القانون في ظلّ المجازر الإسرائيليّة في فلسطين: موت وهمٍ ليبرالي وعواقبه في بلادنا


2024-01-15    |   

القانون في ظلّ المجازر الإسرائيليّة في فلسطين: موت وهمٍ ليبرالي وعواقبه في بلادنا
رسم رائد شرف

سيكون للجرائم الكبيرة التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين حاليًا عواقب كثيرة. من بينها عاقبة متميّزة، قد تكون ثانوية بالنسبة للكوارث الإنسانية التي نشهدها في أحياء غزة المدمّرة، إلّا أنّها تبقى مهمّة من أجل فهمٍ أفضل للعالم الآتي، كما يُرجّح أن تتعاظم أهميّتها في السنوات المقبلة. هذه العاقبة الاستثنائية هي تدمير مشروعية القانون في تفادي أبشع الجرائم ضدّ البشر.

بالطبع، يمكن وضع ملاحظات عدّة على هذه الخلاصة الأوّلية التي قد تبدو ساذجة. فقد دمّرت المقاربات القانونية النقدية منذ زمن طويل أيّ أمل في عدالة قد يفرضها القانون عامّة والقانون الدولي خاصّة، عبر فضح نفاق الخطاب القانوني الغربي المتعلّق بالقانون الإنساني أو الحقوق الأساسية. فهو خطاب لطالما كرّس مسافة كبيرة بين النصوص والكلمات من جهة وبين حقيقة الممارسات الغربية على الأرض من جهة أخرى، لا سيّما في الجنوب العالمي وبخاصّة في فلسطين وضدّ الفلسطينيين. وحتى القانونيين المتفائلين بقدرة القانون على حماية الحقوق، ضعف إيمانهم منذ فترة غير قصيرة أمام كثرة التعديات الإسرائيلية المنهجية وفداحتها على القانون الدولي والحقوق الأساسية للفلسطينيين منذ 1948، عبر الاحتلال والاستعمار والتطهير العرقيّ المتكرر والاغتيالات والاستيلاء على الأراضي والتوقيفات من دون أيّ محاكمة والتعذيب، وطبعًا عبر نظام الفصل الدّيني والإثني الذي أصبح اليوم واقعًا موثقًا دوليًا.

إلّا أنّه لا يكفي توثيق انتهاكات القانون أو الحقوق من أجل إعلان انتهائها: ففي الماضي، كانت معظم القوى الغربية ونُخبِها تدين، في الشكل على الأقلّ، الانتهاكات الإسرائيلية المتكرّرة (حتى ولو لم تضع حدًّا لها في أغلب الأحيان)، أو كانت تدّعي عدم رؤيتها فيما تكرّر التذكير علنًا بمبادئ القانون الدولي والإنساني. إلّا أنّ مرجعيّة القانون، الخطابية والسردية، حتى ولو لم يتبعها تطبيقه الفعلي، بقيت القاعدة في العقود الأخيرة. كانت الحقوق الأساسية بمختلف أشكالها لا تزال تمثّل المبدأ الأعلى والأفق المشترك لمقبوليّة الخطاب السياسي على الساحتين الدولية والمحلية في الغرب. هذه المرجعيّة المبدئيّة للخطاب الحقوقي، حتى وإن كانت غير فعّالة، والتي بُنيَت على ركام العالم عام 1945 لكي لا تتكرّر الفظاعات الفاشية لا سيّما ضدّ يهود أوروبا، هي التي تنهار اليوم تحت أعيننا في الغرب. وستكون نتائج هذا الانهيار خطيرة بالنسبة إلى سكان الدول العربية المتمسّكين بدولة القانون كأفق سياسيّ يأملون بلوغه.

من النفاق الليبرالي المعتاد إلى تبرير الإبادة الجماعية: الانكسار الخطابي الغربي ونتائجه

ما أن انتهت هجمات “حماس” ضدّ إسرائيل في 7 أكتوبر، حتى رأينا القياديين الغربيين يكرّسون بما يشبه الإجماع، انكسارًا كبيرًا وغير مسبوق في الخطاب الحقوقي. وحيث كانت المقاربة النقدية للقانون تدين عادة البيْن بين الخطاب والممارسة، فقد شاهدنا منذ ذلك التاريخ كيف بدا الخطاب نفسه وكأنّه تحرّر كلّيًا من القيود القانونية والحقوقية والأخلاقية التي كان على النخب الغربية مراعاتها قبل ذلك عندما كانت تتناول الاعتداءات الإسرائيلية. فتح هذا التحوّل الخطابي المجال لتبرير قلّ نظيره لتدمير المقوّمات المجتمعية والإنسانية الفلسطينية، من دون بذل أيّ جهد في التبرير أو التّفسير. وقد أدّى تهميش القانون في الخطاب إلى تعرية الجموح الاستعماري للمواقف الغربية، والذي نرى الآن أنّ المقاربات الحقوقية المثالية في القرن العشرين قد فشلت في ترويضه أو كبحه: يبقى اليوم كلّ شيء مسموحًا للإنسان الغربي، لا سيّما للحفاظ على هيمنة الأداة الاستعمارية الكبرى في الشرق الأوسط، أي إسرائيل، من دون أي محاسبة. إنّ النفاق الغربي الشهير، هذا التكريم الذي كان على الشرّ العنصري الغربي تأديته ظاهريًا لفضيلة الحقوق في العقود الماضية، قد انهار في بضعة أيام عام 2023. استرجع الخطاب المهيمن في الغرب روحه العنيفة المتعجرفة التي ميّزت الاستعمار الغربيّ في القرن التاسع عشر، مُطلقًا أمامنا تبريرًا غير مسبوق للجرائم ضدّ الإنسانية، التي أصبحت مقبولة طالما أنّها تخدم الهيمنة الغربية عبر أداتها وشريكتها الإسرائيلية، وطالما أنّ ضحاياها ليسوا من البيض. كلّ ذلك يحصل تحت نظرات المحكمة الجنائية الدولية العاجزة، والتي لم تعدْ تحاول حتى أنْ تتظاهر بالاكتراث للعدالة في فلسطين، كما تدلّ تصريحات مدّعيها العامّ كريم خان الإعلامية غير المتكافئة ولا المتّزنة.

وقد كرّس اضمحلال القيد الحقوقي بالنسبة لفلسطين، وثمنه عشرات آلاف الضحايا الفلسطينيين، تدهورًا جديدًا لمكانة الحياة الفلسطينية في النظرة الغربية. وكان التدهور الأوّل قد حصل قبل بضعة عقود عندما نُزع الطابع السياسي عن القضية الفلسطينية (أي الحق الأساسي الجماعي للفلسطينيين في استعادة أراضيهم التي سلبتها إسرائيل منذ 1948، لتأسيس دولة واحدة ديمقراطية متعدّدة الديانات في فلسطين)، فتمّ تحويلها إلى مسألة حقوق شخصية لفلسطينيين أفراد مجزّئين ومبعثرين. أمّا التدهور الثاني الذي يكرّسه تحوّل الخطاب الغربي اليوم، فقد نزع هذا الطابع الحقوقي بدوره عن المسألة الفلسطينية وحوّله إلى طابع إنساني محض: لم يعد الفلسطينيون يتمتّعون حتى بتلك الحقوق، إذ يكفي أن يرسل لهم قادة أميركا وألمانيا وفرنسا بعض الغذاء والأدوية تمنع إسرائيل وصولها أصلًا، للادّعاء بحماية حياة فلسطينيين يُعاملهم الغرب عمليًا كالماشية التي يؤمَّن لها بعض الطعام بانتظار الذبح القادم، بشكل يندمج تمامًا مع نظرة “الحيوانات البشرية” المعتمدة من قبل أفضل حلفائهم الإسرائيليين الذين باتوا اليوم يعبّرون عمّا تضمره نخب غربية يزداد حجمها كل سنة.

وأخيرًا، سمح التخلّص من القيد الحقوقي بعمليّتين فكريّتين وإعلاميّتين هما موضع إدانة منذ شهرين. فقد سمح تهميش القانون بضمان إفلات إسرائيل من المحاسبة بالنسبة لماضٍ مليء بالانتهاكات والجرائم والاعتداءات، عبر إخراج هجمات 7 أكتوبر من أيّ نطاق قانوني وتاريخي، وكأنّها لم تحصل بعد عقود من التطهير العرقيّ والاحتلال والاستعمار والحصار والمجازر الاسرائيلية، كتلك التي حصلت عند مسيرة العودة عام 2018 في غزة مثلًا، والتي أوقعت آلاف الضحايا المدنيين الفلسطينيين من دون أن تثير استهجانًا يذكر عند النخب الغربية نفسها. كما ضَمَن هذا التخلّي عن المبادئ الحقوقية لإسرائيل إفلاتًا من العقاب بالنسبة للمستقبل، مع تقديس حق الدفاع عن النفس الذي تمّ تضخيمه إلى درجة أنّه لم يعدْ يعني أي شيء إلّا التحرّر الكامل من أيّ قيد على ممارسة العنف. وقد أظهر آخرون كيف أنّ هذا “الحقّ” ليس له أي ركيزة شرعية عندما تستعمله قوّة محتلّة ومستعمرة ضدّ أعمال ينفّذها ضدّها الخاضعون للاحتلال والاستعمار، حتى عندما تكون هذه الأفعال محلّ إدانة موضعية أحيانًا. وقد فضح انهيار القيد الحقوقي داخل خطاب النخب الغربية، على هشاشته السابقة، وجهًا غربيًا مقزّزًا بالنسبة لأكثرية سكان الجنوب العالمي. فكيف نفسّر هذا الانهيار الصادم داخل الخطاب المهيمن في الغرب؟

الوجه الآخر لانهيار الخطاب الحقوقي تجاه فلسطين: رهاب الإسلام يُجهز على الليبرالية الغربية

كيف انتقلنا بهذه السرعة من خطاب ظاهره حقوقي، وإن لم يكن صادقًا دائمًا، إلى المجاهرة بتشجيع الإبادة الجماعية؟ لفهم هذا الانهيار في المرجعية الحقوقية داخل الخطاب الرسمي والنخبوي الغربي، علينا ربطه بانهيار آخر يحصل على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، أي انهيار منظومة حماية الحقوق والحرّيات والمساواة داخل الدول الغربية نفسها. عندما يزدري السياسيون الفرنسيون والبريطانيون والألمان بهذه الفجاجة الحقوق الجماعية والفردية للفلسطينيين عبر احتقار القانون الدولي والإنساني، فهم يقومون بذلك متوجّهين بشكل أساسي إلى جمهور مؤلّف من ناخبين يميلون أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرّف، كما تدلّ على ذلك الانتخابات الفرنسية والألمانية والإيطالية الأخيرة، أو تحوّلات الحزب الجمهوري الأميركي و”البركسيت” البريطاني. يتفاعل هؤلاء القادة مع مجتمعات باتت أكثريات متعاظمة داخلها تعتبر فلسفة الحقوق الأساسية عائقًا أمام تطلّعاتها السياسية الفوقية بالنسبة للحضارات الأخرى، لا سيّما الإسلامية منها.

فلا يمكن فهم الدّعم غير المشروط والفاضح الذي قدّمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإسرائيل مثلًا، حتى عندما بات القصف الإسرائيلي يأخذ بوضوح منحى الإبادة الجماعية، من دون أن نربطه بانزلاق السلطة التنفيذية الفرنسية وأكثريّتها النيابية بجميع مكوّناتها، كما أكثرية الناخبين الفرنسيين، نحو اليمين المتطرّف، إن كان بالنسبة لرفض الأجانب أو المهاجرين أو المنتمين لديانات وعروق أخرى، أو بالنسبة لكلّ الأقليات المهمّشة في المساحة السياسية الفرنسية. فعندما تنهار لغة الحقوق في العلاقة مع فلسطين، يترافق ذلك مع انهيار مقابل في حقوق المهمّشين أو المختلفين في الغرب، لا سيّما بالنسبة لغير البيض والمسلمين منهم. إنّ العنصرية الصاعدة هي نفسها، عندما تميّز ضدّ الإنسان المسلم أو العربي في باريس أو في برلين، أو عندما تسخّف حياة الفلسطيني والفلسطينية في غزة. لا بل إنّ العلاقة بين وجهيْ هذه العنصرية تسمح لنا بفهم الحماسة الغربية غير المسبوقة في دعم قتل أطفال فلسطين بالآلاف: فلماذا يتحمّس الأوروبيون والأميركيون لمجازر إسرائيل هكذا، فيما هم لا يعيرون عادة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية ومشاكلها أي اهتمام يذكر؟ لأنّه في عام 2023، أصبح وجه الفلسطيني والفلسطينية هو الوجه الذي تعطيه التيارات الغربية العنصرية لكلّ أحقادها ضدّ العرب والمسلمين في الداخل، إذ أصبح احتقار الفلسطينيين الطريقة الأسهل للتعبير عن رهاب الإسلام المتصاعد. ونفهم بالتالي كيف أصبحت الإيديولوجيا الحاقدة والعنصرية للحكومة الإسرائيلية، التي تميّز حتى بين مواطنيها على قواعد عرقية وإثنية، في تماهٍ كامل مع مضمون الخطاب الرسمي والنخبوي الغربي المهيمن، ومع الأحقاد الدفينة لأكثرية صاعدة من النخب الغربية التي أصبحت تستسهل تقديم هذا الدعم لإسرائيل في جرائمها، التي قد تعبّر عن أحلام قمعية ما زال تحقيقها غير ممكن في شمال المتوسط (لكن إلى متى، ومن يوقظ الغرب من كوابيسه العنصرية المتسارعة؟).

بالطبع، لا تشكّل هذه العنصرية البنيوية والمتعجرفة في الغرب السبب الوحيد خلف الدعم المبتهج لجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل. فقد نجد أسبابًا أخرى لتفسير هذا الانحراف في بعض الدول، مثل قوّة مجموعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة، أو علاقة النخب الألمانية المعقّدة بالمسألة اليهودية، إلخ… إلّا أنّ التحوّل الداخلي الغربي وبخاصّة الأوروبي يفسّر جزءًا مهمًّا من هذه التطوّرات التي باتت تنتج مفاعيل قانونية داخل الدول الغربية بشكل غير مسبوق. فلنعطِ مثل المنع الحكومي العام للتظاهر والتضامن مع فلسطين في فرنسا، وهو تدبير تمّ التطبيع معه اليوم، إلّا أنّه لم يكن ممكنًا تخيّله سياسيًا قبل عشر سنوات مثلًا، في بلد يمتهن وعظ الدول الأخرى بالديمقراطية وحقوق الإنسان منذ قرنين على الأقل. وحتى بعد أن تدخّلت المحاكم الإدارية لتُحجّم مفاعيل هذا القرار الاستثنائي، نجد في أحكامها بذور رقابة مستقبلية على أشكال وشروط التضامن مع فلسطين، الذي سوف يتعيّن عليه دائمًا أن يثبت ملاءمته مع أولوية دعم سردية الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين. ولنعطِ أيضًا مثال مشاريع القوانين الألمانية التي أُقِرّت في بعض الولايات، والتي تفرض الاعتراف بإسرائيل (مع كلّ انتهاكاتها للقوانين والحقوق الدولية) كشرط للحصول على الجنسية الألمانية، إضافة إلى الهستيريا القمعية التي أصابت النخب الألمانية. ولنعطِ أخيرًا مثل الاعتداءات المتكاثرة على حرّية التعبير في الجامعات الأميركية، التي تنقضّ بشكل متسارع على أساتذتها وطلابها الذين يشهرون دعمهم للفلسطينيين، تحت ضغط من الطبقة السياسية والمانحين، كما رأينا في مشهد سريالي عند استجواب رئيسات ثلاث جامعات كبرى من قبل الكونغرس الأميركي حول “التسامح” مع تواجد حراك داعم للفلسطينيين في الجامعات. وكأنّ حرّية التعبير التي اعتاد الأميركيون تقديسها لم تعد مسألة تستحقّ التوقف عندها. في قلب العواصم الغربية إذًا، نجد اعتداءات بالجملة على حرّيات أساسية كحرّية التعبير وحرّية الفكر، أصبحت جزءًا “طبيعيًا” من المشهد السياسي، بالطريقة نفسها التي تمّ فيها تطبيع المواقف الداعية والمبرِّرة لقتل الأطفال وللإبادة الجماعية في فلسطين. علمًا أنّ هذا التدهور الاستثنائي في الخطاب الحقوقي داخل الدول الغربية لا يعني فقط المسألة الفلسطينية، بل يطال شرائح أكبر من سكان تلك الدول في مسائل متعدّدة، كما نرى عبر مسألة عنف الشرطة في فرنسا مثلًا، أو مسألة الأعمال العدائيّة ضدّ المسلمين في ألمانيا. وهو انزلاق ينذر بتقهقر متعاظم في منظومة الحقوق والحرّيات على كافة المستويات محليًّا ودوليًّا، ما يطرح سؤالًا حول كيفية المحافظة على هذه المنظومة الحمائية فيما يأخذ عرّابوها التقليديون الغربيون طريقًا خطيرًا يهدد بإطاحتها من دون رجعة على حساب من هم بأمسّ الحاجة إليها.

ما بعد تصدّع مشروعية الخطاب الحقوقي: تحدّيات صعبة أمام الحقوقيين العرب

يفرض علينا كلّ ما سبق استشراف تطوّرات مستقبلية محتملة في المنطقة العربيّة، نلخّصها هنا بنقطتين قد تستحق كل واحدة منها مجهودًا فكريًّا مستقلًّا. إنّ النتيجة الأولى التي ستنهال علينا في السنوات المقبلة ستتمثّل في عملية استغلال تقوم بها الأنظمة العربيّة لهذا التصدّع في مشروعية المنظومة الحقوقية الحمائية، من أجل الانقضاض على كلّ حراك ومجموعة وناشط يستعمل اللغة والوسائل الحقوقية بشكل يهدّد مصالحها وهيمنتها السياسية والأمنية والاقتصادية. وعلينا عدم الاستخفاف بقدرة هذه الأنظمة على الاستفادة من نفاق الغرب الحقوقي من أجل تحقيق مكاسب داخلية على حساب معارضيها وكلّ من يحاول تأسيس أنظمة ديمقراطية تحتكم للقانون وتحترم الحقوق. فلا يوازي نفاق الأنظمة الغربية التقليدي سوى نفاق الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظام اللبناني وزعماؤه الذين يُمعنون اليوم في التنديد بالانتهاكات الإسرائيلية للحقوق والقانون، فيما لن يتردّدوا غدًا بالتحجّج باضمحلال لغة الحقوق هذه تحت الضربات الإسرائيلية والغربية لتسخيف الحجج الحقوقية لمعارضيهم الداخليين، تمهيدًا ربما لتهميشهم وقمعهم بزخم وقساوة أكبر من الماضي.

أمّا التطوّر الثاني المرتبط بالأوّل، فيخصّ مباشرة كلّ المعارضين الداخليين للأنظمة العربية القمعية والفاسدة الذين سوف يواجهون موجة القمع المحليّة الآتية على رياح الانتهاكات الإسرائيلية الحالية. فهؤلاء الحقوقيون قد يجدون أنفسهم سجناء لغة حقوقية تدرّبوا عليها وامتهنوها لفترة طويلة، فيما أصبحت صلاحيتها الأخلاقية موضع شكّ أكثر من أي وقت مضى، فتضعهم في موقع سياسيّ هشّ ومعرّض للتهميش. وقد يكون من المغري اليوم اعتماد ردّة فعل عفويّة عبر رمي كلّ المقاربة الحقوقية في القمامة ذاتها التي نود أن نرمي فيها النفاق السياسي الغربي من أصله. إلّا أنّ عفويّة كهذه سيكون لها نتائج كارثيّة مستقبلًا على كلّ الضعفاء في بلادنا. ومن هنا تبرز مهمّة صعبة للغاية علينا مواجهتها لا محالة، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الخطاب الحقوقي بهدف تطويره لجعله أكثر ملاءمة مع التطلّعات الأخلاقية التي نريد والتي تخلّت عنها أجزاء كبيرة من النخب الغربية اليوم، ولجعله أكثر قدرة على مواجهة آلات القمع واللامساواة عندنا. وإذا كان هذا الهدف يشكّل مجرّد ترف أو تحدٍّ فكري قبل تشرين الأول 2023، تواجهه بعض القانونيّات والمنظّرين النقديين أو النسبيين، فلقد أصبح اليوم ضرورة سياسية وأخلاقية طارئة لكلّ القانونيين والناشطات في الدول العربية ولبنان، الراغبين في مستقبل سياسي دولي ووطني لا يكون خاضعًا فقط لعلاقات قوّة طاحنة وقاهرة. ولكن كيف نحرّر هيكل الحقوق والحرّيات من وحول الكراهية التي أغرقته فيها النخب الغربية؟

لا شكّ أنّ لعملية الإنقاذ هذه أبعاد عدّة علينا مقاربتها في الوقت عينه. فنجد بعدًا فكريًا أولًا، إذ علينا تملّك وتطوير المقاربات النقدية تجاه فلسفة التنوير الأوروبية التي أنجبت لغة الحقوق بداية، وقد انبرى كثيرون قبلنا في إظهار إرثها الأبيض والذكوري والمسيحي والاستعماري. فلا عجب إذا أنجبت فظاعات الحروب العالمية في أوروبا أو برّرت مجازر غزة اليوم. وكان هناك محاولات قديمة في مناطقنا لبلورة لغة حقوقية تجد جذورها في أماكن أخرى، كالشريعة الإسلامية مثلًا. إلّا أنّ علينا أن ننظر أيضًا نحو دروب متنوّعة بدأ تطويرها منذ سنوات، إلّا أنّ الحقوقيين العرب لم يأخذوها كلّهم على محمل الجدّ مع كامل أبعادها التحليلية، وهي قد نستلهمها من الفكر ما بعد الاستعماري من أجل تفكيك سردية حقوقية مهيمنة ما زلنا نعلّمها في كليات الحقوق والعلوم الإنسانية عندنا، ولم تنهِ كلّها بعد عملية تحرّرها من أصولها الاستعمارية.

ثانيًا، هناك بعدٌ قانوني للتحدّيات التي تنتظرنا، إذ علينا إعادة التفكير في القاعدة القانونية للحقوق والحرّيات وتطويرها من دون التعويل غير النقدي على مرجعية الدساتير الغربية “الليبرالية”، أو من دون تقديس اجتهادات المحاكم العليا الغربية، كما المعاهدات الدولية المفعمة أحيانًا بروح الغرب إن لم يكن نصًا فتطبيقًا. ليس المطلوب طبعًا التخلص من المراجع الغربية، إنّما تحجيمها كما فعلت العلوم الإنسانية الجنوبية منذ مدة. إلّا أنّ العديد من القانونيين عندنا لم يسلكوا بعد هذا الطريق الشاقّ. وعلينا القيام بكلّ هذا من دون الانزلاق إلى مقاربات نقديّة متطرّفة لا تعير القانون أيّ اهتمام جدّي لدرجة تسفيهه، أو المقاربات النسبية التي تسوّق أحيانًا لحماية حقوقية متدنّية بحجّة رفض الهيمنة الغربية، وهو ما لا يمكن أن نقبل به. فرفضنا للنفاق السياسي الغربي لا يمكن أن يُتَرجَم بحماية أقلّ للضعفاء والأقلّيات عندنا. وهذه مهمّة صعبة وحساسة للغاية لا مجال للغوص فيها هنا.

وأخيرًا نجد بعدًا عمليًا، قد يكون الأقلّ تطلّبًا فكريًّا، إلّا أنّه الأصعب تنظيميًا وسياسيًا وهو كيفية المحافظة على قدراتنا في العمل الحقوقي السياسي على الأرض، مع التحرّر من شبكات التمويل والدعم الغربية، التي أدمنت عليها العديد من المنظمات الحقوقية، حتى متى حافظت على استقلاليتها الفكرية والسياسية بشكل كامل، في ظلّ غياب أفق التمويل العام أو الخاص المحلّي غير المرتهن سياسيًا؟ فديمومة هذه المنظمات وقدرتها على العمل تبقى مرتبطة بقدرات غربية أثبت جزء منها منذ 7 أكتوبر ارتهانه للسردية ومصالح الهيمنة الغربية الإسرائيلية مع كلّ ما يستتبعه ذلك من انتهاكات للحقوق عندنا؟ في المقابل لن يشكّل رفض التمويل الغربي من أجل الارتماء في أحضان التمويل السياسي الداخلي حلًّا مُرضيًا، إلّا ربما للمتموّلين في الداخل المتحمّسين لا شكّ للتطوّرات الحالية.

كلّها تحدّيات – معضلات سياسية وأخلاقية وقانونية صعبة تضعنا فلسطين أمامها اليوم. ولا خيار لنا سوى معالجتها بنجاح، لضمان مستقبل عادل للفلسطينيين على أرضهم وفي دولتهم، وللعرب في بلادهم، الآن وغدًا، في اليوم الذي يعقب التحرير.

نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لقراءة العدد بصيغة PDF

لقراءة المقال باللغة الانكليزيّة، إضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني