الكوليرا ترعب ببنين المتروكة.. الأهالي يعلنون عدّادهم الخاص: لدينا 200 إصابة


2022-10-21    |   

الكوليرا ترعب ببنين المتروكة.. الأهالي يعلنون عدّادهم الخاص: لدينا 200 إصابة
في طوارئ مستشفى حلبا الحكومي

لم تنم ببنين أمس. وصلت كبرى البلدات العكارية ليلها بنهارها بعدما قضى ابنها حسن العلي (أبو محسن) عند التاسعة والنصف من مساء أمس إثر إصابته بالكوليرا، منضماً إلى 4 ضحايا سبقوه مصابين بالمرض نفسه: طفلتان من ببنين نفسها إضافة إلى فتى (14 عاماً) وشاب (18 عاماً) من اللاجئين السوريين من مخيّمي الريحانية وبحنين.

قامت ببنين ولم تقعد ليلاً، وبقي أهلها لما بعد منتصف الليل يحاولون نقل محمود ومرزوقة، وهما ابن وبنت أبو محسن المتوفي، من قسم العناية في مستشفى طرابلس الحكومي إلى أي مستشفى جامعي في بيروت، علّهم ينقذوهما ويخففون مصاب العائلة إثر وفاة الأب، بعدما أثبتت التحاليل حدة جفاف جسدي محمود ومرزوقة، وسط مخاوف العائلة من فقدانهما أيضاً.

حلّ الليل صعباً على ببنين ومعها أهلها، البالغ عددهم 60 ألف نسمة، ما عدا اللاجئين السوريين على أراضيها وفي محيطها. وكانت البلدة قضت نهارها في قاعات مستوصفاتها الخمسة، وفي باحة مستشفى حلبا الحكومي (عبدالله الراسي) وفي أروقة قسم الطوارئ فيها وفي مدخله، كما في قسم الاستشفاء الذي خُصّص جزء منه لاستقبال مرضى الكوليرا. وقد تأكدت “المفكرة” بأنّ القسم عجّ بـ 24 مصاباً، فيما قبع أربعة مرضى في قسم العناية الفائقة، وكان حسن العلي (أبو محسن) واحداً من بينهم. ويتوزع هؤلاء، وفق ما أكده أحد موظفي المستشفى لـ “المفكرة” على 65% (على الأقل) من اللبنانيين و35% من اللاجئين السوريين. يضاف إلى هؤلاء عشرة مشتبه بإصابتهم بالكوليرا وصلوا إلى مستشفى المنية الحكومي أمس، إضافة إلى حالة منذ 15 تشرين الأول، أي منذ 6 أيام، فيما لم ترد مستشفى طرابلس الحكومي على اتصالاتنا.

على مدخل طوارئ مستشفى حلبا

جملة “لا داعي للهلع” لم تعد ذات جدوى في ببنين، كما شاهدت “المفكرة” ذلك وشهدت عليه، وكما وثقته مجموعات التواصل الاجتماعي الخاصة ببنين والتي تحدثت عن وصول حالات الإسهال الحاد، المصحوب بعضها بالتقيّؤ وآلام البطن الشديدة إلى 200 حالة، وهو ما لم تؤكده جهة رسمية. من بين هذه الحالات، وثقت “المفكرة”، على سبيل المثال، وفي جولة ميدانية على مستوصفات البلدة، 30 حالة إسهال حاد قصدت مستوصف الإيمان في ببنين من الثامنة صباحاً لغاية الثالثة من بعد الظهر، إضافة إلى 18 حالة إسهال وتقيّؤ و14 حالة تقيّؤ مع أوجاع في البطن من الثالثة بعد الظهر ولغاية السابعة مساء، وفق ما أكد د. كفاج كسار، رئيس بلدية ببنين والمشرف على المستوصف لـ”المفكرة”. مع العلم أنّ المستوصف يفتح أبوابه لغاية العاشرة ليلاً، ويستمر بالعمل لغاية منتصف الليل في الحالات الطارئة. كما أكد القيّمون على مستوصف وليد غنومي في ببنين أيضاً وصول نحو 34 حالة إسهال حاد ومرضى تشي أوضاعهم السيئة بإصابتهم بالكوليرا لغاية الثانية من بعد ظهر أمس إلى المستوصف، وتم تحويلهم من السيارات إلى المستشفيات مباشرة، وفق ما أكد مدير المستوصف لـ “المفكرة”. حالات كثيرة تسبّبت بهلع سكان البلدة التي بدت متروكة وحدها، من جميع الجهات الرسمية من وزارات وإدارات الدولة، لمصيرها وسط تلوّث مياهها وينابيعها التي تتغذى منها، من دون أن يحرّك أحد ساكناً في ما خص معالجة الأسباب، باستثناء الاجتماع الذي عقده رئيس بلدية ببنين د. كفاح كسار أمس مع الصليب الأحمر اللبناني واليونيسيف والهيئة الطبية الدولية وكاريتاس، وفق ما أكد لـ”المفكرة”.

هلع وصل ببعض العائلات إلى المطالبة بإقفال المدارس لكي لا تشكل أمكنة مفتوحة لانتقال العدوى، وهذا ما سيبحثه كسار في اجتماعه غداً السبت مع مدراء المدارس، بعدما ثبتت إصابة بعض التلامذة بالكوليرا في ظل نفي مدراء ثلاثة من بينها أن يكون لديهم إصابات. ومع ذلك التقت “المفكرة” بأطفال مصابين في مستشفى حلبا الحكومي من مرتادي هذه المدارس “آخدين العدوى ببيوتهم” يقول أحد المدراء، وسط ظهور نتائج تحاليل المياه التي أثبتت تلوّث نبع الفاعور الذي تتغذى منه البلدة، بالكوليرا، كما أكد طبيب من المنطقة لـ “المفكرة” “فيه نبع العبد والبيضا كمان ملوثين”، يؤكد الطبيب الذي فضل عدم التصريح باسمه “وزارة الصحة ما بتقبل صرّح للإعلام”.

يعتب رئيس البلدية كسار على وزير الصحة فراس الأبيض الذي جال على المنطقة مع بداية ظهور حالات الكوليرا “جولة استعراضية”، وفق كسار، “للأسف لم يتصرّف بطريقة تخدم السيطرة على المرض كونه لم ينسّق مع مجالس السلطة المحلية، أي البلديات”، وفق رئيس البلدية الذي يرى أنه كان الأحرى بالأبيض “تشكيل فريق عمل من البلديات وطبابة القضاء ووزارة الصحة، وهذا ما لم يحدث”. يقول كسّار إن بلدية ببنين تسمع عن أرقام الإصابات وتلوث المياه “من الإعلام وليس من وزارات الدولة حتى أنهم لا يكلفون أنفسهم التأكد منّا من أسماء ينابيعنا، كأن يطلقون على نبع الفوار اسم الفاعور مثلاً”. حتى أنّ طبيبة زميلة لكسار هي التي أخبرته بتلوث هذا النبع “ولم أتبلّغه من طبابة القضاء في عكار بتكليف من وزارة الصحة”. كما يقول. ويضيف “لم يتصل بنا وزير الصحة أبداً، حتى أنه لا يرد على اتصالاتنا، وصار يختلج في صدورنا أمر يجعلنا نعتقد أنه يتعمد التعاطي السلبي مع عكار، وهذا ما تسبّب بغضب شعبي عليه، (على وزير الصحة)، كونه لم يسبق أن تعاطت أي وزارة بهذه الطريقة مع المنطقة في ظل أزمة مماثلة”. 

ويرى كسار “أننا اليوم ما بين أمرين: ضرورة عدم تسخيف ما يحصل، ولكن لا للتهويل أيضاً”، ليعتبر أنّ “الكوليرا تشبه أي جرثومة (بكتيريا) وأنّ طرق الوقاية منها بسيطة جداً، وأنّ العلاج بسيط أيضاً”. وبالتالي، وفق كسار، “يمكننا معالجة الأسباب على مستويات ثلاثة: 1-السيطرة على مصدر التلوّث واكتشافها بسيط وليس معقداً، 2- الإجراءات الوقائية بسيطة وغير مكلفة والتي تحد من الانتشار، يعني نقطتي كلور، و3-العلاج بالمعاوضة، أي تعويض السوائل التي فقدها المصاب نتيجة الإسهال والاستفراغ”.

هنا قناة الري الملوثة التي يستخدم آلاف المواطنين في عكار مياهها

ولكن كيف ستسيطرون على أسباب التلوث؟ نسأل د. كسار، وهناك آلاف الوحدات السكنية الموجودة على ضفاف قناة الري الجارية من نهر البارد، (وثقتهاالمفكرة) تخترق ببنين من أوّلها إلى آخرها مع بلدات أخرى في محيطها، وهي ملوّثة بالمجارير المسلطة عليها فيما يطفو البراز على سطحها ومعه النفايات وتضخها آلاف العائلات لاستخدامها للاستحمام وغسل الخضار والملابس وتنظيف المنازل؟ كما تتزود منها بعض صهاريج المياه التي يشتريها أناس كثر؟ وماذا عن تلوث نبع الفوّار، وفق ما أثبتت التحاليل وليس للبلدة، أي لـ 60 ألف مواطن، يضاف إليهم 20 ألف لاجئ سوري، (وفق رئيس بلدية ببنين) أن يؤمنوا مياهاً سليمة للاستخدام والشفة؟

يجيب كسار، أنّ هذه “ليست مهمة البلدية، بل وزارة الطاقة، ومصلحة مياه الشمال التي وعدنا رئيسها خالد عبيد بتشغيل بئر تملكه البلدية ساعدت منظمة “جي آي زد” الألمانية بحفره وتجهيزه لتشغيله بعدما وعدت اليونيسف بتأمين وقود المازوت لهذه الغاية منذ أسابيع”. إذاً، أسابيع مرت تفشت خلالها الكوليرا وما زال أهالي المنطقة ومعهم آلاف اللاجئين السوريين على “الوعد يا كمون المياه الآمنة”.

من الأرض: ببنين تستغيث

في مستوصف الإيمان في ببنين،  تحمل أم أحمد طفلاً صغيراً أصفر اللون وعيناه غارقتان في وجهه، فيما تقف بالقرب منها امرأة عشرينية تبكي بحرقة. لم تعد الصبية تقوى على التحمّل، انهارت وتركت طفلها بين يديْ والدتها بانتظار أن يخرج من غرفة الفحص في مستوصف الإيمان في ببنين مريضان يعانيان من إسهال حاد. ليس الطفل الصغير والمريضان سوى نقطة في بحر قاصدي المستوصف يومياً الذي يستقبل عشرات اللبنانيين واللاجئين السوريين الذين يعانون من أعراض الإسهال والاستفراغ.

خارج المستوصف، يسير موكب تشييع طفلة قضت بالكوليرا (وفق إحصاء وزارة الصحة) في موكب متواضع يسير وراءه عدد من الرجال، فيما يقول المارة وأصحاب المحلات “الله يسترنا”، وهم يبتعدون عن الجنازة.

على أبواب ثلاثة مستوصفات زارتها “المفكرة”، نجد طوابير سيارات مركونة وفي داخلها مرضى بعضهم في حالات صعبة. وضع مستوصف وليد غنومي موظفاً على الباب يستطلع أوضاع المرضى ليقول إلى أقاربهم “ع المستشفى فوراً”.

داخل المستوصف، يصل شاب وحيد وجهه أصفر لا يقوى على الوقوف ويعاني من دوخة شديدة. تسارع الممرضة إلى قياس ضغطه ليتبيّن أنه منخفض، لا يسمح له الخروج بمفرده. يعاني الشاب من الإسهال منذ أسبوع وقد تناول أدوية للتلبّك المعوي ولم يفلح الأمر. تطلب الممرضة رقم ذويه لتتصل بهم لنقله إلى المستشفى فوراً.

في مستوصف آخر تصل سيارة “رابيد” حمراء وفي داخلها سيدة ستينية مغمى عليها. يؤكد ابن المريضة أنها أصيبت صباحاً بإسهال حادّ “وكأنها نشّفت”، يقول وهو يتوسّل الطبيب مدّها بالأمصال، فيأتيه الجواب حاسماً: “عليك أن تأخذها فوراً إلى المستشفى، هي تحتاج ربما إلى عناية فائقة، ولا يمكننا تأمينها، خذها إلى طرابلس فمستشفى حلبا لم تعد تستوعب المزيد من المرضى كما سمعنا”. ويؤكّد الأطباء أنّ الكوليرا إن لم تعالج يمكنها أن تصيب المريض بالجفاف خلال ساعات وتتسبّب بوفاته.

في الباحة الخارجية لمستشفى حلبا تتجمّع عائلات لبنانية وسورية بانتظار مرضاهم القابعين في العناية الفائقة أو في غرف الاستشفاء أو في قسم الطوارئ. البعض يبكي، فيما يفترش البقية الأرض. تقول سيدة سورية إنها قلقة على زوجة ابنها “كمان حامل، قولك الكوليرا بتقتل الطفل؟” تسأل من حولها، لتؤكد أنها تعاني هي وابنتها أيضاً من الإسهال “نحن حالتنا منيحة، بس كنّتي تعبانة”. أتت السيدة من أحد مخيمات ببنين، فيما تؤكد جارتها في باحة المستشفى أنّها أتت من أحد مخيّمات بحنين “بنتي مصابة بالكوليرا كمان”.

داخل قسم الطوارئ في مستشفى حلبا، يركض الأطباء والطبيبات ومعهم الممرضات والممرضين يمنة ويسرة في محاولة لتلبية طلبات 19 مصاباً ومصابة بالإسهال الحاد وصلوا إلى الطوارئ أمس “هودي كلهن عم نتعامل معهم أنهم مصابين بالكوليرا، ما في فحوصات سريعة لنعمل للكل”، يقول أحد الموظفين بصوت خافت كونه ممنوع على أي كان التصريح بأي معلومة “وزارة الصحة مانعتنا نصرح، مدير المستشفى بس بيحكي”.

داخل إحدى الغرف تم وضع 4 أفراد من عائلة سلمى من ببنين على سريري طوارئ (راس وكعب) لعدم توفّر أسرّة كافية للجميع، وهناك طفلين من العائلة نفسها في الاستشفاء في المستشفى، وبالقرب منهم طفل مع والدته من عكار العتيقة. يبكي الطفل بحدة وبصوت عال بانتظار مدّه بالأمصال وأودية تخفيف الألم فيما تبكي والدته معه. بالقرب منهما تجلس صبية عشرينية من منطقة البحصة في ببنين وعيناها متورّمتان من البكاء. تبكي الصبية ليس من الوجع وحده “إيه موجوعة كتير” تقول، “بس خايفة موت أكتر من الوجع”، تقول.

في غرفة أخرى خُصصت للمصابين من اللاجئين السوريين، تركض سيدة ستينية يمنة ويسرة تطلب النجدة “دخيلكم خيي رح يموت”. لا يقوى شقيقها على السيطرة على عينيه المقلوبتين إلى الوراء. وجهه أصفر وباهت بشكل يوحي بالخطر، يتقيّأ بقوة فيما لا يتوقف تكرار الإسهال في مكانه “رح يموت بين إيديي”، فيما يعلو الاصفرار الحاد سحنته ولا يتمكّن من الكلام. يوجد في الغرفة أربعة مرضى متعبون، فيما جلس أقاربهم من حولهم لا حول لهم ولا قوة. جميع من الغرفة تمّ مدهم بالأمصال “ما عم نقدر نلحق ع الكل، صبروا علينا شوي”، تجيب الممرضة على إلحاح شقيقة اللاجئ السوري الخائفة.

طفل لاجئ كان يلهو على قناة الري الملوثة

عند الخروج من قسم الطوارئ يصل شاب عشريني مع عائلته “دخيلكم فوتوا لي إبني ع المستشفى”، تقول والدته فيما لم يعد هناك مزيداً من الأماكن. يسارع ممرضو وممرضات الطوارئ إلى الإتيان بعربة ووضعها في المدخل حيث تمدد الشاب عليها بانتظار إخضاعه لفحص يحدد مدى الجفاف في جسده.

مساء، لم يجتمع اثنان في ببنين إلّا وكان الكوليرا ثالثهما. وقعت البلدة أسيرة الخوف من تفشي المرض وتحوّله إلى وباء “لماذا لا تعلن وزارة الصحة حالة الطوارئ؟ هل سيقولون لنا لا داعي للهلع، كما فعلوا أيام كورونا؟ لماذا لا يعملون على تأمين المضخّات ووقود المازوت للآبار الصالحة للشرب لتوزيعها على المنازل؟ لماذا لا يفتحون المستشفيات الخاصة ومستشفيات بيروت لاستيعاب المرضى؟ أسئلة كثيرة يطرحها أهالي ببنين، ليقولوا ما دامت مواجهة الكوليرا بسيطة وعلاجها سهل فلماذا مات من مات؟”      

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني