غياب المرجعية الفعلية للبلديات في إدارتها لأزمة اللجوء السوري كانت الفرضية الأكثر ترجيحاً لتبرير التناقضات بين البلديات. وقد عزز لقاء “المفكرة القانونية” مع مستشار وزير الداخلية خليل جبارة صحتها. إلا أن المقابلات التي تجريها “المفكرة” مع بلدية تلو الأخرى، تبين مدى التفاوت في الظروف فيما بينها بالنسبة لهذا الملف. الأمر الذي يزيد، في ظل غياب السياسة العامة الفاعلة، من تفاقم الازمة على كل من المواطنين اللبنانيين واللاجئين السوريين على حد سواء. في هذا الإطار، قابلت “المفكرة” نائب رئيس المجلس البلدي في عرسال السيدة ريما كرنبي، التي أوضحت طبيعة تطور الأزمة بالنسبة لبلدتها وعناصر المشكلة.
خصوصية عرسال في الأزمات السورية واللبنانية
لعرسال واقعها الخاص فيما يتعلق بالأزمة السورية. وهذا لا يتأتى فقط من علاقاتها الوطيدة بالمناطق السورية المجاورة لها. بل أيضاً من علاقة هذه المدينة بالسلطة المركزية اللبنانية. هكذا لا تبدو الأزمة التي تعانيها عرسال ناتجة عن اللجوء السوري إليها، بل أقدم من ذلك بكثير. الأمر الذي لا ينفي التدهور السريع لوضعها متأثرة بإنعكاسات هذه الأزمة عليها أمنياً وسكانياً إثر التضخم الحاصل بفعل توافد اللاجئين.
“مشكلة عرسال” وفقاً لكرنبي، هو تمايزها الطائفي عن المنطقة التي تقع ضمنها: “قرية سنية في محيط شيعي”. هذا الواقع أنتج “علاقة شبه منقطعة مع الدولة اللبنانية” في ظل النظام الإنتخابي الأكثري اللبناني القائم على الطائفية، والذي أدى إلى غلبة الوزن السياسي الشيعي في هذه االمنطقة. لهذا فان أهالي هذه المدينة بنوا علاقات أوثق مع جيرانهم في المناطق السورية المجاورة من تلك التي بنوها “مع باقي المناطق اللبنانية”.
مع انطلاق “الثورة السورية، إتخذ العراسلة موقفاً مؤيداً وداعماً للثورة”. فهم “كانوا قد عانوا الكثير من النظام السوري خلال وجوده في لبنان، وفقدت المدينة وقتها العديد من الشبان خلال عبورهم على الحواجز”. هذا التعاطف بما ينطوي عليه من خصوصية، في الوقت الذي تُحسب فيه البلدات المحيطة على أنها مؤيدة ل “حزب الله القريب من النظام السوري”، جعل من عرسال مقصداً للاجئين. في البداية، لم يشكل الأمر بالنسبة لأهل عرسال مشكلة، فقد “اعتقدنا أن الأمور ستنتهي خلال أشهر قليلة، فاستقبل العراسلة اللاجئين في بيوتهم أو انتقلوا إلى بيوت ذويهم لإفساح مجال إضافي لهم”. الحقيقة أن مختلف المناطق تعاملت في البداية مع اللجوء السوري من هذا المنطلق. المختلف بالنسبة لعرسال، هو تضخم عدد سكانها الى ثلاثة أضعاف، في ظل واقع تنموي أقل ما يقال فيه أنه منعدم.
“مدينة بطابقين”
“مدينة بطابقين” هكذا تصف كرنبي “عرسال”. فبينما كان سكان المدينة –قبل الأزمة السورية – عددهم 40 ألف، أصبحوا خلال السنوات القليلة الماضية، 160 ألف، بعد توافد 140 ألف لاجئ سوري إليها. كما تشير إلى أن هذا الرقم هو الواقعي، فيما “المسجلون لدى الأمم المتحدة من بين هؤلاء يشكلون أقلية”،[1] ما يفسر التفاوت بين الرقمين. هذا العدد من السكان يتقاسم مساحة 10 كلم مربع، وهي المساحة المأهولة من أصل 314 كلم تشكل مجمل مساحتها العقارية. يحيط بالكيلومترات العشر طوق أمني يعيش داخله اللاجئون والعراسلة. عن اللاجئين تحديداً، فان معظمهم “يسكن في مخيمات داخل هذه المساحة”. مع ذلك يتشارك السكان جميعاً كل الخدمات، ومن بينها التعليم. وفي عرسال “يوجد أربعة مدارس رسمية وثانوية رسمية واحدة ومعهد تقني. يقصد هذه المدارس معظم الأبناء لعدم القدرة على تغطية تكاليف المدارس الخاصة”. وقد أدى تزايد عدد اللاجئين إلى إحداث ضغط كبير على هذا القطاع. مؤخراً، كما باقي المناطق اللبنانية، بات أبناء اللاجئين يقصدون “دوام بعد الظهر”.
أما عن باقي المساحة (الـ 314 كلم) وهي عبارة عن بساتين شاسعة من الكرز، وعدد كبير من مقالع الحجر والمناشر، فقد امتلأت هذه الأراضي بالمسلحين المنتمين إلى مختلف الجهات المتقاتلة ما جعل الوصول اليها مستحيلا. على رغم أنّ “الدولة قدمت تعويضاً عن الخسارة اللاحقة بمزارعي الكرز، غير أنه زهيد جداً فلا يغطي مردود سنة عن خسارة 4 سنوات مضت”. بهذا المعنى، خسر العراسلة مواردهم الإقتصادية التي كانوا يعتمدون عليها بشكل أساسي. وتحوّلوا إلى التجارات البسيطة المحلية، والريوع السكنية لا سيما الايجارات. بالمقابل، فإن “عدداً كبيراً من اللاجئين المتمرسين بالتجارة تمكنوا من السيطرة على هذا القطاع”. تضيف كرنبي أن هؤلاء “بالاضافة إلى عددهم ومعرفتهم بالتجارة، يستفيدون من المساعدات التي تقدم لهم. فبدءاً من “مياه شربهم وطعامهم وصولاً إلى اللباس والمدارس، كلها تكاليف لا يفكر معظم اللاجئين المسجلين بكيفية تدبيرها”، وفقاً لكرنبي. وهم بذلك، خلافاً للعرسالي، يحتاجون إلى مداخيل أقل للتمكن من العيش، فتصبح منافستهم تجارياً صعبة جداً بسبب اكتفائهم بالربح القليل.
مشكلة الصرف الصحي: لا تجاوب من الدولة أو المنظمات الدولية
إن كانت الأزمة الاقتصادية قد ظهرت في إثر الأزمة السورية ومع تزايد عدد اللاجئين، إلا أن باقي المشاكل كانت قائمة من قبلها. إلا أن تضاعف عدد السكان جعل الحاجة إلى إيجاد حلول سريعة وجذرية أمراً ملحاً. فوفقاً لكرنبي، “لا يوجد في عرسال شبكة صرف صحي، فكنا قبل الأزمة نعمد الى جمع المياه الآثنة في حفرة كبيرة في جرود عرسال”. مع زيادة عدد اللاجئين، “إضطررنا الى تأمين حفرة ثانية، في منطقة الرعيان المجاورة، إلا أن بلديات القرى المحيطة اشتكت وحصلت على قرار باقفالها من النائب العام البيئي”. بالنتيجة، تقول كرنبي، “مياه الصرف الصحي باتت تطوف في الطرقات”. من هذا المنطلق، تمّ التوجه الى المنظمات الناشطة مع المجتمعات المضيفة، والبلديات لا سيماUNHCR وUNDP، للمساعدة في انشاء شبكة صرف صحي ومعمل لتكرير مياه الصرف الصحي. تردف كرنبي “غير أننا لم نتوصل حتى الآن إلى مساعدة لإنشاء المعمل من دون الشبكة كخطوة أولى”. إلا أن “هذه المنظمات ميالة للمشاريع الصغيرة” بحسب ـ”كرنبي”. من جهة ثانية توجّهت البلدية الى كل من وزارة البيئة والصحة والأشغال لإتخاذ خطوات في هذا المجال، لكن قراراً لم يتخذ حتى اللحظة رغم عرض الموضوع على مجلس الوزراء.
مشكلة الصرف الصحي لا تنتهي عند هذا الحد. فنتائجها البعيدة كارثية أكثر من الظاهرة منها الآن. “22 بئر جوفي لمياه الشرب ملوّثة جرثومياً، الأمر الذي يبرر الإرتفاع المطّرد للإصابات بالسرطان بين العراسلة” تقول كرنبي. من بين هذه، أربعة آبار توزع المياه على المدينة. وهذا الأمر يتفاقم سريعاً إثر تضاعف عدد السكان المفاجئ.
بالمقابل، تشير كرنبي أن العراسلة يستفيدون من “المستشفيات الميدانية” التي أنشئت لتأمين الإستشفاء للاجئين. لا سيما في ظل “عدم وجود مستشفيات في عرسال، ويوجد فقط 5 مستوصفات، وهي غير تابعة لوزارة الصحة”.
لا قيمة لقرارات البلدية في “حفظ الأمن”
على الصعيد الأمني، وتحديداً بعد أحداث 2 آب 2014،[2] “تم نقل مخفر الدرك الذي كان داخل عرسال إلى بلدة اللبوة المجاورة”. هذا وأصبحت “نقاط الجيش موزعة على أطراف المدينة، مشكلة بذلك طوقا أمنيا يحيط بها”. هذا الطوق، وفقاً لكرنبي، “لا يمنع السوريين من الدخول والخروج من وإلى البلدة”. على الرغم من ذلك فإن “الجيش لا يدخل إلى عرسال إلا بقرار على مستوى عالٍ”. فيما لا يزال “المسلحون قادرين على الدخول إلى القرية”. يؤدي الأمر إلى شعور الأهالي، لا سيما الذين ليسوا على علاقة بمسلحين، بالخطر من أي علاقة ممكنة مع القوى الأمنية والجيش. هذا بالإضافة إلى أن “تواجد المسلحين، في ظل إزدياد عدد اللاجئين الى ما يوازي ضعف العراسلة، أوجد موازين قوى داخل المدينة تؤدي إلى عرقلة أي مسعى لتنظيم فعلي لأوضاعهم”. تقول كرنبي على هذا الصعيد أنه “لا إجراءات تقوم بها البلدية تجاه السوريين، فنحن لسنا قادرين على اتخاذ إجراءات على أرض الواقع”. مثلاً “حاولت البلدية أن تصدر أرقاماً للسيارات السورية التي باتت غير نظامية، لكن هذا المشروع فشل”. بالمقابل، وخلافاً لباقي البلديات لم يطرح أبداً في عرسال إصدار بطاقات للاجئين المقيمين في المدينة.
الحال ليس مختلفاً بالنسبة لقرار حظر التجول، “فعناصر الشرطة الذين ينفذونه ليسوا موظفين بشكل رسمي وقانوني لمصلحة البلدية”. لا بل “هم مجرد شبان يعينهم ويبدلهم الرئيس بقرار منه، ويحملون مسدسات حصراً”. وبالتالي “هم فعلياً لا يستطيعون أن يلزموا مجموعة، لا سيما إذا كانت مسلحة، بعدم التنقل ليلاً”. لذا فان هكذا قرارات لا تطبق في الواقع إلا على الأشخاص الذين لا يشكلون أي خطر، ولا قيمة لها بهذا المعنى. تنتهي كرنبي إلى نتيجة مفادها وجود “جوّ عامّ يسمح للبعض من السوريين الموجودين بضرب قرارات البلدية عرض الحائط في ظل الواقع الأمني القائم وعدم وجود إرادة فعلية من قبل الأغلبية في المجلس البلدي للتعامل مع الواقع”.
[1] _ تشير ارقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى وجود 40 الأف لاجئا سورياً مسجلاً لدى المفوضية في منطقة عرسال في نهاية العام 2016.
[2] – إختطاف 27 جندي لبناني من عرسال من قبل جبهة النصرة.