العشيرة في ميزان السوسيولوجيا


2021-08-23    |   

العشيرة في ميزان السوسيولوجيا
وادي الشربين شتاء (كامل جابر)

1 – العشيرة ليست الغريب 

ما أن يقع حدث يعود إلى عصبيّة محلّية أو إلى عشيرة ما، حتى ترى بعضاً من الوسط الثقافي، وبخاصّة بعض الوسط الإعلامي، يجنّد كلّ طاقاته لكي يتصرّف، ليس إلى الحدث بذاته، بل إلى صانعه كأنّما الإعلام لا يجد في هذا الصانع إلّا مادّة جاذبة، أو غريباً عن الانتظام البنيوي اللبناني، حيث حوّله إلى موضوع للاستهجان والدهشة كما يحاكي طروحات الأنتروبولوجيا حينما كانت تصنّف الخلق بين غريب طيّب وما قبل منطقي، وبين غربي “أنوي” ومنطقي. والبيّن في هذا الباب أنّ أنتروبولوجيا “الغرابة والدهشة” ما زالت تحضر في وعي مجموعة واسعة من مثقّفينا وإعلاميينا؛ وأنّ حضورها قد تبدّى بصورة أو بأخرى في مواقفه، وفيما يقدّمه من آراء وأفكار حول العشيرة. 

2 – وليست متخلّفة 

وهكذا، ترى هذه المجموعة في صورة أولى تختزل العشيرة بالأخذ بالثأر، ثم تحصره في المعنى القانوني أي في نطاق الجريمة، من دون أن تدرك أن معناه يتجاوز البعد القانوني إلى ما هو أعمق بكثير. فالأخذ بالثأر هو العنف العصبي الشرعي، أو الآلية العنفية العصبية التي تعيد اللحمة إلى نظام العلاقات السلطوية في العشيرة، إذا ما تعرّض للانكسار نتيجة مقتل أحد أفرادها. وهو آلية “تلحيم” الانكسار في النظام السلطوي العشائري. كما قد نلقاها في صورة ثانية ترجع بالعشيرة إلى زمن الدولة الإسلامية، وأحياناً إلى ما قبله. ودَيْدنه في هذا الرجوع هو تظهير الأصل النسبي العشائري، من غير أن يحتسب أنّ العشيرة ليست جوهراً أو ماهية لا تتأثر بسنن التاريخ وأحواله، بل هي ظاهرة مجتمعية تتحوّل وتتبدّل وفق تطوّر شروط التاريخ والمجتمع، ومن غير أن تعلم أنّ النسب العصبي لا يتحدد بالأصول البيولوجية، بل بنظام العلاقات المجتمعية وتحديداً بالنعرة والنصرة والمدافعة. وقد تجد هذه المجموعة في صورة ثالثة تُسقط أحكامها الذاتية المسبقة أو تصنيفاتها الأيدويولوجية على العشيرة. فترشقها بأوصاف “التخلّف” “والتأخّر” من دون أن تعي أن وصفها لا ينزل في موازين العلم والموضوعية، بل يحيل إلى أدلجة تفتئت على العشيرة وتسبغ عليها ما ليس من إنتاجها في الأصل. فالتخلّف ليس خاصّية عشائرية أو عائلية؛ بل هو خاصّية مجتمع ينتج التخلّف في أشكال متجادلة على غير صعيد. 

3 – مقترب سوسيولوجي 

وعلى هذا، كان لا بدّ من مقترب سوسيولوجي يقدّم صورة موضوعية عن العشيرة لئلّا يطغى الوعي الاختزالي عنها، أو النظر التنميطي والأيديولوجي إليها.

أ – في لبنان عشيرتان 

توجد في لبنان عشيرتان بالمعنى العامّ للمُصطلح: مارونية في الشمال الماروني. وشيعية في الشريط الشرقي من السلسلة الغربية وبخاصّة في الجرد الرملي. ولكلّ عشيرة منهما منطق خاص في تشكّلها في ضوء توفّر جملة من الشروط السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي عرفت مع انهيار نظام المتصرفية محطّة فاصلة في تكوّنها التاريخي. فأعلنت ولادتها مع مطلع الرّبع الثّاني من القرن العشرين، حركة انبناء الشروط التاريخية الخاصّة في كلّ من الجرد الرملي والشمال الماروني. وبتعبير آخر، إن تاريخ التشكل العشائري الحديث في لبنان، بدأ مع انهيار النظام المتصرفي، وليس مع أي تاريخ سابق عليه سواء كان خزيناً في الذاكرة الشعبية، أو مدوّناً في السرد الخطي لدى المؤرخين. 

ب – عشيرة البقاع الشمالي 

ومن باب هذا التاريخ وجدت العشيرة في الجرد الرملي حركة انبناء شروطها الخاصّة أو ظروفها المجتمعية الملموسة في تشكّلها الحديث. وتوزّعت العشائر في الجرد الرملي على عمودين عصبيين: عمود شمصي، وآخر زعيتري. والعمود هو تصنيف عصبي كان يجمع بين عناصر عصبية محدّدة ويتشارك في الحلف والولاء على قاعدة توازنات خاصّة في داخله وفي علاقته مع العمود الآخر. وكان العمودان ينتميان بالولاء إلى عصبية عامّة وموسّعة هي الحمادية. والحمادية لا تحيل إلى علاقات القرابة والنسب، بل تعبّر عن صيغة سياسية توحيدية ذات هيئة متراتبة في توازناتها. وقد استطاعتْ أن تنقل اسمها إلى العصبيات الجردية بحيث أصبحت تُعرف بالعشائر الحمادية.

ج – العنصر العصبي، عشيرة 

لكنّ الحمادية السياسية أخذت تشهد مع مطلع العشرينيّات تحوّلات نوعية في تركيبتها الداخلية وفي نظام علاقاتها الخارجية. فمع هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وزوال النظام المتصرّفي، ضعفت سلطة المشيخة الحمادية، وتوفّرت الشروط الملائمة للعنصر العصبي من العمودين المذكورين لكي يبني مسار انفكاكه عن الحمادية، أي لكي يبني سلطته المستقلّة. وقد وجد في ثورة فيسان عام 1926 محطّة فاصلة في انبنائها بكيفيات مختلفة بين عنصر عصبي وآخر. ومع استقلال سلطة العنصر العصبي عن الولاء الحمادي، أمكن له سواء انتمى إلى العمود الشمصي أو الزعيتري أن يشكّل عشيرة ذات مقوّمات موصوفة. 

سهل مرجحين معقل عشيرتي علوه وناصرالدين (تصوير كامل جابر)د – تعريف العشيرة 

وعليه”، فالعشيرة في التعريف التشكّلي هي شكل التنظيم المجتمعي والسياسي المستقلّ الذي اتّخذه العنصر العصبي الشمصي والزعيتري بعد مسار انفكاكه عن الحمادية السياسية. أو بمعنى آخر، هي الشكل التاريخي الحديث الذي بنى العنصر العصبي من خلاله سلطته العصبيّة المستقلّة. 

والشكل هنا يحيل وصفه إلى أنّ العشيرة هي مجموعة قرابية تقيم في مكان مشترك، ويجمعها الانتماء إلى النسب الواحد، والعصبية كرباط مجتمعي وظيفته النعرة والمدافعة عنها كوحدة مجتمعية سياسية تتوافر على سلطة مستقلة. وهي ذات نظام تكافلي بين أفخاذها وأجبابها بحيث تقوم أصول المعاملات بين أفرادها من جهة ومع الخارج من جهة أخرى على أساس المرجعية العصبية. 

ويكشف الوصف أعلاه، أنّ بنية العشيرة تشتمل على عناصر محدّدة من أبرزها: الزعامة أو السلطة العامّة- العصبية كرابطة عنف كامن هي جامعة وخاصّة- توازنات فخذية وجبّية. وهذه العناصر وغيرها مثل المعاشي والثقافي تتجادل فيما بينها بأشكال متباينة، إنّما من داخل بنية العشيرة أو من داخل وحدتها المجتمعية والسياسية. 

4 – مثلّث مفاهيمي 

إذاً، لقد امتلكت العشيرة سلطة عصبيّة تتّصف بالشرعية وتفرض نفسها في الداخل والخارج على السواء. ولعلّ هذا ما ميّز العصبية العشائرية عن العصبية العائلية المحلّية، وما حكم العلاقة بينها وبين الطائفة والدولة أو السلطة العامّة. فالعائلة لا تختلف عن العشيرة من حيث بناؤها القرابي إذ إنّها تؤلّف مجموعة قرابية يجمعها الانتماء إلى النّسب الواحد، وتشتمل على أشكال العصبية العامّة والخاصّة، وعلى التركيب الفخائذي والجبّي. لكن ثمة فارقاً جوهرياً بينهما يتعدّى المقارنة القرابية، وهو أنّ عصبيّة العائلة افتقدت وظائفها السياسية في النصرة والمدافعة، أي أنّها افتقدت السلطة السياسية، وتوافرت فقط على سلطة وجاهية- معنوية عامّة. وبذلك، تكون العائلة قد تشابهت مع العشيرة في المورفولوجيا القرابية، وافترقتا في دور الزعيم والوجيه، وفي وظائف العصبية الخاصّة والجامعة، وفي دور العشائري والعائلي في حماية اللحمة الداخلية وصون تماسكها، وفي موقع كلّ منهما في التوازنات المحلية والعامّة. 

وعلاقة العشيرة بالطائفة والدولة، تنتظم وفق آليات التعايش المحسوب. فالعشيرة تحذّر من العصبية الطائفية وتقف منها على مسافة مصوغة بدقّة. إذ تراها تندرج في عصبيّتها الطائفية وتحرص على التمايز عنها في الوقت نفسه حفاظاً على سلطتها الخاصّة. 

ولذلك، ترفض أن تتحوّل إلى جمهور يفقدها تميّزها المجتمعي الذي كابدتْ طويلاً في صنعه، ولا تتحرّج أن تواجه السلطة في طائفتها إذا ما سعت الأخيرة إلى إضعاف موقعها مثلما أنّها لا تتأخّر في أن تعترف بهذه السلطة وتدعمها إذا ما اعترفت وأقرّت بموقعها المتميّز وحافظتْ عليه. في حين أنّ العائلة تنخرط من دون حسابات معقّدة، في عصبتها الطائفية سعياً منها لحماية مجتمعية لم تستطِعْ تركيبتها أن توفّر شروط بناء تلك الحماية. 

أمّا علاقة العشيرة “بالدولة” وتحديداً بالنظام الطائفي، فإنّها تخضع أيضاً للمنطق التعايشي المحسوب بينهما. فنظام الطائفية السياسية يُرسي آليات التعايش مع كلّ أشكال الولاءات العصبية في المجتمع المحلّي، ومن جهتها تتعايش هذه الأشكال مع النظام لأنّها تجد في طبيعته إحدى آليات إنتاجها من جديد. لكنّ التعايش المتبادل بينهما يبقى منتظماً وفق حسابات مضبوطة. فالنظام لا يمارس سلطته العامّة أو عنفه الشرعي على العشيرة أو العصبية المحلية من دون حساب تسوَوي مسبق معها. وهي لا تندرج في انتظامه السلطوي العام إلّا من باب موقعها المتميّز داخل التوازنات في المجتمع المحلّي. 

والحال، إنّ المثلث المفاهيمي: العشيرة (العصبيّة المحلّية)، والطائفة، والدولة (النظام، السلطة)، هو مفتاح وعي ديناميّة الولاءات الأوّلية أو التقليدية في لبنان. وهذه ديناميّة متأصّلة في واقعه. فلا يصحّ أن يُنظر إليها من زاوية معيارية تستبدل الكشف عنها بإغراقها في نطاق أحكام قيمية وأيديولوجية.

5 – تقليد وتحديث 

لقد قدّم هذا المقترب على اقتضابه صورة عامّة عن العشيرة وهي صورة عكست مرحلة من تاريخها امتدّت بين 1920 و1980. وكانت بنيتها في تلك المرحلة تتوافر على آليات انتقال ذات طابع تقليدي يحيل إلى نموذج معلوم. لكنّ العشيرة شهدتْ في العقود الثلاثة الأخيرة تغييرات عميقة في بنيتها. وقد تبدّت هذه التغييرات في مظاهر متعدّدة: في سكنها التاريخي المشترك، وتنامي التعليم والتوظيف والانخراط في سوق العمل بين أفرادها، وفيما أحرزته من أنصبة تمدينية، وفي تراجع سلطتها العامّة وتقدّم مواقع عصبيّتها الخاصّة أو الجبّية: الأمر الذي استنبت في داخلها عصائب فرعية تتشكل من جبّ أو أكثر، ثم جعل بالتالي آليات اشتغالها تنتظم انتقالياً بين تقليد يستدعي التحديث ويوظّفه في خدمته، وتحديث يستدعي التقليد ويدرجه بشكل جديد في بنيتها كما في بنية الطائفة والدولة الطائفية. 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني