انتظام شهادة البكالوريا: الأزمة تهدّد المدرسة الرسميّة أكثر من الحرب


2023-08-02    |   

انتظام شهادة البكالوريا: الأزمة تهدّد المدرسة الرسميّة أكثر من الحرب

يقوم التعليم على أربع حلقات أساسيّة هي التخطيط والتعليم والتقويم والدعم. والتقويم على الصعيد الوطني، أيّ إجراء شهادات رسميّة على مستوى البلد كلّه، تقويم تقريريّ، من وظائفه الأساسيّة تقرير انتقال الناجحين إلى التعلّم الجامعي أو المهني أو الحياة العمليّة بناء على نيل شهادة نجاح. وقد أصبحت شهادة البكالوريا، رمزًا للانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وهدفًا جامعًا يسعى الطلاب لتحقيقه ويتطلّع إليه الأهل والمدارس، وعتبة يعدّ تخطّيها أساسًا في التنظيم الاجتماعي لمراحل الحياة المختلفة، ومعيارًا لتقويم اكتساب المهارات والمعارف التي يتطلّبها المنهاج من جميع المتعلّمين، في مرحلة معيّنة.

وقد بدأ إجراء امتحان البكالوريا قسم ثانٍ في لبنان سنة 1925، بمعنى أننا نقترب من مئويّة البكالوريا اللبنانيّة. وخلال هذه الأعوام الثمانية والتسعين، انتظم إجراء البكالوريا فيما عدا فترة الحرب الأهليّة.  فقد ألغيت البكالوريا قسم ثان، منذ 1975 حتّى اليوم أي خلال 48 سنة، 8 مرات، بالإضافة إلى إلغاء الدورة الثانية سنة 1975.

كانت الظروف الأمنيّة السيئة خلال الحرب الأهليّة سببًا أساسيًا للإلغاء (6 مرات في سنوات 1976 و1978 وبين 1985 حتى 1988). كما ألغيت لاحقا في 2014 تبعا لإضراب الأساتذة و2020 بسبب جائحة الكورونا. وقد انتهت السلطة في كل هذه المرّات إلى منح إفادات إلا في سنة 1976 حيث لم تجرِ الامتحانات ولم تعطَ الإفادات. 

وفي حين استخدم الأساتذة مقاطعة تصحيح الامتحانات كأداة فعّالة للضغط مرّات عديدة، إلا أنه لم يحصل أبدًا أن كانت هذه المقاطعة سببًا في إلغاء البكالوريا وإعطاء الإفادات سوى في العام 2014. فلماذا وصل التفاوض مع السّلطة إلى حائط مسدود في الـ 2014، بينما كانت التسويّات ممكنة قبل ذلك؟ كانت السلطة عاجزة عن تطبيق الإصلاحات الضروريّة التي تسمح بإقرار السلسلة فاتخذت القرار باغتيال قيادة الحركة النقابيّة المستقلّة. وحاولت خلال 5 سنوات (من 2012 حتّى 2017) التهرّب من إقرار السّلسلة والإصلاحات، ثمّ تحت ضغط تحرّك الأساتذة وخوفًا من خسارة جماهيرها بينهم أقرّت سلسلة مبتورة من دون أيّ إصلاحات. والمؤكّد هنا، وعكس ما قد يشيع في الفضاء العامّ، لم يكن إضراب الأساتذة سببًا في إلغاء البكالوريا رغم استعمالها أداة للضغط مرّات عديدة.

وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة 2021-2023، أجريتْ البكالوريا قسم ثانٍ بصورة مجتزأة إذ اضطرّت الوزارة إلى اتخاذ إجراءات خاصّة مثل اعتماد المواد الاختياريّة وتقليص الموادّ التعليميّة بسبب عدم إنجاز المتعلّمين في القطاع الرّسمي للمناهج، فامتُحِن المتعلّمون بأقلّ من ربع المنهاج.

يبدو جليًا إذًا أنّ انتظام إجراء البكالوريا في لبنان ارتبط بالاستقرار الأمنيّ والسياسيّ والاقتصاديّ. إذ حتّى في الأعوام التي أجريتْ فيها الشهادة خلال الحرب، شابها الكثير من التحدّيات والاستثناءات التي تحدّ من شفافيّتها وقيمتها، ومنها على سبيل المثال إعطاء 55 علامة استلحاق في العام 1079، وإجراء ثلاث دورات في العام 1977 وأربعة في العام 1984. كما حامت شبهات كثيرة حول تسريب أسئلة بعض المسابقات بصورة متكرّرة وتعرّض مقرّرو بعض اللجان لتحقيقات من دون الوصول إلى تأكيد أو نفي الشبهات كما هي عموما الحال في لبنان للأسف.

ولم تبلغْ الهوّة بين الرّسمي والخاصّ ما بلغته خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تمكّن القطاع الخاص من إعداد المتعلّمين لشهادة الثّانويّة العامّة بينما عجز القطاع العام عن ذلك. وهو ما لم يحصل حتّى في فترة الحرب الأهليّة لأنّ الإقفال حينها كان يطال المناطق المتأثرة بالحرب ولا يميّز بين القطاعين الخاص والرسميّ. وقد بات تراكم الفاقد التعلّمي منذ 2019 حتّى اليوم، أي خلال أربعة أعوام دراسيّة متتاليّة، خصوصًا في القطاع العام يهدّد بكارثة فعليّة. إذ إنّ جيلًا بأكمله قد لا يمتلك مهارات أساسيّة مثل القراءة والكتابة والحساب. وتتركّز هذه الخسارة بصورة كبيرة في الشرائح المجتمعيّة الأكثر فقرًا وهشَاشة.

وانتظام إجراء البكالوريا لا يتعلّق إذًا بمجرّد إجراء الشهادة الرسميّة كيفما كان، بل في معالجة الثغرات الكثيرة التي تحدّ من قيمتها وتوفير جوّ الاستقرار الأمنيّ والسياسيّ والاقتصاديّ ليكون التعلّم فاعلًا فتعبّر الشهادة عن اكتساب معارف ومهارات وسلوكيات ذات قيمة تربويّة واجتماعيّة لجميع الشرائح الاجتماعيّة.

وصحيح أنّ الكثير من حاملي شهادة البكالوريا من القطاعيْن الرسميّ والخاصّ، خلال السنوات الثلاثين الماضية، قد نجحوا في التعليم الجامعي في لبنان والخارج. لكنّ الصحيح أيضًا أنّ التقييم الدولي الذي شارك فيه لبنان عدّة مرات أظهر أنّ معدلات لبنان العامّة منخفضة جدًا، وأنّ أعطالًا بنيويّة تشوب عمليّة التعلّم ومنها مثلًا مستوى إتقان اللغات الأجنبيّة وتأثيرها على تعلّم مواد العلوم.

وفي حال استمرّ الانهيار غير المسبوق للقطاع العام، فإن تحقيق المتخرّجين منه نتائج جيّدة قد يصبح من أحلام الماضي الجميل؛ كما أصبحتْ فترة نجاح المدرسة الرسميّة وفاعليّتها من الأحلام الجميلة التي قضت عليها الحرب الأهليّة. ثمّ إنّ موجة ارتفاع الأقساط المدرسيّة الجنونيّة المتوقعة في بداية العام الدراسي المقبل تعمّق الأزمة وقد تؤدّي إلى المزيد من العواقب الكارثيّة خصوصًا موجات تسرّب واسعة مباشرة أو مقنّعة. فنحن إذًا لسنا أمام مرحلة عابرة بل أمام تهديد حقيقي بكارثة نخسر فيها كلّ تراكمات الإرث العثماني والفرنسي ومرحلة فؤاد شهاب في مجال التربية. 

 شوائب بنيويّة

ليست هذه النتائج الكارثيّة وليدة الأزمة الاقتصاديّة وحدها، بلّ إنّ أعطالًا بنيويّة مستدامة، عجزت وزارة التربية كما الدولة اللبنانيّة عامّة عن معالجتها ووضع الخطط لتفاديها، تراكمت عبر سنوات طويلة أدّت إلى انهيار التعليم الرّسمي بسرعة أمام الأزمة. ومن الأزمات البنيويّة/الهيكليّة التي تعاني منها الامتحانات الرسميّة:

الهوّة بين التعليم والتقويم

طوّرت أنظمة التقويم في مناهج 1997 بعد الانتهاء من تطوير المناهج، بناء على نظريّات ولجان عمل مختلفة تمامًا عمّا اعتمد في المناهج، وقد نتج عن ذلك وجود هوّة واسعة واختلاف كلّيّ بين ما تحويه الكتب التعليميّة الصادرة عن المركز التربويّ وبين الكفايات والأهداف المطلوبة للتقويم في معظم مواد المنهاج. ففي اللغة العربيّة على سبيل المثال لا تحتوي الكتب التعليميّة الرسميّة في التعليم الثانويّ سؤالًا واحدًا مما يُطرح في الامتحانات، ولا يعتمد أساتذة اللغة العربيّة في الثانويّات الرسميّة على الكتاب الرّسمي للتدريس. وقد استمرّ هذا الخلل 23 سنة دون أي معالجة.

عدم توفّر آليّات الدعم

يعدّ التقويم إحدى حلقات التعليم الأساسيّة ومن وظائفه التحقّق من اكتساب المتعلّمين للأهداف خلال عمليّة التعلّم من أجل تقديم الدعم المناسب ومعالجة أي خلل والتثبّت من اكتساب جميع المتعلّمين لمعظم الأهداف المتوخاة. وإجراء التقويم من دون تقديم الدعم المناسب يجعل التقويم مجرّد عمليّة تنافس تسبّب الأزمات ولا تسمح بالمعالجة.

وقد قضت نظم التقويم المنصوص عليها في مناهج 1997 على تقديم دعم منظّم للمتعلّمين ليكتسبوا الأهداف التي يُظهر التقويم التكويني خللًا في اكتسابها، وهي لذلك أجازت الترفيع الآلي في الحلقة الأولى من التعليم الأساسيّ، لكنّ الدّعم لم يُنفّذ أبدًا بصورة منهجيّة ومنظّمة في المدارس الرسميّة في لبنان، ولا في معظم المدارس الخاصّة، إذ لم تصدر وزارة التربية أيّ آليّات واضحة تلزم المدارس بتطبيقه.

التقويم الشفهي وتقويم التكنولوجيا

عجزت وزارة التربية طيلة 23 سنة عن إجراء تقويم شفهي في مواد اللغات، فتراجع تدريس مهارات التواصل والتعبير الشفهيّ في اللغات في المدارس اللبنانيّة الخاصّة والرسميّة، ما يؤثّر سلبًا على مستوى إتقان المتعلّمين لهذه اللغات، فهي مهارة منطوقة ومحكيّة قبل كلّ شيء.

كما عجزت الوزارة عن تعليم التكنولوجيا ومن ضمنها مهارات استعمال برامج الكومبيوتر الأساسيّة، في المدارس الرسميّة بصورة منظّمة، فسقط بنتيجة ذلك تقويم هذه المادّة التي تعدّ إحدى أهمّ المهارات التي يجب أن يكتسبها الطلّاب في القرن الواحد والعشرين. 

جمود توصيف المسابقات الرسميّة

حدّدت أدلّة التقويم الصادرة عن المركز التربوي بعد صدور مناهج 1997، شكل المسابقات في الامتحانات الرسميّة وأجزاءها وتوزيع العلامات على كلّ جزء. كما وضعت نماذج عن أسئلة ومسابقات يجب اعتمادها في الامتحانات الرسميّة. وقد طرأت على هذا التوصيف منذ صدوره تعديلات طفيفة غير ذات أثر، ما جعل مسابقات الامتحانات الرسميّة تتصف بالجمود وتكرار الأسئلة نفسها لسنوات طويلة حتّى أنّه بين أيدي المتعلّمين اليوم مقرّرات خاصّة بالامتحانات الرسميّة، يحفظونها ويعرفون الأسئلة المناسبة لها، تنحصر في بعض الموادّ بأقلّ من عشرين سؤالًا، قد يكتبونها من دون أي فهم أو تحليل وينالون علامات عالية. وقد ساء هذا الوضع بعد التقليصات المتكرّرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما جعل الأهداف التي يُمتحَن بها المتعلّمون لا تتعدّى 15% مما نصّت عليه مناهج 1997. ويبلغ الجمود ذروته في مادّة التاريخ التي لا تزال تُدرّس وتقَوّم بنفس الطرائق والأسئلة منذ 60 سنة تقريبًا!. معدّل علامات اللغة الفرنسيّة في المدارس التي تدرّس البكالوريا الفرنسيّة مقارنة بالمعدّل العام.

بنك الأسئلة

أطلق العمل بمشروع “بنك الأسئلة” في أيلول 2007، وهي محاولة لمأسسة وتنظيم وضع المسابقات في الامتحانات الرسميّة. إذ يغذّيه الأساتذة من كلّ لبنان بصورة متواصلة بنماذج تتناسب مع توصيف الامتحانات. لكنّ هذا المشروع لم يعمل بانتظام فقُطعت تغذيته بالنماذج وسيطر عليه التحاصص والفساد. وقد أعدّ التفتيش التربويّ تقريرًا عنه في نهاية العام الدراسي 2017/2018 بيّن الخلل في عمله.

 فكيف تُوضع مسابقات الامتحانات الرسميّة إذًا؟

يقدّم مقرّر كلّ مادّة في لجان الامتحانات الرسميّة مسابقتين أو ثلاث للمدير العام لوزارة التربية ثمّ تُسحب واحدة منها وتُعتمد كمسودّة. تجتمع لجنة المادّة في مركز الامتحانات في وزارة التربية ليلة إجراء الامتحان وتعدّل هذه المسودّة لتخرج المسابقة بصورتها النهائيّة. وفي هذا الإجراء شوائب كثيرة جدًا. فهل يمكن حصر وضع مسابقة وطنيّة بشخص واحد لعدّة سنوات متتابعة؟ فكلّ ضعف أو خلل لدى مقرّر المادّة سينعكس على المسابقة طيلة سنوات عديدة. ويرتبط مستوى المسابقة والأهداف التي تدور حولها بشخص مقرّر المادّة وتتحوّل أحيانًا مناقشة اللجنة للمسابقة إلى خلاف شخصيّ مع المقرّر الذي وضع المسودّة.

بالإضافة إلى أنّ معظم مقرري المواد ونوابهم أساتذة يدرّسون في مدارس خاصّة في الملاك أو بالتعاقد ما يشكّل تضاربًا واضحًا في المصالح ويسهّل لهذه المدارس استغلال هذا التمييز في اجتذاب المتعلّمين إليها.

لجان الامتحانات

تشكّل وزارة التربية لكلّ مادّة لجنة امتحانات، لكلّ لجنة مقرّر ومساعد مقرّر. تقوم اللجنة بمهام مراجعة وتدقيق المسابقة ليلة الامتحان، ووضع أسس التصحيح، ومناقشة هذه الأسس مع المصحّحين والمساهمة في الإشراف على التصحيح. وكما في كلّ أعمال ولجان وزارة التربية لا يخضع تشكيل لجان الامتحانات لأي معايير موضوعيّة بل تسيطر المحاصصة الطائفيّة على اختيار أعضاء اللجان ومقرّريها، من دون أيّ دور للكفاءة والنزاهة. وقد تشكّلت أحيانًا بين أعضاء بعض اللجان ومدارس خاصّة شراكات ومافيات….

امتحانات 2023

أدركت معظم النظم التربويّة أنّ امتحانًا نهائيًا بعد 15 سنة تعلّم من الروضات حتّى نهاية السنة الثالثة من التعليم الثانوي، تقويم محدود وخصوصًا غير عادل، لذلك أضافت إليه على سبيل المثال البكالوريا الفرنسيّة، تعديلات أساسيّة ترافقت مع تعديل المناهج الفرنسيّة. وقد بدأ تطبيق التعديلات في امتحانات 2021، فأصبحت النسب في علامات شهادة البكالوريا قسم ثان على النحو الآتي:

40 % للامتحانات الصفيّة المستمرّة  contrôle continu في صفّي البكالوريا قسم أوّل والقسم الثاني.

 60 % لعلامات الشهادات الرسميّة.

ولكنّ الـ 60%  تنقسم إلى قسمين:  50 % لمسابقات الامتحانات الرسميّة + 10 %  للاختبار الشفهيّ العام الذي يسمّونه grand oral، ويهدف إلى تقويم قدرة المتعلّم على التعبير في المجال العام، ومهارته في الإقناع والدفاع عن أفكاره وخياراته ومشروعه في التعليم الجامعي، أمام لجنة تناقشه في ما يقدّمه.

ومن ضمن الـ 50 % للامتحانات الرسميّة النهائية، هناك 10 % لعلامات الاختباريْن الشفهي (5%) والخطّي (5%) للغة الفرنسيّة الذي يجري عند نهاية البكالوريا القسم الأوّل، فتبقى نسبة 40% فقط لامتحانات البكالوريا قسم ثان الرسميّة، وتتركّز هذه الـ 40% على مواد الاختصاص فقط.

 لهذه التعديلات فوائد كثيرة جدًا، يهمّنا منها هنا أنّ علامات الشهادات الرسميّة لم تعدْ هي المقرّر الوحيد لنجاح المتعلّمين والمتعلّمات وأُخذ بعين الاعتبار عملهم طيلة العامين الدراسيين الأخيرين. 

فلماذا لم يعتمد لبنان إجراءات مشابهة خصوصًا أنّ كلفة اجراء الامتحانات كانت غير متوفّرة؟

إنّ وزارة التربية اللبنانيّة عاجزة عن البحث والتخطيط، ويغلب على القرارات طابع العشوائيّة وتوفير قنوات التنفيعات، ففي بداية العام الدراسيّ 2022/2023 لم تتوقّع الوزارة تعثّر العام الدراسيّ، ولم تضع خططًا واستراتيجيّات لمواجهة الأزمة، ولم تقمْ بأي دراسة تبيّن فيها الخيارات الممكنة لمعالجة التعثّر وإجراء البكالوريا أو إلغائها، وإيجابيّات وسلبيّات كلّ منها.

أصرّت الوزارة على إجراء امتحانات البكالوريا للعام 2023، ضاربة عرض الحائط الهوّة التي تزداد عمقًا بين الرسمي والخاص ولم تتّخذ أي إجراءات لمعالجة مشكلة الفاقد التعلّمي خصوصًا في القطاع العام ولم تعالج الأعطال البنيويّة التي تحدّ من فاعليّة هذه الامتحانات. كان إجراء هذه الامتحانات بمثابة العصا التي تسوق بها الوزارة الأساتذة للعودة إلى الصفوف من دون تحقيق أي مطلب من مطالبهم. وقد سهّلت روابط التعليم الرسمي التي تسيطر عليها أحزاب السلطة الضغط على الأساتذة وترهيبهم بعدما كشفت الغطاء النقابي عن إضرابهم.

خطّة المواجهة الوحيدة التي اعتمدتْها الوزارة ولا تزال تعتمدها، هي استعطاء المنظّمات الدوليّة والالتفاف على مطالب الأساتذة من خلال روابطهم المتواطئة، والاستمرار في تغطية قنوات التنفيعات والهدر والفساد في صرف ما تبقّى من قرض وهبة البنك الدوليّ.

ولم يُبذل جهد حقيقي لتأمين الحدّ الأدنى من مطالب الأساتذة ولم تُنتج على سبيل المثال، موارد رقميّة للتعلْم غير المتزامن، تتضمّن دروسًا تفاعليّة تبيّن للمتعلّم الإجابات الصحيحة وتلك الخاطئة فيستعملها المتعلّم في تعلّم مستقلّ، ولا وسائل للتقويم الذاتي، والمنصّات التي أطلقها المركز التربويّ متأخّرًا، غير فاعلة، تتوجّه للأساتذة وليس للمتعلّمين وبعضها يُضرب به المثال في التخلّف خصوصًا تطبيق ebook الذي عمد فيه المركز التربويّ إلى تصوير الكتب التعليميّة وإيرادها كصور جامدة لا يمكن استعمالها حتّى في أبسط التقنيّات مثل القصّ واللصق، إذ لا يملك المركز التربويّ الأصول الطباعيّة لهذه الكتب التي أنتجت بين عامي 1997 و2000. ولم توضع آليّة لجمع العلامات المدرسيّة والحفاظ على دقّتها وشفافيّتها، فيمكن بعد ذلك استخدامها كجزء من علامات البكالوريا.

والإجراء الوحيد الذي تلجأ إليه وزارة التربية والمركز التربويّ للبحوث والإنماء هو تقليص المنهاج. وبالرغم من ذلك لم تؤمّن معلومات دقيقة ولا وضعت معايير واضحة لتنفيذه بصورة ناجحة فنحن لا نعرف حتّى اليوم عدد أسابيع التعلّم الفعليّ في المدارس الرسميّة خلال العام الدراسيّ 2022/2023 ولا معايير التقليص، فبعض الموادّ عادت إلى تقليص 13 أسبوعًا الذي طُبّق في العام الدراسيّ الماضي 2021/2022، وبعضها الآخر اقتصر على الدروس التي يقدّر أنّها أنجزت خلال الأشهر الثلاثة من بداية العام الدراسيّ، بينما سعت موادّ أخرى أن يشمل التقليص الأهداف الأساسيّة للمادّة، وربما يكون هذا التخبّط وهذه العشوائيّة هي السبب في تفاوت تقييم المتعلّمين والأساتذة لمستوى صعوبة المسابقات، التي اعتُبِر بعضها صعبًا جدًا كمسابقة الرياضيّات لفرع العلوم الطبيعيّة، رغم تخفيض المطلوب والتساهل المبالغ فيه في وضع المسابقات ومراقبة الامتحانات وتصحيحها ما جعل النجاح غير ذي معنى وأحيانًا خطرًا إذ يعطي تقديرًا وهميًا لطلاب بعضهم قد لا يتمكّن من إنجاز عامه الدراسيّ الأوّل في الجامعة لأنّ التقدير الذي حصل عليه كان وهميًا، رغم الكلف التي سيتكبّدها من مال وجهد وسنين من عمره.

وفي النهاية، تبيّن وثيقة صادرة عن البنك الدولي رقم التقرير 108014-LB، عن وجهات استخدام القرض والهبة الممنوحين لوزارة التربية والمركز التربويّ للبحوث والإنماء، أنّ مبلغًا كبيرًا خصّص لتطوير استراتيجيّة تقويم شاملة في لبنان وقدره 4 ملايين دولار (صفحة 43 من المؤشر 8,3 من التقرير المذكور)، كما خُصّص مبلغ 18,4 مليون دولار (صفحة 41 من المؤشر رقم 4 في التقرير المذكور) لإجراء تقويم تكويني على عيّنة صغيرة من المدارس (180 مدرسة) في اللغات والرياضيّات للصفّ الثالث الأساسي. ولكنّنا لا نعرف هل صُرفت هذه المبالغ أم لم تصرف ولماذا لم تُعدّل وجهة استخدامها بناء على تغيّر الأولويات، فتستخدم لمعالجة الفاقد التعلّمي ودعم الأساتذة ما يساعد في انتظام التعليم وانتظام التقويم؟

فلا تكون البكالوريا مجرّد إفادة تبيّن عدد السنوات التي قضاها المتعلّم في التعليم الأكاديمي أو المهني، وتدلّ على إنهائه هذه المرحلة ولا تكون خصوصًا أداة لتطويع الأساتذة، ولا إنجازًا يضاف على السيرة الذاتيّة CV لوزير التربية ولا قناة مضمونة للمحاصصة وتنفيع الأزلام، بل شهادة تبيّن اكتساب المتعلّمين لمهارات ومعارف ومواقف وسلوكيات معيّنة، الوصول إليها متاح لكافّة الشرائح الاجتماعيّة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في التعليم ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني