بحثًا عن العامّ الذي ما يزال حيّا


2023-07-26    |   

بحثًا عن العامّ الذي ما يزال حيّا
تصميم ميلاد أمين

هناك ميلٌ عجيب عند الإنسان المهزوم، يُشعره دائماً أن ما قد مضى، ليس فقط كان أفضل، إنّما كان أحسن الأحوال. فيصبح في حالة شبه دائمةٍ من البكاء على الأطلال. لم تكن أوضاعنا في أحسن حالها، فقد كانت الأزمة مخفية، ولكن مع حدّتها اليوم، لا نظرة إلى المستقبل، حسرةٌ دائمة على الماضي، وحاضرٌ غائب. أموات أحياء.

في نزهة على كورنيش المينا الصيف الماضي، استوقفت بعض المارة وبعض الذين يتّخذون الحافة من الناحية الأخرى كمكان تسكّع أكثر هدوءاً لهم. أسألهم، هل سمعتم عن عقار المينا الوهمي في البحر؟ يستغربون. أحدهم قال: كلّأ، لكن سمعت بمن غرقوا في البحر. عقار وهمي هو تعبير عجيب بكل الأحوال، فأشرح. الغالبية منهم لا فكرة لديها عن هكذا مشروع. أتابع، ماذا قد تفعلون إن سلبوا البحر منكم؟ الغالبية مهزومة. أموات أحياء.

شابٌّ آخر على المقعد الخشبي استطرد في الحديث وقال: “ماذا يحتاج المواطن من الدولة غير تعليم وتغطية صحية وضمان شيخوخة؟” فكرت وقلت لنفسي، يكفي. ففي الوضع الحالي، لا ضير من أن ننظر للدولة كأداة حماية للمجتمع، لا بل بالعكس، بداية عظيمة. لكن سارع للتعبير بعد ثوانٍ قليلة في الجملة نفسها عن امتنانه لجامعة العزم ونجيب ميقاتي، رئيس الحكومة حينها، كون الأقساط بقيت تُحسب على سعر الصرف “الرسمي” 1500 ليرة، فتسنّى لأخته إتمام تعليمها العالي. عامّ خاصّ.

رجلٌ متقاعد، سئمٌ من الدولة وأملاكها: فليبيعوها ربما نستفيد منها. وبعدها بدقيقة عندما يتكلّم عن محاولات ابنه تأمين سكن يقول: “على الدولة بناء بيوت للشباب على أراضيها”. عامّ خاصّ.

شاب آخر في قهوة الرصيف التي تفرش كراسي البلاستيك والخيم على حدود الحديقة العامة يستنكر كيف أصبح الكورنيش كلّه “مخصخصاً” بوضع اليد، مجازياً (أو حَرفياً بوضع الخيم والكراسي). أسأله عن حال الرصيف الذي يفترش. يقول، “هذا خاصّ”. عامّ خاصّ.

قبل تلك النزهة بشهرين، كان قد تسنّى لي خوض حوارات أطول وأعمق مع عدد من الناس، العائلة والأصحاب ضمناً، حين ترشحت للانتخابات النيابية ضمن لوائح “قادرين”. كنت قد توقّعت حينها أن التحدّي الأبرز الذي سوف أواجهه هو بُعد الناس عن معنى السياسة الحقيقي، وهو حياتهم. وأن المشكلة كانت الحاجة للتوفيق بين السياسة والسياسات العامة. لكن كان هناك شيءٌ آخر. فقليلون من يختلفون معك أن التعليم والتغطية الضحية حاجات أساسية على الدولة تأمينها. لكن الكثيرون يعبّرون عنها كتمنٍّ، ليس حتى كحلم فيسعنا الكلام عن كيفية تحقيقه، أو حقّ فنناضل لاكتسابه، ولا توجد حتى لديهم توقّعات من أي جهة رسمية -ولا أقول دولة هنا عن قصد فهي دوماً فاعل مجهول- أن تفعل أي شيء. مجرّد تمنٍّ، وعتب. أموات أحياء.

غالباً ما نغرق نحن الباحثون والناشطون في معارك استرداد حقوقنا مع السلطة. فحين نحقق انتصاراً ما، نحتفل به باسم المجتمع، ونكاد لا نصدّق أننا خطونا خطوة إلى الأمام في مسيرة بناء وتعريف تلك الدولة.

لكن أين “المجتمع” من كل هذه المعارك؟ أفعلاً نناضل باسمه؟ ما هو هذا المجتمع؟ ماذا يجمعه إن كان مجتمعاً؟ المكان؟ الزمان؟ الأزمة؟

لا شيء. أليس بحاجة لدولة فيكون؟

ولمن هي المصلحة “العامة”؟ حين لا تلتقي تلك مع خيارات -لِنقل معظم- الناس، ماذا يمكن أن نفعل؟ ربما نسمّيها مصالح عامة. ولكل عامٍّ منها تعريفه. وكذلك الأملاك العامة، لكلّ منا حصّته حسب موقعه في هيكلية السلطة، وبرضىً تام. كرسي بلاستيكية بيضاء على زاوية الرصيف “لنشوف وجه ربنا” للأقل حظّاً. فندق فخم على الشاطئ الرملي أو عقار ملء البحر للأوفر حظّاً. ومروحة من الممارسات ما بينهما. هذه هي قواعد اللعبة، ركائز النظام. والأدوار واضحة: “المواطن العادي”، يحفظ قواعد اللعبة عن ظهر قلب ثمّ يتمرّس يومياً في تفسيرها وتطويعها استنسابيَّا وبحرفية حسب حاجاته الملحّة، فهكذا يبقى على قيد الحياة، حي ميت. “التغييري”، يغير كل شيء ما عدا قواعد هذه اللعبة؛ وهو مدافع شرس عن المواطن العادي طبعاً، غالباً من خلال الجمعيات؛ الخ. عامّ خاصّ.

أين المناضل السياسي؟

وكيف نعرّف العمل السياسي أساساً حين أصبحت حاجات أغلب الناس الأساسية المعيشية اليومية معدومة؟ كيف لحديقة أو لكورنيش أو لقضيّة أن تجمعنا؟ تجلّت تراكمات ترقيع الأزمات وأين لها أن تمتثل أمامنا وتناقضاتها سوى بكل ما هو مفترض عام؟ على أشكاله: الإدارات العامة، الجامعة اللبنانية، الرصيف، أملاك الدولة المعروضة للبيع…

ربما بقيت للنضال فسحة أفلتت من الكرسي البلاستيكي ومن المنتجعات. أينما كانت، نحميها وننطلق منها بتعريف جديد للعامّ، عامّ لا يصبح خاصّا في آخر الجملة. عامّ حيّ.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أملاك عامة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني