الصحة النفسية لأطفال الجنوب تحت العدوان: “لنصارحهم وفق أعمارهم”


2024-02-23    |   

الصحة النفسية لأطفال الجنوب تحت العدوان: “لنصارحهم وفق أعمارهم”

في أحد أحياء منطقة الحوش، في صور، يستقبلني علي (5 أعوام) بكلمات بريئة: “عمو، بتعرف أنه يمكن نفل من البيت، لأن الإسرائيليي بدن يحرقوه”. أنظر في عيون الطفل ولا أعرف بماذا أجيب. تبتسم الجدة، وقد شعرت بحيرتي، وتخاطبه: “لا يا قلبي ما رح نخلّيهن”، ثم تلتفت إليّ وكأنها تقول لي ألّا أُتعب نفسي في البحث عن الجواب المثالي: “هالصغار بيعرفوا كل شي”. وعلي يعرف الكثير فعلًا، تحدّثه جدته فيما أنا أستمع وأسجّل، فأسمعه يشير إلى أطفال غزة في حديثه بـ “أخواتي”، ويحكي كيف يُقتلون بصواريخ إسرائيلية على بيوتهم: “وهنّي ما عملوش شي غلط”. تشطح مخيّلته، فأسمعه يقول إنّه ذهب إلى غزة بالفعل، أسأله وكيف شكلها؟، يشرد قليلًا ويجيب: “متل هون وفيها شجرات كثير، بس الإسرائيليي عم يقصفوها”. 

لكن من أين يعرف ابن الـ 5 أعوام كل هذه المعلومات؟ تقول والدته إنه يسمع صوت القصف كل يوم، وأحاديث الجيران، وما يتسرّب إلى مسمعه من نشرات الأخبار، وبعض النقاشات العائلية. تؤكّد الوالدة أنّها تحاول تجنيب ابنها عيش الحرب “بس الحرب مفروضة علينا”. ومعها، مع العدوان المستمرّ منذ ما يقارب 5 أشهر، يعيش أطفال الجنوب اليوم أجواء الحرب، فيما يختلف تفاعلهم معها ومدى وطأتها عليهم، باختلاف ظروفهم وأوضاعهم النفسية والعاطفية وقدراتهم المعرفية، علمًا أنّهم في طور تشكُّل وعيهم، فيُصهَر بتحديات ومفاهيم لا يفترض بمن هم في أعمارهم أن يعوها باكرًا. 

رعب القصف والقتل.. وترهيب في السماء

ظهر الأربعاء 21 شباط، نفّذت الطائرات الإسرائيلية غارات وهمية وخرقت جدار الصوت، فوق منطقة صور. ليا، شقيقة علي، وابنة السنتين، أرعبت عائلتها إذ صرخت ثم أجهشت بالبكاء: “نقْزت ع الصوت”، تقول والدتها، “ومنذ تلك اللحظة وهي تشير إلى الأعلى وتقول: “فوق، فوق”، بعيون خائفة، ثم تطلب “بابا” وهي بالكاد تنطق كلماتها الأولى، ولا تقدر على صياغة جملها.

وفيما انتشرت مشاهد توثق رعب التلاميذ في المدارس بعدما دوى صوت قوي هزّ أرجاء الجنوب من صور إلى النبطية، كانت معلّمات علي الذي بدأنا قصتنا معه، يقُلنَ له إنّ هذه الأصوات سببها سيارات خارج المدرسة في محاولة للتخفيف من هلعه. بدوره يخبر مهدي (5 سنوات) والدته بعدما عاد من مدرسته في منطقة قدموس، أنّ المعلمات طلبن منهم الدخول إلى الصفوف فورًا، تسأله أمه: “خفت؟” فيجيب “إيه”، ثم يتابع بتردد: “كانت المعلمة عم تبكي، بس أنا ما بكيت”. وتبرّر جدّة مهدي هلع المعلمة وبكاءها: “شو بدها تحمل، ولو قدّام الأولاد، بتكون ما قدرت تمسك أعصابها”. 

في بنت جبيل، تقول والدة حسين ديراني (6 سنوات) إنّها ابتكرت في أول أيام الحرب أساليب جديدة للتعامل مع أصوات القصف المتواصل الآتي من الحدود: “كنّا نخفي عنه ما يحصل”. وحسين كانت تنطلي عليه “الخدعة البيضاء” فيصدّق، إلى أن زلزلت غارة يوم الثلاثاء 26 كانون الأول الأحياء المتراصّة في المدينة، مركز القضاء: “لم يكن حسين بجانبي، صرختُ باسمه، وركضت لأجده قرب الباب، فحضنته، قال لي ماما شو في؟ قلتله الحرب يا ماما، وانهمرت دموعي”. كانت تلك اللحظة التي عرف فيها حسين أنّه يعيش حربًا، وأن الحرب هي دمار وقتل. تابع ابن الست سنوات تشييع شهداء تلك الغارة، وغادر مع أهله بعد أيام إلى بيت نزوح قرب صور. 

تقول الوالدة الثلاثينية إنّها تحاول تجنيب ولدها كلّ أخبار الحرب، وتقول له إنّ العودة قريبة، بمجرّد توقّف القصف، متهرّبة من أسئلته: “لأنْ ما بعرف شو قلّه، ما بدي  أنقله الخوف لي بقلبي”. 

في المقابل، ترفض زينب، النازحة من عيتا الشعب إلى إحدى مدارس صور، هذه المقاربة: “لديّ ولدان، وهذه الحرب هي مدرسة لهما كي يعيا التاريخ وحاضرهما والعدو الكامن لنا”. تقول زينب إنها تُجنّب ولديها ( 6 و8 سنوات) صور الدم والقتل، لكنها تجيب على أسئلتهم بوضوح: “والأولاد بهالعمر أسئلتهم كثيرة”، وأهم الأسئلة هنا: لماذا تقتل إسرائيل الأطفال؟ ومتى نعود إلى بيتنا؟ والأجوبة بالنسبة لها هي شرح مفصّل للقضية والصراع: “عم علّمهم يحبّوا العدل ويكرهوا الظلم، ويحبّوا أرضهم وبلادهم وناسهم”. لكن ما يؤثر على نفسية طفليها “ظروف النزوح وضِيق العيش اللي نحن فيه”. ويشتاق ولدا زينب إلى مدرستهما وحواري عيتا الشعب وإلى اللعب بـ “الحقلة” ومع الدجاجات، فيما المتوفّر لهما اليوم بعض الوجبات الغذائية، وكهرباء مقنّنة ومياه تنقطع معظم ساعات النهار، وغرفة بطاولة وكراسي بلاستيكية وبعض الفرش. 

في جميع أحاديث الأطفال هنا في مراكز النزوح، شوق إلى المنزل والقرية، ورفضٌ عارم للذهاب إلى مدارس مؤقتة، بدون رفاقهم الذين تشتتوا وتناثروا حيث ساق درب النزوح أهاليهم. وللانقطاع عن التدريس ضريبة نفسية مضاعفة، إذ يفقد الطفل “منزله الثاني”، المدرسة.  بدورها تحكي والدة الطفلة ياسمين، من قرية البستان الحدودية، عن أنّ ضيق المساحة والبعد عن الحقلة والأرض، حرم طفلتها من مساحات شاسعة كانت تعتبرها ملعبًا لها في القرية الحدودية، ورغم الوقت الكبير الذي تخصّصه الأم يوميًا لمحاولة تعليم ابنتها بنفسها الرسم والحروف، إلّا أنّ ياسمين التي لم تكن تهدأ عن اللعب في القرية، تكافح من أجل اللعب بين قاعات التدريس والأروقة، ما قد يتسبّب بإزعاج باقي النازحين، ويضع الأم أمام معادلة صعبة تحاول فيها كبح جماح حيوية ابنتها. والقيود هنا تصبح تحدّيًا مضاعفًا، طالما أنّ النزوح كاد يشارف على شهره الخامس. 

وفي مراكز الإيواء هذه، يختلف تعامل الأطفال مع الحرب، ويحكي علي غزيّل المتطوّع في تنظيم شؤون النازحين، أنّ أوّل خرق لجدار الصوت فوق منطقة صور، في 7 كانون الثاني 2024: “أرعب الأطفال النازحين من القرى الحدودية فضجّت أروقة مركز الإيواء ببكائهم وكثيرون منهم كان يطلب من أهله مغادرة صور والمنطقة، لأنّ الحرب وصلت إلى هنا”. في المقابل، هناك من “احتفل” بخرق إحدى الطائرات لجدار الصوت قبل أيام: “ركضنا نتفرْجى”، يقول حسن (7 سنوات) وفي عيونه بعض الفضول، تقول والدته إنّه نابع عن ولعه هذه الأيام بقصص الحرب والقتال، رغم أنّه عاش الخطر، حينما هوى صاروخ إسرائيلي قربه في عيتا الشعب أثناء لهوه مع أصدقاء الحارة. أمّا علي (9 سنوات)، ابن عم حسن، فـ “عقّدته الضربة، ولا يزال يعاني من عوارض الاستفراغ المتكرّر ويشرد أكثر وقته من دون كلام”. ويقول والد حسن إنه لا يعرف كيف يخفف عن ابنه: “يأتي أحيانًا بعض المتطوّعين ويحاولون الحديث معه من دون جدوى، ولا أدري هل حالته نفسية أم بسبب نوعية الطعام، رغم أنّنا جميعنا نأكل منه.. من دون شهية، بس ماشي حالنا”. 

أمّ تحضر وجبة طعام لأطفالها في مدرسة للنازحين في صور

الصدق مع الأطفال مفتاح العبور إليهم 

هذه هي الحالات تحديدًا التي يجب أن نبحث عنها، يقول ألبير مخيبر، الدكتور في علم الأعصاب الإدراكي وعالم النفس العيادي، “يُقرع جرس الإنذار عند ملاحظة تغيّرات في سلوك الولد، سواء من العوارض الصحية، أو تلك السلوكية، فتكون الخطوة الأولى هي الحديث مع الطفل وخلق مساحة آمنة تسمح له بالكلام عمّا يدور في خلده، أي تشجيعه من دون إلحاح”.

ويشير مخيبر إلى أنّنا لا نعرف كيف يستوعب الأطفال المعلومات التي يجمعونها من خلال المراقبة المستمرّة للمحيط، ويعتبر أنّ مفتاح التعامل مع الأطفال في زمن الحرب، هو أوّلًا، الإجابة على أسئلتهم جميعها، بصدق، وبما يناسب عمرهم ومستوى وعيهم.

يركز مخيبر على ضرورة عدم ترك الأهل أيّ سؤال يطرحه الطفل من دون جواب، مع تأكيده على حق الأطفال بألّا يعرفوا ما لا يسألون عنه. ويشرح مخيبر هذه المعادلة الصعبة: “مع الأطفال، لا نكذب، لكن نسير معهم وفق أسئلتهم ونعطيهم ما يطلبونه من المعلومات”. ويعني هذا، ألّا يفرض الأهل على أطفالهم أية معلومات إضافية “لأنّ من حقهم ألّا يعرفوا أيضًا، إذا ما لم يسألوا”. 

وفق مخيبر، لا يوجد طريقة واحدة يمكن اعتمادها في التعامل مع جميع الأطفال هنا، بل يعتمد ذلك على وضع كل أسرة وكل طفل بحسب الظروف التي كانت منذ ما قبل الحرب. لكن مهمة الأهل هي “مراقبة التغيّرات التي يبديها الأطفال في سلوكهم وفي حالاتهم العاطفية: بات يتكلّم الطفل أكثر أو أقل، زادت أو قلّت حركته، نومه، شهيته، رغبته باللعب، بكاء مفاجئ، تبوّل لا إراديّ، تقطع بالنوم أو كوابيس.. وغيرها من المؤشرات”. 

لكن متى يصبح اللجوء إلى مختصّ نفسي ضرورة؟ يجيب مخيبر أنّ ذلك يكون حينما يعجز الأهل عن دفع أطفالهم للتعبير عن مكنوناتهم، “فيمكن هنا سؤالهم عمّا إذا كانوا يرغبون في الحديث إلى شخص آخر”، لافتًا إلى أنّ الاستشارة النفسية يمكن أن تكون للأطفال، أو للأهل أنفسهم لكي يستكشفوا كيف يمكن لهم أن يتعاملوا مع أبنائهم. 

والمفتاح الثاني لحفظ صحة الأطفال النفسية، أو تقليل الأضرار عليها، يكون، وفق مخيبر، عبر محاولة الحد من التغيّرات في روتينهم اليومي، وتوفير مقوّمات هذا الروتين قدر الإمكان. ويتضمّن هذا الروتين مواعيد الطعام والنوم والوقت الذي يقضيه الأولاد مع أهلهم او أصدقائهم، والوصول إلى التعليم، مشيرًا إلى أنّ مسؤولية الأهل هي توفير ظروف حياة طبيعية للأطفال قدر الإمكان، مع الإقرار بالتحدّيات التي تفرضها الحرب وحياة النزوح.

إيناس طحينة، وبحبّ الأمومة غير المشروط، حوّلت غرفة في مركز النزوح، إلى بيت دافئ لكي تؤمّن قدر الإمكان وضعًا يشبه وضعهم في السابق، فحاولت ابتداع  وسائل لعب لهم وطوّرت سبلًا لعيش طفولتهم بانتظار رجوع سيأتي يومًا، وإن طال. 

تقول إيناس إنّ “الأمومة في الحرب مسؤولية صعبة، وقد بات أطفالي كلّ شغلي”، وتضيف: “ابني حسين يقول لي باستمرار: اشتقت لتختي الأحمر، ولرفيقي محمد في القرية، ويسألني: إذا رحنا على بيتنا، إسرائيل بتقصفنا؟”. تقول أمّ حسين إنّها تحاول تعويض أولادها من خلال تأمين ما تقدر عليه: “سألته لماذا تريد أن تعود إلى القرية الآن، فأخبرني أنه اشتاق أن يجلس أمام التلفاز.. صمّدت من راتب زوجي العسكري واشتريت له تلفاز مستعمل”. نرى التلفاز معلّقًا فوق لوح صفّ التدريس الذي تسكنه الأسرة ويعرض برامج للأطفال خلال فترة توفّر الكهرباء (6/24)، وقربه جدول “الزائد والناقص” الذي أمّنته إيناس: “فألعب معهم لعبة المدرسة، وأؤدي دور المعلّمة وأُدخل الضحكة إلى قلوبهم وأضمن أن يتعلّموا القليل فيما هم منقطعون عن مدرستهم في عيتا”. بات هذا الصفّ عالمهم، فيما تأخذهم إيناس أحيانًا إلى مرجة خضراء قرب مركز الإيواء “لكن أطفالي يشتاقون إلى اللعب في عيتا وحاراتها وبساتينها”. 

وفيما إيناس وزوجها تمكّنا من توفير اليسير لأطفالهما، إلّا أنّ انقطاع الأغلبية من النازحين عن أعمالهم ومصادر دخلهم تجعلهم عاجزين حتى عن تأمين هذا القليل، فيكون التلفاز في غرفة نزوح هذه الأسرة، مجرّد استثناء يؤكّد قاعدة الحرمان التي تطغى على النازحين هنا.

تحرص الأسر النازحة في مهنية صور على الحفاظ على نظافة ثياب أولادها رغم الظروف الصعبة لمراكز الإيواء

اختلاف آثار الحرب وفق الأعمار

في طيردبا، على بعد 7 كيلومترات إلى الشرق من صور، كانت رهف زيات (12 عامًا) في منزلها في 2 كانون الثاني 2024، حينما سمعت على الأخبار أنّ غارة استهدفت الضاحية الجنوبيّة لبيروت. الطفلة ركضت إلى الهاتف، مستنجدة بشقيقها الذي يكبرها سنًا، وبصوت مرتجف يغلبه البكاء، قالت له: “ضربوا الضاحية، الحرب بلشت، تعوا خدوني”. لم تطرح رهف أسئلة، ولم تنتظر إجابات، كانت الطفلة في موقف تستند فيه إلى تحليلها السياسيّ والعسكريّ الخاص، وجدت نفسها، رغم عمرها الصغير، تجري تقييمًا أمنيًّا، تستنج من خلاله أنّ هذا تصعيد جديد وأنّ موعد الحرب الشاملة قد اقترب، وأنّ النزوح قد آن أوانه. يقول شقيق رهف لـ “المفكرة”: “أتيتُ حالًا، وجلسنا كعائلة نحلّل، واتخذنا قرارًا مشتركًا بالانتظار ومراقبة الوضع”. تعيش رهف منذ 8 تشرين الأوّل 2023 على أصوات القصف التي يتردّد صداها بين جدران منزلها وغرفة نومها، ليل نهار، ولاحقًا، اقتربت الضربات بالفعل من منزلها إثر قصف منزل على أطراف طيردبا، وقبله سيارة على الطريق العام الذي تسلكه صباح كل يوم في طريقها إلى مدرستها. 

خلال المقابلة التي أشرف عليها الأهل، كان واضحًا أنّ رهف تعرف أكثر بكثير مما كان أحد من محيطها يتوقع: “أتابع على تيكتوك صور الأطفال الّي فقدوا أهلهم بغزة، وكل مشاهد وقصص الإبادة”، ورغم أنّ العائلة تحاول باستمرار حماية صغيرتها من المشاهد القاسية، إلّا أنّ رهف تتابعها فعلًا عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، وكذلك من خلال روايات أصدقائها في المدرسة من الذين نزحوا من القرى الحدودية. تقول رهف: “تعوّدت على أصوات القصف وأجواء الحرب، لكن خوفي هو من الاستهداف الإسرائيلي الذي لا يمكن توقّعه للمدنيّين كما حصل مع فرح”، إذ ترك استشهاد الصحافية فرح عمر جرحًا لدى الفتاة التي كانت تعرفها جيدًا: “هيدا الظلم هو اللي بكرهو، استهداف صحافيين بس عم يعملوا شغلهم، متل استهداف الأولاد والعائلات بمنازلها الآمنة هنا في الجنوب وفي غزة”. تتلألأ الدموع في عيني رهف، فيكون واجبًا إنهاء المقابلة، وشيء في عينيها يخبر أنّ وعيها بما يجري هو حمل ثقيل عليها، لكنها، كما أبناء جيلها، تقلل أسئلتها، وتبحث بنفسها عن المعلومات من مصادر مختلفة. 

يقول مخيبر إنّ وطأة الحرب تكون أشدّ كلّما كبر الطفل، لأنّ وعيه أعلى: “نحن نعرف مثلًا أنّ الطفل بعمر 4-5 سنوات لا يستطيع أن يدرك مفهوم القتل والموت، وهو بعمر 8-9 سنوات يكون أكثر قدرة على فهمه، وبعمر 11-12 سنة، يكون قد اكتمل فهمه له، ما يعني أنّ وطأة الأحداث عليه تكون أشد”.

الدعم النفسي: بين العناوين العريضة والواقع 

ولكن أي دور تؤدّيه مؤسسات الدولة تجاه أطفال الجنوب اليوم في ظلّ العدوان؟ جوابًا نذكر مشروع “الدعم النفسي الاجتماعي للأطفال ومقدّمي الرعاية في حالات الطوارئ والأزمات في الجنوب – خطوة”، الذي تنفّذه جمعية “شيلد” بتمويل من Expertise France وبالشراكة مع وزارة الشؤون الاجتماعية. أطلق الوزير هيكتور الحجار المشروع من صيدا في 5 كانون الثاني 2024، يومها قال الوزير إنّ “الدعم النفسي بات مؤمّنًا لكلّ الجنوب”. وبالاطلاع على تفاصيل المشروع، يتبيّن أنّه يستهدف محافظتي الجنوب والنبطية بالفعل من خلال 7 عيادات نقّالة، تجول على صيدا وجزين والريحان، ومن الزهراني إلى صور، إضافة إلى مناطق بنت جبيل وجوارها، والنبطية وجوارها، ومنطقة مرجعيون وحاصبيا. ولهذه المناطق جميعها، التي تشكل 20% من مساحة لبنان، ويسكنها مئات الآلاف من الناس من بينهم عشرات آلاف النازحين المهجّرين عن منازلهم، يخصّص المشروع معالجًا نفسيًا واحدًا، ومعه خمسة ميسّري جلسات، وأربعة اختصاصيين في العمل الاجتماعي وأخصائي من الوزارة. ما يعني أنّه، وإن نفّذ بشكل مثالي، يبقى قاصرًا حتمًا عن تغطية الاحتياجات الهائلة.

في مراكز الإيواء في صور، وأثناء جولتنا الميدانية نستنتج أنّ النازحين لم يسمعوا بعد بأيّ عيادات على دواليب، وهو ما يؤكّده غزيّل في مهنية صور، فيما تقول مسؤولة برامج التدخّل الاجتماعي في مؤسسة “شيلد” إيفا حمصي إنّ المشروع بدأ تنفيذه بالفعل منتصف كانون الثاني الماضي، وإنّه أقام جلسات دعم نفسي جماعية لراشدين وأطفال، إضافة إلى نشاطات ترفيهية لهم، وسيستمر لثلاثة أشهر إضافية. وتشرح أنّ 500 طفل حضروا هذه الجلسات الجماعية، وتردّ على الاستفسار عن النازحين في المدارس بأن المشروع لم يتوجه إلى مراكز الإيواء “بسبب عمل جمعيات أخرى فيها”. 

و”عمل الجمعيات الأخرى” في مراكز الإيواء هو نشاطات للأطفال، من رسم وتلوين وبعض الألعاب، يديرها متطوعون وجمعيات كشفية وإنسانية، إلّا أنّها ليست منتظمة، بحسب مصادر غرفة الكوارث، فيما تراجعت كثيرًا وتيرتها منذ رأس السنة حتى اليوم. ويشارك الأطفال في هذه النشاطات، لتكون فسحة لهم للترويح عن أنفسهم، خصوصًا أنّ الذين يتشاركون المدارس مع التلاميذ، يضطرّون للبقاء حبيسي غرفهم معظم ساعات النهار (وفي التكميلية، كل ساعات النهار بسبب وجود دوامين صباحي ومسائي) بسبب تعليمات من إدارة المدارس كونها مراكز إيواء لعشرات الأسر ومكان يتعلّم فيه مئات الأطفال في آن واحد.

في الختام، فإنّ الأطفال في الجنوب اليوم لا يعيشون على أصوات القصف العدواني الإسرائيلي فقط، بل على صور من يستشهد من بينهم ومن يُجرح جرّاء استهداف المدنيين، وتسوّى بيوتهم أرضًا في قرى الحدود، وتنتشر صور خوفهم المبرّر – في المدارس والمنازل – كلّما سمعوا صوت قصف أو هدير طائرة. وبينما يتوسّع القصف والتهجير قرية بعد أخرى وتبقى حدود العدوان مفتوحة على كلّ الاحتمالات، فإن جيلًا جديدًا يُجبل على الخطر ويتعرّف بالتجربة على مُرّ الحرب الذي لم يفارق طعمه آباءهم وأجدادهم منذ 76 سنة.

لقراءة المقال باللغة الالنكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، الحق في السكن ، الحق في التعليم ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني