفيلم في بيروت، لتبدي أسفها بشأن الحظر، مفضلة عدم التصريح إعلاميا في الوقت الحالي.

لقطة ثابتة من فيلم المخرجة آنيا ستريليتش

بدوره يقول مدير مهرجان “كرامة – بيروت” هيثم شمص إن اختيار الفيلم جاء بناء على هوية المهرجان المختص بأفلام حقوق الإنسان التي تطرح قضايا مثل العنصرية وخطاب الكراهية والعمال وحقوق النساء، مشيرا إلى أن الهدف هو عرض هذه القضايا ليتفاعل معها الناس، ولخلق نقاشات تساهم في تطوير الأفكار على تنوعها واختلافها، مؤكدا أن النقاشات تغني أما المنع فيجعل المجتمعات خاملة فكريا.

وإذ يشير شمص إلى أن “جمهورنا يعرف أن القضايا المعروضة فيها أخذ ورد ونقاشات”، يؤكد من موقعه أن “أي فيلم هو بطبيعته يعبر عن نفسه، وعن مخرجه، ولا يجب له أن يعبر عن موقف دولة أو مجتمع بأكمله”، مؤكدًا: “من حق الجميع التعرض لمختلف الآراء حول مختلف القضايا، والاتفاق معها أو معارضتها، والانخراط في نقاش، فالمهم هنا التبادل والتفاعل وليس المنع”.

وتستند قرارات حظر الأفلام في لبنان إلى قانون “إخضاع جميع الأشرطة السينمائية للمراقبة” الصادر في 1947، ويُخضع جميع الاشرطة السينمائية لمصلحة المراقبة في مديرية الامن العام، وينص على أن قرارات المنع يجب أن تصدر عن وزير الداخلية بعد مراجعته من لجنة خاصة تضم مندوبين من الأمن العام ، وزارة الخارجية ، وزارة التربية الوطنية، وزارة الاقتصاد الوطني والشؤون الاجتماعية. ويحدد القانون مبادئ فضفاضة لمراقبة الأشرطة السينمائية، سواء لناحية “احترام النظام العام والآداب وحسن الأخلاق، واحترام عواطف الجمهور وشعوره واجتناب إيقاظ النعرات العنصرية والدينية، والمحافظة على هيبة السلطات العامة، ومقاومة لكل دعوة غير مؤاتية لمصلحة لبنان”.

ومع التاريخ الطويل لحظر السلطات اللبنانية لأفلام بناء على تفسيراتها لهذه النصوص، وبغض النظر عن عدم جدوى هذه القرارات في عالم مفتوح وبوجود الانترنت، فإن التضييق على الحريات الفردية والحق في التعبير والوصول للمعلومات في لبنان مستمر وبانتكاسات متلاحقة بفعل هذه الممارسات، حيث يشكل الاعتماد على قانون 1947 لمراقبة ومنع الأفلام أحد العوائق التي تمس بحرية التعبير المكفولة في الدستور.

في مسرح دوار الشمس، ومع إعلان عدم بث الفيلم، ترددت همسات عدم التصديق والغضب بين الحضور. بدا القرار متناقضًا: فيلم عن الأحلام والصراعات، كان المقصود منه أن يكون جسرًا بين مجتمعين، حيث تتشابه قضايا الهجرة والبحث عن مستقبل في الخارج بين بيروت وكاتماندو(العاصمة النيبالية)، إلا أنه الآن يقبع في الظل. ظلت بكرة فيلم “Where Have All The Smiles Gone” أسيرة الكتم، ولم تُحك قصتها. أصبح حظر الفيلم الوثائقي أكثر من مجرد قرار أمني بإشهار بطاقة الرقابة، لقد أصبح الآن سردًا، وفصلًا في مسلسل تشديد القبضة القمعية على المشهد الثقافي اللبناني، قبضة تستعمل قيمها الخاصة وتفسيراتها للآداب والأخلاق تارة، وحجج العلاقات الخارجية ومصلحة لبنان تارة أخرى، ليكون السؤال، أين ستتوقف، أو ماذا سيكون “الممنوع” التالي؟.

الفيلم الوثائقي يحكي قصص عمال نيباليين مهاجرين بعضهم عاد متوفّيًا
انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، حرية التعبير ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني