المدارس الرسميّة تُشرّع أبوابها لـ “الخيّرين”.. فهل تتحوّل إلى مناطق نفوذ؟


2023-09-29    |   

المدارس الرسميّة تُشرّع أبوابها لـ “الخيّرين”.. فهل تتحوّل إلى مناطق نفوذ؟
رسم رائد شرف

يخشى مديرو المدارس الرسميّة عدم قدرتهم على فتح المدارس هذا العام، فالأمر لا يتعلّق بالنسبة لهم فقط بموضوع انتظام الأساتذة فحتى في حال تحقّق هذا الأمر فمعظمهم غير قادر على تشغيل مدرسته بسبب فراغ الصناديق. وأمام هذا الواقع لجأ عدد من المديرين ولا سيّما في الثانويات إلى “حلول” حوّلت المدرسة الرسميّة إلى متسوّل وشرّعت أبوابها لـ “الخيّرين”، وبات مقبولًا أن يظهر مدير مدرسة يُفاخر بأنّ العام الدراسي في ثانويّته سيكون “منتظمًا” بفضلهم، ويذكر أسماءهم مع الشكّر، أو أن يدور مدير من منزل إلى آخر جامعًا التبرّعات لمدرسته. كما بات مقبولًا أيضًا، أن تلجأ منطقة ما لإقامة حفل غنائي يعود ريعه لدعم المدرسة الرسميّة فيها، أو أن تلتزم المكاتب التربويّة الحزبية بإعطاء مبلغ شهري لأساتذة في ثانويات رسميّة. وتفتح هذه “الحلول” الباب على عدد من الأسئلة، ربما أبرزها عدالة التعليم في التعليم الرسمي نفسه بين مدرسة حصلت على “تبرّعات” وأخرى لا، وعن العدالة بين الأساتذة وعن صورتهم، وبالتأكيد على استخدام التعليم الرسمي كمناطق نفوذ بدلًا من العمل من منطق الشأن العام.

صناديق المدارس فارغة “إلّا التي تستقبل سوريين”

“وضعنا صعب، وصناديقنا فارغة” هكذا جاءت إجابات معظم مديري المدارس التي تواصلت معهم “المفكرة القانونية”، محذّرين من عدم قدرتهم على تشغيل المدرسة هذا العام في حال لم تحوّل الوزارة الأموال اللازمة إلى صناديقها لا سيّما في المرحلة الثانويّة، إذ تستفيد مدارس التعليم الأساسي ممّا تحوّله الدول المانحة عبر منظمة “اليونيسيف”.

ويشار إلى أنّ اليونيسيف ترسل إلى المدارس في مرحلة التعليم الأساسي أي مرحلة التعليم الإلزامي 18 دولار إلى صندوق الأهل كبدل عن كلّ تلميذ، كما ترسل عن كلّ تلميذ في الفترة المسائيّة (تلامذة سوريين) 147 دولارًا سنويًا.

وكانت “اليونيسيف” أشارت في بيان سابق إلى تحويل الأموال بالدولار الأميركي مباشرة الى 1074 مدرسة رسمية لتغطية جميع الطلاب اللبنانيين وغير اللبنانيين الملتحقين بالمدارس الرسمية في العام الدراسي 2022-2023 .

ويقول مدير إحدى الثانويات إنّ بدل التسجيل هو المصدر الوحيد له لتأمين الأموال اللازمة لتشغيل المدرسة إلّا أنّ هذه الرسوم بالكاد تكفي كلفة المازوت، مشيرًا إلى أنّه “في العام الماضي اضطرّ إلى قطع الكهرباء والإنترنت عن المدرسة وأنّ رواتب عامل التنظيفات والحرس لم تؤمّن”.

استفادت هذه المدرسة العام الماضي من المبالغ المحوّلة بالدولار من الدول المانحة عبر “اليونيسيف” للطلاب السوريين المسجّلين عنده “العام الماضي أرسلوا لي بدلًا عن طلاب سوريين حوالي 400 دولار، ولم يرسلوا لي أي مبلغ عن اللبنانيين الأمر يختلف هذا العام، وعدونا أن يعطوا حوالي 180 دولارًا عن الطالب السوري و 18 عن اللبناني، لذلك تبقى أوضاع الثانويات التي تستقبل سوريين أحسن حالًا”.

الأمر نفسه يكرّره مدير مدرسة أخرى ويقول: “رسوم التسجيل لا تكفي للمحروقات، بدل أتعاب عمال التنظيفات والحرس غير مدفوعة من العام الماضي، وإذا لم تأت أموال من الوزارة أو الدول المانحة هذا العام لا أظنّ أننا نستطيع أن نكمل”، معتبرًا أنّ “المدارس باتت أمام خيارين أفضلهما أسوأ إمّا أن تقفل أبوابها أو أن تتسوّل”.

الأمر لا يتعلّق فقط بفراغ الصناديق فحتى المدارس التي تحتوي صناديقها على أموال ولو بالحد الأدنى، تواجه مشاكل في سقف السحوبات، إذ يقول مدير إحدى المدارس في بعلبك الهرمل إنّ ما يوجد في صندوق مدرسته “بمشّي الحال” ولكن المصرف لا يسمح له إلّا بسحب مليوني ليرة شهريًا، أي ما بالكاد يكفي لأجرة عامل المكننة وعامل التنظيفات اليوميّة. ويضيف: “لأصل إلى المصرف كما معظم مديري المدارس في الهرمل نضع أجرة طريق إلى زحلة أو اللبوة تقترب قيمتها من المبلغ المحدّد لنا كسقف سحوبات”.

التعليم الرسمي “حارة كل مين إيدو إلو”

أمام هذا الواقع، تحوّل التعليم الرسمي إلى ما يُشبه “حارة كل مين إيدو إلو”بحسب تعبير أكثر من أستاذ تحدثنا إليهم، وشُرّعت أبواب المدارس لمبادرات ظاهرها خيري يدفع باتجاه الحفاظ على التعليم الرسمي أمّا جوهرها فيُمكن أن يكون ترسيخ نفوذ حزب أو جهة سياسية ما وضرب عدالة التعليم وترسيخ الشرخ بين الأساتذة وفتح الباب أمام سمسرات وأبعد من ذلك “إدراج التلامذة والمعلمين ضمن أجندات سياسيّة” وتراجع دور “المدرسة كمؤسسة عامة مثلما تراجعت الدولة كسلطة عامّة، مع فارق أنّ ما زرع في المدارس اليوم سوف يحصد على مدى عقود في المستقبل”، تمامًا كما يقول الدكتور عدنان الأمين في مقال نشره معهد عصام فارس للسياسات تحت عنوان “السياسات الحكومية والخسائر التربوية”.

منذ فترة نشر فؤاد إبراهيم مدير ثانوية كفرا الرسمية مقطع فيديو على صفحته على “فيسبوك” “زفّ” عبره  “خبر كتير حلو”  مفاده أنّ العام الدراسي سيكون مستقرًّا ومنتظمًا وبعيدًا عن “الفوضى والإضرابات” في ثانويته، وذلك لسبب واحد وهو أنّ الثانوية أطلقت مبادرة “إسند خيّك” ولأنّ “كتير خيّرين” تبرّعوا لهذه المبادرة. ذكر إبراهيم أسماء هؤلاء الذين “هبّ” أحدهم لتمويل ثلث هذه المبادرة “لنجدَة أهله”.

وشكر إبراهيم الخيّرين لأنّهم حريصون “على التعليم الرسمي” و”همّهم على ناسهم وأهلهم”.

“المفكرة” تواصلت مع إبراهيم الذي وصف ما قام به بالحلّ الترقيعي ولكنّه أفضل المتاح حاليًا في إطار “الحفاظ على التعليم الرسمي وعدم الانجرار إلى فوضى نقابيّة ضحيتها الطالب والمدرسة الرسمية” إذ إنّه في ظلّ ما نعيشه “من واقع مأزوم وغياب دولة المؤسسات وعجز مالي متراكم وعجز في القرار يصبح من واجبه اجتراح الحلول ولو كانت ترقيعيّة ولا تُغني عن دور الدولة”.

ورأى إبراهيم أنّ الارتكاز إلى “‘أهل البيت’ ليس عيبًا ولا يضرّ المدرسة الرسمية ويبقى أفضل من الارتكاز إلى جهات مانحة تتحوّل إلى جهات مانعة يذلّ إليها الأستاذ”، معتبرًا أنّ الأمر بعيد كلّ البعد عن الزبائنيّة أو التعبئة إذ إنّ “الخيّرين هم أهل القرية من مغتربين ومنهم خريجو المدرسة وميسورون وليسوا سياسيين أو أحزاب، ولن يفرضوا أي سياسات على المدرسة”.

ويوضح أنّ ما يقوم به هو تحت القانون إذ إنّه لا يتقاضى مباشرة بل ينظّم العلاقة بين المتبرّعين والأساتذة بناء على كشوفات واضحة ومعايير واضحة وأنّ المساعدات العينيّة التي حصل عليها من طاقة شمسيّة أو مختبر الحاسوب مرّت عبر الأطر القانونيّة أي عبر وزارة التربيّة.

لا ينكر إبراهيم أنّ المساعدات هذه لم تصل إلى جميع أساتذته “اعتمدنا معيار المسافة وساعات وأيّام التدريس، وفقط 5 أساتذة لم يستفيدوا من أصل 42″، وبالتالي الأساتذة الذين لم يستفيدوا هم الأساتذة الذين كانوا ممتنعين عن التعليم وربما جزء من حراك الأساتذة وهذا ما يلفت إليه الأستاذ والنقابي حسن مظلوم. ويعتبر في حديث مع “المفكرة” أنّ هذه التصرّفات تساهم في خلق شرخ بين الأساتذة والتفريق بينهم وبالطبع ضرب العمل النقابي الذي من المفترض أن يوصل الأستاذ إلى حقّه ليتمكّن من العيش بكرامة من دون أن “يتصدّق” عليه أحد.

“من يموّل، يقرّر بالعادة”

وليس بعيدًا، يشير مظلوم وضمن “الحلول” التي تعتمدها بعض الثانويات إلى أنّ المكاتب التربوية الحزبيّة شهريًا ترسل مساعدات شهرية إلى عدد من المديرين وتوزّع على عدد من الأساتذة من دون حسيب أو رقيب. ويعتبر أنّ هذا الأمر يحوّل المدارس إلى ما يشبه الفيدراليّة المشوّهة التي تسيطر عليها الفوضى. وهنا يلفت مظلوم إلى أنّ المفارقة أو ربما الأمر الأساسي هو أنّ هذه الأحزاب هي ذاتها أحد مكوّنات السلطة التي تضع سياسات التعليم.

ويُعيدنا حديث مظلوم إلى ما يقوله الأمين في المقال الذي سبق ذكرناه بأنّه: “مع الأزمة الاقتصادية انتشرت ظاهرة دعم المدارس الرسمية والتصدّق عليها وتزويدها بالموارد والماء والكهرباء. وكلّ منطقة لها متبرّعوها الأكارم، في عملية وضع يد سياسي على المناخ المدرسي بما يشمل الطلبة والمعلمين والمديرين. والمفارقة في الموضوع أنّ الشخصيات التي تتصدر المشهد موجودة في السلطة، أي في الحكومة ومجلس النواب وفي دوائر اتخاذ القرار، أي حيث يجب أن تأخذ القرارات بشأن التعليم الرسمي بوصفه مؤسسة عامة تابعة لدولة. لكن هؤلاء يفضلون التصدّق والاستتباع وكسب الولاءات، وتمزيق التعليم الرسمي والخاص واستعماله كمناطق نفوذ، بدلا من العمل من منطق الشأن العام”.

وهذا ما يؤكّد عليه أيضًا الباحث في مركز الدراسات اللبنانيّة نعمة نعمة مع التمييز بين أن “يأتي هذا الدعم من بلديات ذات منفعة عامّة أو من حزب أو شخصيّة نافذة ذات منفعة خاصّة”، موضحًا أنّ للبلديات صلاحيات في موضوع دعم المدرسة ولا سيّما في ظلّ الوضع الحالي وذلك انطلاقًا من القانون الذي ينطلق بدوره من مبدأ التشاركيّة، ولكن ما يحصل حاليًا هو تضاؤل مساحة التشاركية ومفهوم السلطة المحليّة لحساب من لديه مصالح، منها قد تكون انتخابيّة أو سياسيّة.

ويذكّر نعمة بأنّ “من يموّل، يقرّر بالعادة. ومن هنا ما يحصل حاليًا يعني إيجاد نطاق متداخل لمراجع مختلفة “تمون” على التعليم الرسمي فيصبح الترويج للمتبرّع، سواء كان حزبًا جهة ما جمعيّة أو متموّل، داخل المدرسة أكثر ورودًا، هذا عدا عن تأثير الأمر معنويًا على التلامذة والأساتذة لجهة مراعاة حزب ما أو جهة سياسيّة ما”.

ويلفت نعمة إلى أنّ الخلل الأساسي الحاصل هو في السياسات التربويّة التي قامت منذ سنوات حتّى اليوم على فكرة ضخّ الأموال، “ما في ضخ أموال ما في تعليم” وأيضًا في النظرة إلى التعليم ككلّ كمنفعة خاصّة.

حفلات وجمعيّات “تتبرّع” بأساتذة

ومن “الحلول” التي اعتمدت أيضًا لتمويل المدارس، كانت إقامة حفلات أو فعاليات يعود ريعها لدعم المدرسة الرسمية منها مثلًا الحفل الذي أقامه شبّان وشابات من بلدة ميفوق والقطّارة قبل أسبوعين تقريبًا وعاد ريعه لدعم العام الدراسي.

وفي إطار بحث مديري المدارس عن تمويل يضمن استقرار العام الدراسي الحالي تحدّث بعض أولياء الأمور عن فرض ثانويات رسمية عليهم دفع مبلغ بالدولار الأميركي بالإضافة إلى رسم التسجيل وذُكر اسم ثانوييّة “برّ إلياس” التي نفت مديرتها سوسن عراجي وفي حديث مع “المفكرة” حصول هذا الأمر معتبرة أنّ ما حصل هو أنّ ما يُسمى بـ “لجنة دعم المناطق” قامت بتأمين دعم لمدارس المنطقة.

وتعتبر عراجي أنّ هذه المبادرات مهمّة جدًا في ظلّ عجز الجهات المعنيّة على تمويل المدارس لا سيّما بالنسبة للتلامذة الأكثر فقرًا الذين لا يستطيعون الالتحاق بالمدرسة الخاصّة وقد يكون مصيرهم التسرّب في حال عدم فتح المدرسة الرسميّة، مشيرة إلى أنّ هذه المبادرات تلاقي صدى طيّبًا بين أهالي المنطقة بالمساهمة بمبلغ بسيط يؤمّن استقرار المدرسة الرسمية، ويبقى بالتأكيد أفضل من دفع قسط في مدرسة خاصّة.

وليس بعيدًا يُشير عدد من الأساتذة إلى موضوع دخول عدد من الجمعيّات على خطّ دعم المدارس من باب تأمين أساتذة على نفقتها وبالرغم من أنّ هذا الأمر قد يكون عن طريق وزارة التربية إلّا أنّ لا آلية واضحة بالمعايير التي يتمّ على أساسها اختيار هؤلاء الأساتذة، سوى أن يكون حاصلًا على إجازة جامعيّة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، الحق في التعليم ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني