على عكس الكثير من الأحزاب الإسلامية الأخرى، استطاع حزب "العدالة والتنمية" التركي أن يستمر في الحكم عبر تطبيقه لسياساته بشكل براغماتي تبعاً لميزان القوى الداخلي. لم يمارس الحزب التركي الحاكم قبل العام 2011 سياساته الإسلامية المحافِظة بوضوح داخل تركيا، لكنه فعل ذلك بعد هذه السنة، تبعا لنهاية الصراع التقليدي بين المؤسسة العسكرية الحامية لعلمانية الدولة من جهة والسلطة المدنية من جهة أخرى لصالح هذه الأخيرة.
مع حلول العام 2011، أطبق الحزب الحاكم السيطرة على مفاصل الدولة، كما فاز، في العام نفسه، في الانتخابات النيابية بأكثرية 326 نائباً من أصل 550، وهي الأكثرية التي لا تزال تحكم تركيا من خلالها. وتبعاً لذلك، بات الحزب أكثر تحرراً في إدارة الدولة والمجتمع، خاصة وأنه استطاع تأكيد شرعيته الشعبية في كل مناسبة منذ وصوله إلى الحكمفي العام 2002. فظهرت تباعاً النزعة الإسلامية المحافِظة في سياساته وخطاباته الرسمية والقوانين التي شرعها.
وتعود الجذور الفكرية لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا إلى فكر "الإخوان المسلمين"، إنما المتأثر بالحداثة التركية ذات المنشأ الغربي، بالإضافة إلى تأثره كذلك بالتراث الصوفي ومبادئه، كما بالتجربة العثمانية. أما جذوره السياسية، فتعود إلى النضال الشاق الذي خاضته الأحزاب الإسلامية الراديكالية التركية منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، والتي واجهت سلطة المؤسسة العسكرية التركية والأحزاب العلمانية على مدى حوالى نصف قرن. أما اليوم، فباتت القوى العلمانية التركية معارضة للحكم وضعيفة، فيما القوى الإسلامية تحكم تركيا بشكل منفرد، وتعمل على استخدام القانون لتعزيز أسلمة المجتمع والدولة التركية على الرغم من بقائها رمزياً دولة علمانية.
قانون الحدّ من استهلاك الكحول واستنسابية تطبيقه
ما أن أمّن حزب "العدالة والتنمية" أكثريته البرلمانية بعد العام 2011 حتى باتت القوانين التي يشرّعها أكثر إسلامية، كما باتت معنية أكثر بالشؤون الاجتماعية وتطال مجمل الأتراك، ومنها موضوع الكحول والحدّ من استهلاكه. وعلى الرغم من أنها دولة علمانية ولا تتبنى إيديولوجية دينية معينة، إلا أن تركيا، ذات الأكثرية الإسلامية الساحقة، أقرت قانوناً للحدّ من استهلاك الكحول والتجارة به في 24 أيار 2013[1].
وينص القانون الذي حمل الرقم 5752 على عدم السماح ببيع الكحول بين الساعة العاشرة مساءً والسادسة صباحاً في كل الأراضي التركية، كما يمنع كل أشكال الدعاية للمواد التي تحوي كحولاً، أو إقامة المهرجانات الخاصة بهذه المنتوجات. علاوة على ذلك، نصّ القانون على منع استهلاك أو بيع الكحول في قُطرِ 100 متر من أي مركز ديني أو تعليمي. وبات باستطاعة الحكومة كذلك فرض رقابة على الأفلام والمسلسلات التي تحتوي على المشاهد التي تصوّر الكحول بشكلٍ إيجابي. كذلك وضع القانون شروطاً قاسية على كل من يريد أن يحصل على رخصة لبيع الكحول من تاريخ إقرار القانون، كما سنّ القانون نفسه غرامات قاسية على المخالفين[2].
ويبرّر رئيس الجمهورية التركية الحالي، والرئيس السابق للحزب الحاكم، "رجب طيب إردوغان"، اعتماد قانون الحدّ من استهلاك الكحول بأنه يهدف الى "تربية أجيال سليمة" والى "تخفيف حوادث السير"[3]. غير أن للأحزاب المعارضة، كما الشباب التركي وتجّار الكحول الأتراك آراءً أخرى إذ يعتبرون أن قانون الحدّ من استهلاكه هدفه "أسلمة المجتمع وينبع من عقلية فاشية إسلامية"[4].
وعلى الرغم من معارضة الأحزاب العلمانية للقانون، ووصفه بـ"أنه يخفي في طياته فرض عقيدة دينية.. وليس قانوناً يتعلق بمحاربة مضار الكحول بقدر ما هو يتعلق بإعادة هندسة المجتمع حسب مبادئ وأسلوب حياة الحزب الحاكم"[5]، إلا أن القانون أقرّ في البرلمان بسهولة وبدأ العمل على تطبيقه.
ومع امتلاك الحكومة التركية لقانون خاص يمنع استهلاك الكحول، بات باستطاعتها اعتماد تطبيق استنسابي له. فمثلاً، ألغت شركة الطيران الوطنية التركية تقديم الكحول على متن معظم طائراتها خلال الرحلات الداخلية، إلا أنها أبقتها للمتوجهين إلى المدن ذات الأكثرية العلمانية، بالإضافة إلى اسطنبول لأسباب سياحية[6]. كما باتت الحكومة تستخدم تغيير الصفات القانونية لأماكن محددة من أجل السماح بتطبيق قانون منع استخدام الكحول فيه. فتقوم مثلاً بتحويل الصفة القانونية لأي منتزه سياحي وتجعله معلماً تاريخياً في القانون، أو تعطي صفة المركز التعليمي لأي مركز ثقافي فيصبح قانون منع استهلاك الكحول في المعلم والمركز ساري المفعول بشحْطة قلم من الوزير المعني أو بتصويت من البرلمان التركي إذا دعت الحاجة[7].
وعلى الرغم من أن القانون يأخذ حجّة سلامة الأتراك كمبرّر لإقراره وتطبيقه، إلا أن أجندة إسلامية تقف خلفه وتهدف إلى فرض أسلوب عيش على الأتراك مماثل لأسلوب عيش حكامه الإسلاميين. في حين أن خطورته الحقيقية تكمن في إمكانية استنساب تطبيقه من قِبل الحكومة، كما في المساهمة في تغير هوية الأتراك والتي ستبرز نتائجها في المستقبل.
عودة الحجاب إلى المدارس والجامعات والبرلمان
لأن هوية الدولة التركية علمانية، عمدت الحكومات المتعاقبة، منذ عشرينيات القرن الماضي، إلى التخفيف من استخدام الرموز الدينية في الدولة والمجتمع عبر سلسلة من القوانين والقرارات الحكومية. وتبعاً لذلك،حصد الحجاب الإسلامي الكمية الأكبر من هذه القرارات والتي منعت إبرازه في المؤسسات الرسمية والعامة كما في المدارس والجامعات. إلا أن حزب "العدالة والتنمية" أقرّ سلسلة من القوانين والقرارات التي خففت من حظر لبس الحجاب وعززت حضوره كهوية للمسلمات، فكان البدء بالسماح في لبسه في الجامعات التركية مع إقرار البرلمان قانوناً في هذا الشأن في العام 2008[8].
وعلى الرغم من أن هذه السياسات وعد بها الحزب الحاكم منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002، إلا أنه بدأ برفع الحظر عن لبس الحجاب بشكل جدي منذ شهر تشرين الأول من العام 2013. فكان أن أقرّ سلسلة من القراراتمكنت الراغبات بلبس الحجاب في مؤسسات الخدمة المدنية كما في الوزارات والإدارات العامة، إنما مع استثناء ظرفي لكل من المؤسستين العسكرية والقضائية. وعلى الرغم من وصف الأحزاب العلمانية كما المنظمات النسوية للقرار بأنه "ضربة قاسية لمبدأ علمانية الجمهورية"، إلا أن القرارات فُعّلت فور صدروها[9].
بالإضافة إلى ذلك، بات بإمكان البرلمانيات التركيات الدخول إلى مقرات عملهنّ الرسمية وهنّ مرتديات لحجابهنّ، فشهد يوم 31 تشرين الأول من العام 2013 أول حضور لأربع نائبات من الحزب الحاكم إلى جلسة في البرلمان بلباسهنّ الإسلامي، في حدث وصفه أردوغان بالتاريخي[10]. كذلك، لم ينسَ الحزب الحاكم طالبات المدارس من قراراته، فأصدر لهنّ قراراً خاصاً عام 2014 قضى بإمكانية ارتداء الحجاب منذ عمر العشر سنوات في المدارس الرسمية[11]. وعلى الرغم من وعد رئيس الحزب العلماني بالطعن في القرار بالمحكمة الدستورية، إلا أن القرار الجديد لا يزال ساري المفعول في المدارس التركية إلى اليوم.
وتكمن أهمية هذه القرارات والقوانين في أنها تطال أحد أهم المواضيع ذات الطابع الديني – الاجتماعي – الحقوقي في تاريخ تركيا الحديث. فيما يبدو أن عمل حكومات "العدالة والتنمية" على إعطاء حقوق للمحجبات في الشأن العام يلقى قبولاً منهنّ، بينما لا ينفع انتقاد الأحزاب العلمانية وسياساتها المضادة في وقف إبراز كل ما يَرمز إلى الإسلام في المجتمع والدولة التركية.
تبدو السياسات الإسلامية في تركيا في تصاعد مستمر، أكان من حيث عدد الذين تطالهم القوانين والقرارات ذات النزعة الإسلامية،أو في عدد المؤسسات التي تطالها والتي باتت تغطي كل المؤسسات والإدارات العامة والتربوية في تركيا. في المقابل، يبدو أن علمانية الدولة التركية قد باتت موضع شكّ في الوقت الذي يسعى فيه حكام تركيا إلى إبراز المظاهر والرموز الدينية في كل المجالات، ومن دون استطاعة ردعهم من قبل أيّ قوة سياسية أو شعبية علمانية فاعلة.
رئاسة الشؤون الدينية أداة لأسلمة الشباب
ضمن إطار عملها لتغيير هوية تركيا والسعي إلى زيادة الانتماء والوعي الإسلاميين عند الأتراك، عملت الحكومة التركية على زيادة أعداد المساجد بشكل كبير، خاصة وأن المساجد هي المكان الأنسب للتأثير على الشباب. وبما أن الكتلة الشعبية العلمانية في تركيا هي مؤلفة من الشباب الجامعي بشكل أساسي، بدأت الحكومة ببناء مساجد لهم في الجامعات نفسها.
ففي 21 تشرين الثاني من العام 2014 أعلن رئيس مؤسسة رئاسة الشؤون الدينية "محمد غورميز" عن نيته بناء مساجد في كل الجامعات التركية قائلاً "أن هناك 20 مليون شاب في تركيا ونريد أن نصل إلى كل واحدٍ منهم"، مؤكداً أن مؤسسته، التابعة قانوناً لرئاسة الحكومة، ستهتم بكامل مصاريف الأئمة "لمساعدة الشباب على حل مشاكلهم"[12]. ولا يبرز تأمين كلفة بناء المساجد وتوظيف أئمة لإدارتها أي أزمة مالية للحكومة التركية، خاصة وأن هذه الأخيرة قد زادت من موازنة رئاسة الشؤون الدينية لتصل إلى 5.5 مليار ليرة تركية (نحو ملياري دولار) في العام 2015، وهو المبلغ الذي يمثل نحو ضعف موازنة وزارة الصحة، ويعادل تقريباً مجموع موازنات 7 وزارات، من بينها البحث العلمي والاقتصاد والتنمية[13].
وفي موازاة هذه الميزانية الكبيرة لمؤسسة رئاسة الشؤون الدينية، شهد العقد الأخير تضخماً كبيراً في عدد المساجد في تركيا. وأوضح تقرير صادر عن المؤسسة في شهر تموز من العام 2014 أن عدد المساجد في العام 2004 كان 77 ألفا و151 مسجدًا، فيما ارتفع في السنوات العشرة الأخيرة بنسبة 10.7 في المائة ليصل إلى 85 ألفا و412 مسجداً[14].
بالإضافة إلى ذلك، وقعت رئاسة الشؤون الدينية اتفاقاً مع وزارة الصحة التركية بداية العام 2015 من أجل تأمين خدمة أخرى للمؤمنين تقوم على تأمين رجال دين في المستشفيات لرفع الروح المعنوية للمرضى[15]. كذلك، كان "غورميز" قد أعلن عن تأسيس جامعة إسلامية دولية باسطنبول، معتبراً "أنها ستكون جدّ مهمة للعالم الإسلامي والإنسانية جمعاء"[16].
ومن خلال هذه الإحصاءات والسياسات التي تقوم بها الحكومة التركية عبر المؤسسة الدينية الرسمية التابعة لها، يمكن القول أن مشروع أسلمة تركيا بات عملاً جدياً ومؤثراً في نفس الوقت. فهذا المشروع لا يطال فئة واحدة من المجتمع، إنما كل المجتمع، بدءاً بالشباب وصولاً إلى منتظري الموت على فراش المستشفيات، كما أنه يطال الصروح التعليمية والتربوية العادية كما تلك الإسلامية.
وتلعب رئاسة الشؤون الدينية دوراً بارزاً في تعزيز الانتماء الديني للأتراك وبث الإيمان بين المسلمين، وتبدو أداة حكومية مؤثرة في مشروع أسلمة الدولة والمجتمع. في حين أن الرخاء الاقتصادي الذي تمتعت به تركيا خلال السنوات العشرة الأخيرة بشكل عام يُسهل عملية أسلمة المجتمع عبر تأمين المبالغ اللازمة لهذا المشروع.
مدارس "إمام-خطيب" لتنشئة "جيل تقي"
بالإضافة إلى إقرار قوانين تسمح بارتداء الحجاب في المدارس، تعمل الحكومة التركية على "إلزام" الطلاب على الالتحاق في المدارس الدينية. ففي تركيا، تقوم وزارة التعليم بإجراء امتحانات للذين يريدون استكمال تعليمهم في المرحلة الثانوية، في حين أن الذين يرسبون يتمّ توزيعهم على المدارس الأخرى، وأهمها مدارس "إمام – خطيب".
هذه المدارس الدينيّة يتمحور تعليمها حول القرآن والدروس الإسلاميّة بشكل أساسي، في حين أن عددها قد تضخم بنسبة 73% منذ العام 2010، بينما حوّل قسم من المدارس الرسمية إلى مدارس "إمام- خطيب" بقرارات حكومية خلال السنوات الأخيرة[17]. وفي العام الدراسي 2013-2014 مثلاً، تقدم حوالى مليون ومئتا ألف طالب إلى امتحانات الالتحاق في المدارس الثانويّة العلمانية، إلا أنه تم قبول 360 ألف طالب فقط[18]، فاضطرّ بقية الطلاب على استكمال تعليمهم في مدارس "إمام-خطيب" أو في المهنيات، خاصة أن بعض المناطق النائية لا يوجد فيها إلا هذه المدارس.
وفي الوقت الذي تنتقد فيها النقابات التعليمية هذه السياسيات الحكومية، كما يقوم الحزب العلماني باعتبار "أن الحكومة تسعى لتحويل المدارس الرسمية إلى مدارس دينية لأهداف عقائدية"، لا شيء يمنع حزب "العدالة والتنمية" من استكمال سياساته الإسلامية. كما يبرّرها وزير التعليم التركي "نابي أفشي" بأن "معظم الأهالي يفضلون إرسال أولادهم إلى المدارس الدينية"[19] متعامياً عن سلب أكثر من نصف مليون طالب تركي لحقهم في التعليم في المدارس العلمانية.
وفي الوقت الذي يبرّر "أردوغان" مراراً سياساته التربوية الإسلامية برغبته بـ"تنشئة جيل تقي"[20]، لم تعجب هذه السياسات العلويين الأتراك الذين غالباً ما ينظمون مظاهرات وعرائض مناهضة لسياسة التعليم التركية الجديدة. وكان آخر هذه السياسات إعتماد بعض المواد التعليمية الدينية الإلزامية عام 2015 في المراحل الثانوية والابتدائية في المدارس العامة، على الرغم من أن المادة 12 من القانون رقم 1739 الخاص بالتعليم الوطني تنص على أن "العلمانية جزء أساسي من التعليم في تركيا". وتجدر الاشارة الى أن المواد الإلزامية التي أضيفت إلى المناهج التعليمية تروج للإسلام السني فقط[21].
كخلاصة، يمكن القول أن الأمور في تركيا تتجه إلى المزيد من أسلمة الدولة والمجتمع، خاصة أن الأدوات المستخدمة لتحقيق هذا الهدف تؤثر على كافة الأتراك وتطال كامل شرائح المجتمع، كما كل مظاهر الحياة الإجتماعية. فمن القطاع التربوي بشقيه الجامعي والثانوي إلى النساء والمستشفيات، مروراً بكل مظاهر الحياة الإجتماعية من اللباس والحدّ من استهلاك الكحول إلى بناء المساجد، يعمل حزب "العدالة والتنمية" على إبراز المظاهر الإسلامية في المجتمع والدولة دون هوادة.
علاوة على ذلك، يملك الحزب التركي الحاكم أدوات تسهل عليه تطبيق سياساته الإسلامية، ومنها رئاسة الشؤون الدينية بالإضافة إلى الوزارات وسيطرته على أكثرية برلمانية تتيح له إقرار القوانين التي يريدها عندما تدعو الحاجة. ويساعد الوضع الإقتصادي المستقر نسبياً والمزدهر إجمالاً الحكم التركي في زيادة مصاريفه لأسلمة المجتمع، في حين تبقى المعارضة التركية العلمانية ضعيفة وغير مؤثرة في إحداث أي تغيير في سياسة الحكم أو وقف سياساته الإسلامية.
كذلك، يعمل "العدالة والتنمية" ضمن الأطر القانونية في مجمل سياساته. فهو، وإن كان يسعى إلى تغيير هوية الأتراك في نهاية المطاف، إلا أنه يقوم بذلك عبر استخدام القوانين والقرارات الصادرة عن المؤسسات الشرعية ويقدمها للشعب بشكل ردٍ على مطالبهم كما بتبريرات دينية وأخلاقية. إلا أن سيطرة الحزب الحاكم على كامل مقاليد السلطة الرسمية من جهة، وغياب معارضة تركية فعّالة من جهة أخرى، كلها أمور تمكّنه من تطبيق استنسابي للقوانين والقرارات التي يصدرها.
متوفر من خلال: