القوى الأمنية تصل متأخّرة وتبويس اللّحى هو الحلّ: أمن الهرمل في فوّهة بندقية العشائر


2021-08-26    |   

القوى الأمنية تصل متأخّرة وتبويس اللّحى هو الحلّ: أمن الهرمل في فوّهة بندقية العشائر
مأتم عشائري (رسم رواند عيسى)

يسرح رجل الأمن، الذي خدم في مخفر الهرمل، بنظره بعيداً ليتذكّر “خدمت سنتين بالمنطقة، صدّقي ولا نهار قبضنا على متهم أو مطلوب”. هل الحوادث الأمنية نادرة في الهرمل؟ نسأله بخبث العالِم بالجواب. يضحك ويضيف “ما بكون عم بالغ إذا قلتلك إنّه نادراً ما مرّ يوم من دون قواص”. يطلق بعض أهل المنطقة النار في “الأفراح، وأحياناً لولادة طفل في حال تأخّر قدومه، يشيّعون موتاهم بالرصاص، ويتقاتلون بالسلاح الناري، وحتى على أتفه الأسباب في كثير من الأحيان… طبعاً أتحدّث عن بعض أبناء العشائر الذين يشكلون الغالبية في القضاء، وليس في المدينة نفسها، لكن الهرمل ساحتهم”. ويصرّ رجل الأمن أن يميّز للمرة الثانية “في كتير أولاد عشاير بيرفضوا هالممارسات من أساسها، يعني مش كل أصابع إيديك متل بعض”.

لدى أهل الهرمل جواب شبه موحّد عندما تسألهم عمّا ينقصهم في مدينتهم: “الأمن، بدنا الأمن قبل رغيف الخبز، لأنّه الرغيف بيجي مع الأمن كمان”، يقولون. يعود أحد سكان الهرمل ضحايا السلاح المتفلّت ليحصي نحو عشرة من شبّان وشابات المنطقة سقطوا خلال السنوات الخمس الأخيرة ضحايا لهذا السلاح أو خلال معارك العشائر بين بعضها البعض. أمّا عدد المنازل التي يصيبها الرصاص خلال معاركهم فلا تعدّ ولا تحصى. وعندما نستعمل كلمة عشيرة فنحن لا نعني أنّ العشيرة كلّها تدخل في المواجهة، لكن وبحكم المفاهيم العشائرية والعادات، يصبح كلّ أبناء العشيرة معنيين بالمشكلة ومستهدفين من خصوم عشيرتهم. 

وحين تدور المعارك بين أي عشيرتين، لا يُحسب حساب للهرمل وأهلها (خصوصاً منذ انتهاء الحرب الأهلية)، ويصبح قلب المدينة وساحتها مرتعاً لأبناء العشائر يتحرّكون فيه على هواهم. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تسببت معركة شرسة دارت بين عشيرتَي علّوه ودندش في 1989 بإقفال مدينة الهرمل لأربعة أيام مع مدارسها حيث تبادل المسلّحون من العشيرتين نار الأسلحة الرشاشة والصاروخية من المرح إلى الحارة والمعالي وبديتا بالاتجاهين. كما حصلت مواجهات بالرصاص بين رجال العشيرتين على طرفي ساحة السبيل التي يتّصل طرفها الغربي بحي المرح، مكان تمركز آل علّوه، فيما يُحتسب طرفها الشرقي ضمن سيطرة آل دندش الذين يسكن بعضهم في حي الحارة الملاصق من الشرق لساحة السبيل. وشهدت الهرمل خلال تلك المعركة نزوح بعض أهلها إما إلى بيروت أو إلى بيوت أصدقاء لهم على أطرافها أو خارجها في المنطقة الوسطى من القاع إلى رأس بعلبك والفاكهة.   

ومؤخراً شهد العام 2020 أكثر من اشتباك بين عشيرتيْ دندش وحمادة أصيبت خلاله معظم منازل سكان أحياء الضيعة والمعالي وبديتا. 

وحين يتواجه أبناء عشيرتين متخاصمتين في ساحات الهرمل أو في شوارعها، تتحوّل المدينة إلى ساحة حرب ريثما تصل قوّة مؤللة من الجيش اللبناني من ثكنته في حي الدورة. وغالباً ما يصل الجيش بعد عودة المسلّحين إلى قواعدهم سالمين. أما عناصر مخفر الهرمل الموجود في السرايا الحكومية بالقرب من ساحة السبيل، فلا يخرجون إلّا بعد أن تهدأ الأحوال ويتوقّف الرصاص. وهناك “طرفة” يتبادلها أهل الهرمل بحرقة ومرارة عند كل اشتباك مسلّح تفيد أنّ عناصر المخفر يختبئون تحت الطاولات بانتظار أن ينهي المتقاتلون تبادل النيران.

 

الأسلحة: أنواعها وانتشارها

يقول أحد زعماء العشائر إنّ الأخيرة هي ثالث قوّة مسلّحة في لبنان بعد حزب الله والجيش اللبناني “نحن بس ما عنّا صواريخ حزب الله ولا مدافع الجيش اللبناني وملّالاته والدبابات، والباقي انشالله كلّه متوفّر”. 

تتدرج الأسلحة من المسدّس وهو سلاح روتيني يمتلكه معظم شبّان ورجال العشائر حتى أنّ بعضهم لا يخرجون إلّا والمسدس “يزيّن” خصورهم، فيما يُترك الكلاشنكوف في السيارة. والكلاشنكوف الروسي، أو الأخمس (في حال كانت قبضته من الحديد وليس الخشب) هو ثاني سلاح شائع للأفراد من العشائر، وغالباً ما يكون رفيق بعض رجالها. 

بعد السلاح الفردي، يحرص معظم أصحاب بيوت العشائر على وجود السلاح داخل الأسر وهو الدرجة الثانية من التسلّح في العشيرة. وقد يصل الأمر ببعض الأسر أن تقتني M16 وقنّاصة وحتى RPG. من سلاح البيت إلى سلاح الفخذ، إذ يحرص المنتمون للفخذ أو الجب على وجود سلاح مشترك لعصبيّتهم الصغيرة يحتاجونه في حال نشب صراع بينهم وبين فخذ آخر في العشيرة نفسها. 

أما تسلّح العشيرة، فيحصل على صعيد العصبية الجامعة للأفخاذ والأجباب. وهنا يفرض مجلس العشيرة على كلّ فخذ وجبّ مبلغاً معيّناً لجمعه مع الأفخاذ والأجباب الأخرى لشراء سلاح العشيرة الذي يُخبّأ في مخزن العشيرة. وتتولّى لجنة من زعماء العشيرة ووجهائها الإشراف عليه، وتكون وصية على مصيره وطرق استخدامه وتوقيته. ولا يُستخدم هذا السلاح في صراعات داخلية ضمن العشيرة الواحدة، بل يُخرج من المستودع فقط عند نشوب معركة بين عشيرتين. 

وعند نشوب الحرب الأهلية اللبنانية وتوفّر السلاح بكثرة بين الناس، بدأت العشائر تعمل على التسلّح الجماعي وشراء الأسلحة لحساب العشيرة كعصبية، وفق ما يقول أحد زعماء العشائر لـ”المفكرة”. يتنوّع سلاح كلّ عشيرة، وفق الزعيم العشائري نفسه، من المسدس إلى الكلاشنكوف، إلى M16، فالقنّاصات، والقاذفات ك B7، وB10 المعروفة بـ RPG،  وهي قاذفات بخطّ مباشر ومستقيم، إلى الرشاشات المتوسّطة المدى كـ12.7 ومعروف أيضاً بالدوشكا، أو رشاش 500 وهو سلاح سوفييتي ثقيل مضاد للطائرات ويمكن استخدامه ضد المشاة، ويركّزه الجيش اللبناني عادة على دباباته، أما العشائر فتركّزه على آليات “بيك آب”. 

ولأنّ العشائر تتقاتل من منطقة إلى أخرى أو من حي إلى آخر، فكان لا بدّ من شراء مدافع 60 و80 و82 وهي مدافع تعمل بشكل منحنٍ يمكن إطلاقها من وراء مبنى لتصيب حي العشيرة المنافسة، وهي مدافع تقع تحت تصنيف الهاون. ويقول زعيم العشيرة نفسه إنّ بعض العشائر اقتنوا صواريخ “غراد” خلال الحرب اللبنانية “وما بعرف مين بعد عنده غراد حتى اليوم”، وصاروخ غراد هو من الصواريخ المستخدمة في النزاعات والحروب الإقليمية نظراً لمداه القصير وفعاليته التدميرية وانخفاض سعره مقارنة بالأسلحة التي تواجهه.

وتخزن كل عشيرة الذخيرة لكلّ نوع من أسلحتها. “وعندما تدور المعارك بين عشيرتين ينشط تجّار السلاح في تغذية مستودع كلّ عشيرة”، وفق المصدر نفسه “يعني ما بتنقطع العشيرة وممكن تشتري أسلحة جديدة إذا استلزم الأمر”. ولكنّ العشائر، وفق المصدر، لا يمكنها شراء مدافع 120 و130 و155 طويلة المدى نسبياً كون حجم المدفع الواحد منها يصل إلى 6 أو 7 أمتار ويكون من الصعب إخفاؤه بعيداً عن أعين الجيش. ويستخدم الأسلحة المتوسطة والثقيلة رجال العشائر الذين كانوا مع الأحزاب خلال الحرب اللبنانية أو من المتقاعدين في الجيش، ويؤتى بخبراء أسلحة ومدرّبين لتدريب رجال كل عشيرة على استخدام الأسلحة. 

 

ساحات المعارك 

قبل حرب 1975-1990، كانت العشائر تتجنّب خوض معاركها الكبيرة، من عشيرة ضد عشيرة أخرى في الهرمل وساحتها وبين أحيائها، إلّا عند حصول مشاكل يستتبعها إطلاق نار فوري في مكان حصولها. وكانت العشيرتان، في حال تطوّر خلافهما إلى معركة عشائرية ثنائية، يحيّدون الهرمل كساحة صراع و”يطلبون بعضهما البعض إلى الجرود للتقاتل، حيث تتجاور جرودهما”، كما يقول زعيم إحدى العشائر. وحصل هذا الأمر، على سبيل المثال لا الحصر، في السبعينيّات بين عشيرتي ناصرالدين وعلّوه اللتين تقاتلتا لنحو 17 يوماً في جرد مرجحين الذي تتقاسمان ملكيّته. يومها لم تكن العشائر قد استكملت نزوحها الكبير نحو مدينة الهرمل، وبالتالي لم يكن وجودها طاغياً فيها، وتحديداً على أطرافها، كما اليوم. ويقول أحد أبناء العشائر لـ”المفكرة” إنّ هذه العادة لم تنتفِ تماماً اليوم فـ”إحدى العشائر طلبت مؤخراً عشيرة أخرى على خلاف معها للتقاتل في الجرود، إثر تعثّر مبادرات الصلح بينهما”، ولكن تعذّر علينا التأكّد من هذه المعلومة من مصدر آخر.

وحالياً صارت معارك العشائر تتطوّر في مكان حصولها “يعني بيصير إشكال ويتبعه إطلاق النار سواء كان في أحد أحياء الهرمل أو في ساحتها”. ولأنّ الساحة غير تابعة لأيّة عشيرة، بل يسكنها أهل الهرمل أنفسهم، فهي تتحوّل غالباً إلى مكان للتقاتل العشائري ومواجهاته، خصوصاً وأنّ الجميع يضطر للعبور بها في ذهابه وإيابه داخل المدينة، ويتركّز السوق الأساسي على ناحيتي طريقها العام.   

وفي حال تطوّر الخلاف بين أشخاص من عشيرتين إلى معركة بين العشيرتين، يتمّ تبادل إطلاق النيران من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وصولاً إلى القذائف والمدافع، من منطقة تمركُز هذه العشيرة في الهرمل إلى منطقة تمركُز العشيرة الخصم، من دون إيلاء أي اعتبار لأمن الهرمل وأهلها. وهذا الأمر ينسحب على المواجهات والإشكالات التي تقع بين أبناء العشائر وأماكن تبادلهم إطلاق النار حيث يحشد مع كلّ طرف شباباً من أقاربه ويقصدون مكان الإشكال أو “يربطون في الطريق” أي يرابطون ويتربّصون بخصومهم ليطلقوا النار عليهم لدى مرورهم. وغالباً ما يكون الأشخاص المرصودون مسلّحين فيتحوّل الأمر إلى اشتباك مسلّح في قلب المدينة. 

وفي هذا الإطار، يروي لنا الشاب وجدي علّوه تجربته المريرة في مقهى Passion الذي افتتحه بين ساحة السرايا في الهرمل في العام 2006، كأوّل مقهى – كافيه في الهرمل. يقول وجدي لـ”المفكرة” إنّ الخطوة كانت غريبة عن المدينة ولكن ما أن اعتادها الناس حتى صار المقهى يعجّ بالرواد “صار الشغل متل النار، وصار يجي صبايا وشباب وطلّاب مدارس وجامعات يلتقوا عنا ويتناقشوا”. شيئاً فشيئاً بدأت أحداث الهرمل الأمنية تؤثّر على المقهى “مرّة فات واحد من بيت محفوظ حاطط مسدس على جنبه وحامل آلة حادة وهجم وضرب زبون عندي من بيت قانصوه براسه وكان قتله”، وفق وجدي. في يوم آخر هجم شاب من آل علّوه على شاب من عشيرة ثانية وتحوّلت الكافيه إلى ساحة عراك “والله ستر ما وقع قتلى”. وفي الثالثة هاجم شبّان أحد روّاد المقهى من آل ناصرالين وأدى تدخّل آخرين إلى منع إطلاق النار. وأدّت الاشتباكات التي كانت تدور “بين العشائر إلى إصابة المقهى بطلقات نارية عدّة. صرت عم لملم رصاص بعد كل اشتباك شي ع واجهة المقهى شي من جوّاته”. وكان وجدي يضطر عند أيّ خلافات بين عشيرته (علّوه) وأي عشيرة أخرى أن يقفل محلّه تجنّباً لمهاجمته فقط لأنّه من آل علّوه “أوقات كتير ما بعرف صاحب المشكل بس غصباً عني أُصّنف ضدّ الطرف الآخر وقد أدفع الثمن”. كما أنّه بعد كلّ إشكال أو مواجهة عشائرية يتجنّب روّاد المقهى التواجد في الساحة تخوّفاً من تجدّد إطلاق النار وبالتالي “بيوقف الشغل”. باع وجدي استثمار الكافيه لشباب من آل علّوه كانوا يشتغلون معه ووضّب حقيبته وغادر إلى بيروت بحثاً عن عمل “قلت ممكن إقتل شي نهار وروح فرق عملة”. في الأسبوع الثاني من نيسان 2021، تعرّض المقهى عينه لإطلاق نار أصاب قارورة الغاز في مطبخه فانفجرت واحترق بالكامل، ولم يُعرف الجاني لغاية اليوم. 

 

ضحايا لا ناقة لهم في المشاكل ولا جمل

هذا الواقع لا يمرّ من دون سقوط ضحايا أبرياء لا دخل لهم بل صودف تواجدهم في المكان الخطأ عند اندلاع الاشتباكات. ويتحدّث سكان المدينة عن سقوط 10 ضحايا خلال السنوات الخمس الأخيرة في اشتباكات أو مواجهات عشائرية، من بينهم فتاة مراهقة من عائلة الحسيني كانت تبتاع دواء من صيدلية حي الضيعة وما إن خرجت إلى الشارع حتى باشر شابان من عشيرتي علّوه وحمادة بإطلاق النار على بعضهما البعض فأصابا منها مقتلاً في العام 2019. بعدها بنحو شهرين، حصل اشتباك بين أبناء عشيرتين أخريين أمام مبنى السرايا ما أدّى إلى إصابة الشابة حسنة علّام التي كانت تمر في المكان، في رأسها وقد نجت من الموت بأعجوبة. وفي شباط 2021، قُتل بشار علّام وهو شاب عشريني عسكري في الجيش اللبناني صودف وجوده برفقة شبّان من آل علّوه عندما تعرّضت سيارتهم في حي المعالي لهجوم من قبل شبان من آل عوّاد على خلاف سابق معهم ممّا أدى إلى مقتله على الفور وجرح الآخرين.  

وسقوط الضحايا الذين لا علاقة لهم بالمعارك أمر قديم جداً ففي أواخر الثمانينيّات، هاجم شبّان من آل علّوه سيارة مرسيدس ظنّاً منهم أنّ سائقها هو غريمهم من آل دندش. وأمطر الشبّان السيارة بالرصاص ثم أطلقوا عليها قذيفة يدوية فقتل صاحبها وجيه جعفر الذي لم يكن له أي علاقة بالمشكلة بين دندش وعلّوه. وفي الفترة ذاتها، وقع إشكال في ساحة السبيل بين آل شعيب – النمر وبين آل ناصرالدين، قتل فيه فيّاض علّوه  أثناء محاولته تهدئة المتعاركين. 

 

رصاص للموت ورصاص للابتهاج 

ولكنّ الرصاص في الهرمل ليس للاشتباك فقط. فقد درجت العادات العشائرية على إطلاق النار في الأفراح والأتراح، وكثيرة هي الأعراس التي انقلبت أحزاناً نتيجة إصابة بعض الحاضرين بالرصاص. ودخلت القذائف في السنوات الأخيرة ضيف شرف ثقيلاً خلال وداع الموتى حتى صار الأمر أشبه بمباريات بين العشائر بين من يطلق نيراناً أكثر من الآخر تكريماً للراحلين، حيث أصبحت القذائف بمرتبة “شرفية” أعلى. قبل نحو خمسة أشهر، أي في الربع الأخير من العام 2020، اصطفّ رجال ملثّمون من مدخل الهرمل إلى ساحتها بحدود كيلومترين اثنين، يفصل بين كل نقطة تجمعهم وبين الثانية نحو 500 متر، يحملون الأسلحة الرشاشة وقاذفات الـ B7 (آر بي جي)، ليطلقوا النار في الهواء والقذائف الصاروخية. كلّ ما في الأمر أنّهم كانوا يؤدّون تحية الوداع لأحد وجهاء العشائر الذي توفّي إثر عملية جراحية في بيروت. لم يكن كلّ الرجال الملثمون من عشيرة الرجل نفسها، كان هناك رجال من عشائر “صديقة”، تردّ الواجب لعشيرة الفقيد التي سبق وأدّت التحية خلال موت وجيه من وجهائها. يومها عجّت صفحات أبناء الهرمل وصفحات مواطنين آخرين بفيديوهات تبيّن الرّعب الذي عاشه سكان الهرمل وكمّية الرّصاص التي انطلقت ومعها قذائف “آر بي جي” التي يصل متوسّط سعرها إلى 50 دولاراً، فيما تلامس كلفة أكبرها (التاندوم الروسية) 200 دولاراً. مع العلم أنّ سعر الرصاصة اليوم لا يقلّ عن 2800 إلى 3 آلاف ليرة لبنانية، أي أنّ “الباغة”، التي تحتوي على الرصاص، سعة 30 رصاصة، ويتمّ تلقيم بيت النار منها، لا يقلّ سعرها عن مئة ألف ليرة، كرصاص فقط. لا أحد يسأل رأي أهل الهرمل وهل يقبلون مرور مواكب السيارات بالزجاج القاتم (المفيّمة) وآليات “بيك آب” التاكوما الدارجة حالياً، بين منازلهم بينما يخرج المسلحون من نوافذها أو يقفون في صندوق الـ”بيك آب” ويطلقون النيران في الهواء وكأنّهم في فيلم حركة وليس في بلد فيه قوى أمن وجيش. 

قبل نحو شهرين أيضاً، توفّي وجيه من عشيرة أخرى. فنظم شبّان من عشيرة الفقيد الأوّل أنفسهم في وفد وازن وقصدوا مأتم الفقيد الجديد. وهناك حين حمل آل الفقيد جثمانه باتجاه المقبرة، افتتح أبناء العشيرة الأولى النار، كما يقول أحد أعضاء الوفد لـ”المفكرة” “وبلّشنا القواص وإطلاق القذائف، الجماعة ما قصّروا معنا، ونحن لازم نرد الجميل”، بنبرة تشي بالافتخار. قبل هذين المأتمين، كانت العشيرتان على خلاف دموي لسنوات. وبالتالي شكّلت وفاة الوجيهين مناسبة لتعزيز الصلح والوئام بين “أولاد العم”، كما يسمّي أبناء العشائر بعضهم البعض، وبالرصاص. 

ولكنّ ظاهرة إطلاق النار في الأفراح والمآتم مرفوضة من كثيرين من أبناء العشائر ويستنكر هؤلاء هذه العادة “أحياناً يناشد أهل الفقيد الناس عدم إطلاق النار، بس ما حدا بيرد”. فالبعض، وخصوصاً من يطلقون النار، يعتبرون أنّهم يؤكّدون بفعلهم هذا على قيمة الفقيد ومكانته، وكلّما صُرف الكثير من الرصاص والقذائف، كلما علا شأن الراحل. 

يخبر سليمان، أحد أبناء الهرمل، كيف نجا وصديقه وابنه من الموت بالصدفة. كانوا في باحة منزلهم بالقرب من ساحة السبيل عندما عبر موكب تشييع وجيه إحدى العشائر وبدأ إطلاق النار: “كنّا بالقرب من سيارتي، فقال صديقي خلّينا ننقل لتحت البلكون في رصاص كتير”، وهكذا كان. عندما عبر الموكب ومعه مطلقو الرصاص، أراد سليمان أن يخرج بسيارته ليبتاع خبزاً “لقيت رصاصة فايتة بزجاج السيارة من ناحية السائق، ورصاصة ثانية بالقرب من السيارة وتحديداً مطرح ما كنّا واقفين”. 

لأسامة، ابن إحدى العشائر، قصّة مماثلة ولكن مع قذيفة “آر بي جي”. عندما توفّي أحد الوجهاء الذين لم يرغب في ذكر اسمه، أطلقت 35 قذيفة “آر بي جي” في الهواء. وحين عودته مساء إلى منزله وجد أطفاله يحملون قنبلة غير منفجرة سقطت بالقرب من بيته: “طار عقلي، أخدت القنبلة وكبّيتها بعيد عن البيت، بمنطقة غير مأهولة”. اعتاد أسامة إطلاق النار في المآتم: “بس بعد هيدي الحادثة أقسمت إنّي ما عيدا”، يقول وهو يحضن طفليه. 

يتذكّر حسّان الذي ينتمي إلى إحدى عائلات الهرمل وليس إلى عشيرة، كلّ هذه الحوادث من مواجهات العشائر إلى إطلاق النار في الأفراح والأتراح ليترحّم على أبيه الذي قال له ولأخوته، وهو يعيدهم إلى الهرمل بسبب الحرب في بيروت: “ما تنسوا شي مهم كتير يا بيّي، الهرمل مش إلنا”. يقول حسّان اليوم إنّ أباه “كان على حق، وبرغم حبّي الكبير للهرمل إلّا أنّني أتمنّى أن يعيش أبنائي خارجها”. فالهرمل “للقوي” كما يقول “ولا خبز فيها للمعتّر الفقير إلاّ إذا وطّى راسه وعاش الحيط الحيط”( أي من دون أن يتدخّل في أي شيء).  ويضع حسّان كامل المسؤولية على الدولة وغياب الأمن “ليش ما بتضرب بإيد من حديد؟” فالهرمل تعجّ بالمطلوبين “وإطلاق الرصاص ما رح يؤثر بملف مطلوب”. والقوى الأمنية هي “آخر من يصل، وكأنّ المطلوب أن تبقى الهرمل على ما هي عليه، منطقة خارجة عن القانون ليبرّروا غيابهم عنها”. 

 

سيارة الدرك المعطّلة دائماً

تروي فتون ما حصل مع صديقة لها تعرّض منزلها للسرقة: “اتّصلت بمخفر الدرك وأبلغتهم أنّ هناك من يحاول دخول منزلها “فقالوا لها سيارّتنا خربانة”. وتبيّن أنّ السيارة “معطّلة” هو الجواب الجاهز لدى عناصر المخفر لدى استدعائهم. 

يقول أحد عناصر الدرك الذين خدموا في الهرمل لسنوات إنّ الهرمل تحتاج إلى سرّية قوامها مئة عنصر مع عتاد وآليات، بينما لا يوجد اليوم سوى مخفر بـ5 عناصر فقط لا غير. يتوزّع عناصر المخفر على رئيس المخفر، وعنصر لدوريّات مراقبة البناء، وآخر كاتب ورابع لوجستي، ورقيب تحقيق: “فمن سيخرج لملاحقة المطلوبين أو لفضّ الاشتباكات بين العشائر؟”. مع بناء السرايا، صار في الهرمل فصيلة لقوى الأمن الداخلي “دور الفصيلة إداري بحت وليس تنفيذ مهمّات أو مداهمات، ويتبع لها ثلاثة عناصر لتنظيم السير (وهو أمر مستجدّ في الهرمل) ومعهم حرّاس السرايا فقط، إضافة إلى إداريين لا غير”، وفق ما يقول رجل الأمن. ويرى أنّه ليس بوسع المخفر بأيّ شكل ضبط أمن الهرمل ليخلص إلى القول “ما في قرار سياسي بضبط أمن المنطقة وإلّا بيركّزوا سرّية بالهرمل وبيعطوها أوامر بضبط المنطقة، كلّ قضاء فيه سرّية ليش بالهرمل لا؟”. حصل مرة أن طلب المخفر تنفيذ مداهمة في إحدى مناطق العشائر، وعندما اتصلوا بالسطات العليا قيل لهم “هيدي بدها فيلق للمداهمة”، وعادة ما يقود الفيلق قائد الدرك وعليه طويت المداهمة وملفها. يختم رجل الأمن كلامه بمعاناته “عشت سنين شوف المطلوبين قدّامي وما إقدر إعمل شي”. 

 

حلّ المشاكل عبر “تبويس اللحى” 

يرغب المحامي فراس علام وضع الأمور في نصابها: “نعاني من غياب كامل للدولة بأجهزتها الأمنية الممثّلة في الهرمل ولكن غير الفعّالة”. الأهم بالنسبة إليه هو القرار: “مثلاً أمن الدولة نشطوا جيداً بالنسبة للاجئين السوريين وعملوا داتا كاملة عنهم، وإذا واحد بينقل من بيت لبيت بيعرفوا”. وكذلك الأمن العام “عندهم دوريّات استقصاء وعندهم معلومات عن كل شيء”. والجيش “موجود ومخابرات الجيش موجودة ولمّن بدهم يعملوا شي بيقدروا يعملوه”. يعطي فراس مثلاً عن عملية نوعية قامت بها مخابرات الجيش للقبض على مطلوبين بقتل عسكري: “وصل برّاد خضار مسكّر ع بيت المطلوبين، وفجأة نزلت منه قوى كبيرة وفوراً دعمتها قوّة مؤللة ضخمة، وتمكّنوا من القبض على المطلوبين الأربعة دفعة واحدة”. قصد علاّم أن يبرهن أنّهم قادرون على تنفيذ مهمّات عندما يريدون ذلك.  

يُختصر النشاط الأمني بالنسبة للمطلوبين بقيام القوى الأمنية بطلب النشرة الأمنية لأيّ شخص يدخل المخفر “وبتقبض عليه إذا عليه شي”. أمّا كل المشاكل وإطلاق النار ومعظم المواجهات التي تحدث في ساحة السبيل وأمام السرايا تنتهي بعدم القبض على أحد، “حتى أوقات بينقال للناس جاية دورية للجيش فبيهرب المتقاتلين”. 

ويلحظ المحامي علاّم أثر طرق حلّ المشاكل في تفاقم الوضع الأمني: “القصص عم تنحلّ ع الطريقة العشائرية، وتبويس اللحى، وكلّها بالمصالحات، في غياب القضاء”. فطالما “الدولة غير موجودة حتى قضايا القتل والدم والقواص تُحلّ بالمصالحة”، وأكثر من ذلك يتعهّد المتدخّلون بـ”تزبيط الملف الأمني للمتورّطين بالمشاكل، وبيجي الموضوع رزمة واحدة مع الصلح، وهكذا يحصل”. وهناك إخلاء السبيل الدائم لمعظم من يقبض عليهم “ما حدا عم يتحاسب يعني محلولة بالنسبة لكلّ العالم وفي مين يزبّط الملف القانوني”. أمّا عندما يتمّ تسليم مطلوب للدولة “بيقعد شهر بالحبس وبيرجع طبعاً بيطلع”. ولذا عندما يكون عقد الصلح في قضايا “ضربة الكفّ إلى القتل” هو سيّد الموقف لن يكون هناك رادع في “منطقة تعجّ بالعاطلين عن العمل والمطلوبين والأفق المسدود ببناء حياة طبيعية”. 

هذا الواقع انسحب على المجتمع برمّته. وفق علاّم، “كلّ العالم اليوم مستعدّة تحمل سلاح وتقوّص”. وبدل أن تنجح العائلات الهرملية بسحب العشائر نحوها “يعني بلا قواص وثأر”، يرى علام أنّ أهل الهرمل “عم يروحوا ع العشائرية”. ويعطي مثلاً عن عشيرتي شمص وحمادة في الهرمل “تاريخياً ما كانوا من عشائر المشاكل، إذ تفكّكوا وانتشروا وما عندهم جرد وصاروا تجّار وموظفين، وأيضاً آل علام نسيوا العشاير، وحتى عوّاد نادراً ما كانوا يتصرّفون كعشائر”. أما اليوم “رجعت كلّ الناس على الأمن الذاتي وفي عائلات عم تروح تستعين بناس من العشاير، ويستقووا فيهم أو يشرّعوا عندهم (أي يتقاضون أمامهم)، وما بيروحوا ع القضاء”. وقد يلجأ شخص من الهرمل إلى تسجيل حصته في شركة ما باسم رجل من العشائر لكي يستقوي على شريكه.

يروي علّام كيف أقنع ابن عمه بعدم إطلاق النار خلال إشكال وقع بينه وبين رجال من عشيرة حمادة “روح قدم شكوى بالمخفر إذا بتريد” قال له على الهاتف من بيروت. كان ابن عمه في المخفر عندما نظّم عدد من شبان آل علام أنفسهم وبدأوا بإطلاق النيران والقذائف على عشيرة حمادة “وجاءت قذيفة في بيت عائلة من آل بليبل”. عندما تناقش معهم كانت حجّتهم جاهزة “ما فينا ما نردّ عليهم بعدما أطلقوا علينا النار، بيصير الصغير والكبير يستوطي حيطنا وما منعود فينا نرد حدا عنّا”.

هذا غيض من فيض من ما يحصل في الهرمل، هناك قصص لا تعدّ ولا تحصى عن المشاكل التي تقع يومياً لأتفه الأسباب “بسبب ركن سيارة، أو تزاحم خلال زحمة السير، أو لأن أحداً نظر إلى الآخر بطريقة لم تعجبه”، وتتحوّل هذه الأمور إلى إشكالات قد تنتهي بإطلاق النار.  

هذا الواقع أوجد حساسية ليست خفية بين ابن المدينة وابن العشيرة. بعض أبناء الهرمل يقولون إنّ العشائر استباحوا المدينة وأخلّوا بأمنها عندما نزلوا من الجرود إليها، وهم محقّين في جزء كبير من كلامهم. في المقابل، يأخذ بعض أبناء العشائر على أبناء الهرمل استمرارهم في اعتبارهم غرباء برغم مرور أكثر من خمسين عاماً على سكنهم في المدينة “الهرمل لكلّ الناس، وعيب التصنيف بين إبن جرد وإبن مدينة”، وهم أيضاً محقّون وبخاصّة الذين ينفرون من المشاكل ويبتعدون عنها، لا بل يعانون بسببها مثلهم مثل أهل المدينة.

وحدها الدولة تتفرّج على الطرفين من بعيد تاركة نسبة البطالة في أعلى مستوياتها، والإنماء في أسفل سلّم البلاد، والأمن، أمن الناس في مهبّ فوهّة بندقية فالتة.  

 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني