هل نبالغ اليوم إن قلنا إنّ مصرف لبنان لطالما كان بمنأى عن أيّ إنتقاد لسياسته النقدية، وذلك حتى عشية الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان حالياً؟
لا شكّ بأنّ المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة حظيا بثقة الكثير من المراقبين والخبراء المحليين والدوليين على مدى ثلاثة عقود وغالباً ما تمّت الإشادة بقدرة السياسات النقدية على تحقيق أهدافها الأساسية المتمثلة في الحفاظ على ثبات قيمة النقد من خلال التباين المنخفض في معدلات التضخّم وأسعار صرف مستقرة.
وعلى مستوى الخطاب السياسي والاعلامي والأكاديمي، لطالما أعرب الخبراء والاقتصاديون عن رضاهم بثبات المصرف المركزي على سياساته رغم التقلّبات السياسية والأمنية الحادة التي شهدتها البلاد خلال العقود الأخيرة، ظناً منهم بأن النظام النقدي والمصرفي يثبت بذلك قدرته على امتصاص الصدماتالخارجية وإرساء قواعد الاستقرار الاقتصادي[1] chocs exogènes / Exogenous Shocks.
على الرغم من ذلك، لطالما ارتفعت الأصوات المحذّرة من مخاطر هذه السياسات النقدية، ومن استحالة استدامتها على المدى المتوسط والقريب، ولكنها لم تلق أية آذان صاغية في مساحات الخطاب العام. وحتى نواقيس الخطر التي دقّت بشكل متزايد منذ أوائل 2019 لم تلق استجابة من العملاء الاقتصاديين المهددين بتبخّر ثرواتهم بدءاً من صغار المودعين حتى المنشآت الانتاجية الكبرى.[2]
لا شك أنّ سياسة الفوائد العالية أغرت العديد من العملاء ولكن ما يثير اهتمامنا أكثر اليوم هو استفحال المصرف المركزي في السيطرة على فضاءات النقاش العام والتواصل الاجتماعي، من خلال إرساء ثقة شبه مطلقة بديمومة هندساته المالية وخفض جميع الأصوات المعارضة على الرغم من فداحة المؤشرات المنذرة بالمخاطر.
وبالفعل، كان تباطؤ النمو بين عامي 2015 و 2019 [الشكل 1] إعلاناً عن تحوّل واضح في دورة الأعمال، مع معدلات في النمو تقارب الصفر في سنة 2018.
وكان توقّف المصارف التجارية منذ سنة 2016 عن إقراض الدولة اللبنانية مباشرة وإطلاق الهندسات المالية للمصرف المركزي مؤشراً استباقياً لأزمة مؤجّلة في المدى المنظور العاجل، وذلك على مستوى تصاعد المخاطر السيادية وانحسار مصادر التمويل على حد سواء.
كما لم يترافق الرّكود الاقتصادي مع أيّ تحسّن في عجز الحساب الجاري كما هو متوقّع في فترات تراجع النمو، كما حدث مثلاً في مراحل الانكماش بين 1998 و2004 حين يؤدي انخفاض الدخل المتاح للاستهلاك عادة إلى انخفاض الاستيراد بسبب آلياتالتوازنالتلقائيMécanismes des Stabilisateurs automatiques / Automatic Stabilizers، بل على العكس ارتفع العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات من -5% في 2005 ليتجاوز -23% من الناتج المحلّي القائم في 2017. [الشكل 2]
الشكل 1 ـ معدّل النمو الحقيقي – إدارة الإحصاء المركزي، 2004 – 2017
الشكل 2 – رصيد الحساب الجاري (% من إجمالي الناتج المحلي) – البنك الدولي، 2019
الشكل 3 – صافي التحويلات الجارية (بالمليون دولار)– البنك الدولي، 2019
في مواجهة هذه الإشارات التحذيرية، من الواضح أنّ الدولة اللبنانية ومصرفها المركزي تمكّنا من تبنّي سياسة تخاطب مضادّة وحملات إعلامية شديدة العدائية لإرساء خطاب عام مغاير في محاولة لتجديد الثقة في استقرار النظام النقدي والمالي وإسكات الآراء المشكّكة.
لذلك يبدو أنّ مصرف لبنان قد نجح فعلاً في احتلال مساحة النقاش العام، وعلى مدى 3 عقود، مغذّياً ثقة شبه عمياء تقريباً في استقرار النظام النقدي المصرفي، وهو اعتقاد يتّخذ شكل توقعات وتنبّؤاتتحققذاتهاProphéties auto-réalisatrices / Self-fulfilling propheties.
إذا كان لا بد من الخروج بشيء إيجابي من أزمة لبنان الحالية وانتفاضة تشرين التي تزامنت معها، فهو أنها قلبت قبل كل شيء طريقة التفكير السائدة تلك ووضعت حداً لمسيرة السيطرة على الآراء العامة وفضاءات التخاطب العام والتواصل الاجتماعي وأنتجت انقطاعاً في آليات الهيمنة على مساحات النقاش الإعلامي والسياسي والأكاديمي.
يقول يورغن هابرماس في الكثير من دراساته إنّ هذه المساحات المخصّصة للنقاش العام – من وسائل إعلام وجامعات ومنظمات مجتمع مدني، إلخ –تشكّل مجالات وسيطة للتواصل (بين المواطن والدولة) ولذلك تعتبر حلقات متميزة لتحقيق الاندماج الاجتماعي وتشكيل الآراء العامة المستنيرة وتفعيل دور الديمقراطية كممارسة للفكر وللفعل التواصلي.[3]
الأهم من ذلك، تؤدّي تلك الحلقات الوسيطة من الفضاء العام دوراً حاسماً في “فهم الذات” لدى الأفراد والجماعات وفي فهم المجتمعات لنفسها.
انطلاقاً من ذلك، تقدّم هذه المقالة تحليلاً نقدياً من منظور الانتفاضة للسياسة النقدية في اقتصاد لبنان ما بعد الحرب من خلال إعادة قراءة وظائفها الاقتصادية والأيديولوجية، ولكن أيضاً المعيارية والاندماجية وذلك في دراسة من جزئين.
يوضح الجزء الأول أنّ المجال النقدي وفّر في الماضي إطاراً تنسيقياً لشرعنة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات المتعاقبة، فكان الوسيط الرئيسي لتماسك الإطار المؤسساتي حيث كانت الانجازات النقدية والمصرفية تستخدم وظيفياً خدمة لإرساء مبادئ شرعية نظام الحكم السائد في اقتصاد ما بعد الحرب وحين كانت الأداة الوظيفية الرئيسة في محاولات الشرعنة تلك هي النقد واستقرار قيمته.
أما الجزء الثاني فيبحث الآليات التدريجية لتفكّك النظام النقدي والمصرفي، وآثارها الماضية والمستقبلية على سياسات تمويل للاقتصاد الحقيقي، وعلى شروط إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية.
واليوم، مع انهيار نظامه النقدي والمالي، يظهر في نهاية التحليل أنّ المجتمع اللبناني يواجه خطر تفكك آلية الشرعنة الأساسية التي شكّلت في الماضي البعيد والحديث، القوّة الرئيسية لتنسيق العمل الاجتماعي والسياسي والتي ضمنت الإندماج الوظيفي بين مجموعات اقتصادية وفئات اجتماعية أكثر ما كان يجمع بينها هو مصالحها النقدية.
1- الانتفاضة ككسر في دائرة التواصل الكاذب
إذا وضعنا جانباً الحملات التحريضية وإجراءات التشدّد شبه العنصرية التي تعرّضت لها العمالة الأجنبية، السورية والفلسطينية بشكل خاص، في محاولة لتحميلها مسؤولية تردّي أوضاع أسواق العمل والأحول المعيشية، نلاحظ أن استقرار النقد أدّى دوراً أساسياً طوال سنة 2019 في استراتيجيات التواصل المعتمدة منأجهزةالدولة للإمساك بمساحات الرأي العام.[4]
وبالفعل فإنّ أيّة محاولة لإطلاق إشارات إنذار كانت تواجَه بحملات إعلامية مضادة على أنّها هجوم خبيث على الاستقرار الاقتصادي أو يتم تهديدها بالعقاب بتهمة تقويض سيادة الدولة وزعزعة عملتها الوطنية.
مثال على ذلك الورقة التي نشرها توفيق كسبار في آب/أغسطس 2017 بعنوان “الأزمة المالية في لبنان”، بدعم من مؤسسة “كونراد أديناور” و”بيت المستقبل”، والتقرير المضاد الذي نشره مصرف لبنان في 26 أيلول/سبتمبر 2017 ويدّعيفيه الدفاع عن نفسه في مواجهة “التغطية الإعلامية والدعائية المضرّة التي خلّفتها الوثيقة”.[5]
حتى مجلة “ذيإيكونوميست” The Economistالتي نشرت مقالة تعلن فيها الإفلاس الوشيك للدولة اللبنانية ومصرفها المركزي تعرّضت للتهديد بإجراءات قانونية لملاحظات اعتبرت تشهيرية وتهدّد استقرار الليرة وذلك في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2019، قبل أيام قليلة من الانتفاضة الشعبية.[6]
وبالتالي على الرغم من إعلان الحكومة “حالة طوارئ اقتصادية” في أيلول 2019، اعتبر الحديث عن أزمة اقتصادية من المحرّمات.[7]
الجدير بالملاحظة هنا أنّ “حالة الطوارئ الاقتصادية” كتعبير مخالف أو مناقض للأزمة الاقتصادية هو بدعة فنية لبنانية لا تمتّ إلى علم الاقتصاد بصلة.
وبالفعل في الأشهر التي سبقت الانتفاضة، اتّخذت الحكومة تدابير تقشّف في سياق الحديث عن “حالة طوارئ اقتصادية”، بينما نفت أن يكون لبنان على مشارف أزمة، على الرغم من مجمل التقارير الدولية، بما فيها دراسة “ماكنزي” التي أجريت بطلب رسمي من الدولة ومن تحذيرات مؤتمر سيدر في آذار/مارس 2018.[8]
بالتالي وفقاً للخطاب الرسمي، فإنّ لبنان بمنأى عن الأزمة حتى لو أظهرت البلاد معدلات نمو بمعدل صفر في عام 2018 وفي الربعين الأولين من عام 2019 وحتماً سلبية في الربعين الأخيرين ما يناقض البديهيات التي تبنى عليها الفطرة السليمة والآراء الشائعة في أوساط الرأي العام ويشكّل مخالفة مشينة للمسلّمات التي ترتكز عليها أحكام التحليل الاقتصادي.
ملاحظة عامة إذاً، هي أقرب إلى النقد الذاتي يجب أخذها في الاعتبار: الأكاديميون ووسائل الإعلام المتخصصة، والاقتصاديون والخبراء، كانوا في غالب الأحيان الأوصياء الحريصين على نظام نقدي – مصرفي يعتمد بقاؤه بشكل أساسي على التلاعب بالمعتقدات والتوقّعات.
مع الانتفاضة وظهور مساحات نقدية عامة بالمعنى “الهابرماسي” (نسبة إلى يورغن هابرماس)، لم يعد هناك أي شك في أننا ننتقل إلى حالة من انعدام الثقة في نوايا وإمكانات النظام المصرفي والنقدي ليضاف ذلك إلى سجلّات الفشل التاريخي للحكومات المتعاقبة والتشكيك الدائم بمصداقية السلطات السياسية.
ما أنتجته الانتفاضة إذاً من حالة فريدة من نوعها هي أنها وضعت السياسة النقدية بدورها موضع النقاش النقدي المفتوح. وسواء وافقنا مع خطابها أم لا، فإن أغلب الحركات السياسية والإجتماعية اليوم وحتى وسائل الإعلام الحزبية تنطلق من المفاهيم التي أنتجتها الانتفاضة لتوصيف الواقع، إن لم تسلّم بشعاراتها الإحتجاجية.
بالمعنى المرتبط بالتواصل للنظرية النقدية لهابرماس، يمكن القول بأن الانتفاضة قلبت جذرياً القواعد اللغوية لعلاقاتنا الاجتماعية وفرضت أدبياتها وفئات التحليل الخاصة بها.
كيف نفسّر هذه التحوّلات؟
بمعنى آخر إذا كانت الصراعات الاجتماعية تعبّر في الفضاء العام عن صراع من أجل الاعتراف، فما هي أشكال الاعتراف التي تطمح إليها الحركات الاحتجاجية؟[9]
2- الانتفاضة كتجربة احتقار اجتماعي وسياسي
في الأشهر الأولى للانتفاضة بالأخص، شهدت البلاد عمليات تعبئة ضخمة في جميع المناطق، بما في ذلك المدن والبلدات التي تعتبر تقليدياً معاقل الأحزاب السياسية في السلطة.[10]
ونظراً لتعدد الجماعات المحتجّة وتنوّع شعاراتها الاحتجاجية وتعدد مطالبها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، كيف يمكننا قراءة “الألعاباللغوية” المتعددة للانتفاضة؟ Jeux de langage au sens de Wittgenstein / Language-game as developed by Wittgenstein
اندلعت انتفاضة 17 تشرين في أعقاب سلسلة من الاضطرابات الاقتصادية والبيئية والفضائح السياسية التي تعامل معها السياسيون بكثير من الإهمال وبإعتماد وسائل تخاطب تعتمد بمنطقها على احتقار مذر للرأي العام. القائمة طويلة، ولكن من بين الوقائع الأكثر أهمية، يمكننا الإشارة إلى زعزعة استقرار سعر الصرف، في الأسبوعين اللذين سبقا الانتفاضة.
فللمرة الأولى منذ عام 1998، ينخفض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار ما دون التسعير الذي دافع عنه مصرف لبنان طويلاً، مما أدى على الفور إلى تكوين ما يسمى بأسواق الصرف السوداء وإلى تصاعد الشكوك حول تأمين بعض المنتجات المستوردة، تزامناً مع حملات الإضراب أو تقنين البنزين والخبز والتحذيرات المثيرة للقلق من قبل مستوردي الأدوية.[11]
يضاف إلى ذلك الحرائق التي دمّرت آلاف الهكتارات في قرى وغابات جبل لبنان لأيام عدة، والتي كشفت في الوقت نفسه فضيحة طائرات سيكورسكي المتوقفة عن الخدمة بسبب غياب الصيانة والتي قابلها بعض الوزراء والمسؤولين بخطابات اعتبرت استفزازية أو مهينة من قبل عدد كبير من الناشطين.[12]
يأخذنا ذلك إلى قراءة إكسل هونث لنظرية هابرماس، التي يعتبر فيها أن الاحتقار هو أحد الأسس المعيارية للنظرية النقدية ولحركات النضال من أجل الاعتراف.
وتشكل تجربة الاحتقار الخلفية الاجتماعية للسخط الشعبي الذي تم التعبير عنه بشكل متقطع عشية17 تشرين من قبل مجموعات من الناشطين بعد القرار الوزاري بفرض ضريبة على استخدام تطبيق واتساب، هذا السخط الذي تحوّل بسرعة في جميع أنحاء الوطن إلى حركة احتجاج ضخمة تجاوزت كل التوقعات.
وعمد المتظاهرون إلى إغلاق الطرق الرئيسية للبلاد، وتمرّدت كل مدينة من خلال احتلال المتظاهرين للساحات العامة والشوارع، واستشعر اللبنانيون قدرتهم على استعادة المساحات العامة من خلال مشهد انفجارهم الغاضب والشتائم المليونية المفتوحة والموجّهة إلى أعلى ممثلي السلطة. ولم يمنع الطابع اللامركزي للاحتجاجات من تقارب المطالب نحو قائمة إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية بدءاً بطلب استقالة الحكومة الذي تمت تلبيته في 29 تشرين الأول كما حملت التحرّكات الجماعية والمسيرات الاحتجاجية في كل المناطق إدانة مشتركة لجميع القادة السياسيين بدون استثناء مع شعار موحّد لجميع الساحات هو “كلّن يعني كلّن”.
يشكل هذا الشعار إدانة للاقتصاد السياسي السائد على مدى العقود الثلاث الماضية كما يتّضح من الدعوات التي لا حصر لها للتظاهر أمام مقر مصرف لبنان والشعارات اللاذعة التي استهدفت حاكمه على وجه الخصوص باعتباره المسؤول الأول عن الكارثة الاقتصادية للبلاد.
ومع ذلك، إذا كانت هذه الانتفاضة، من حيث حجمها غير المسبوق وتحرّكها اللامركزي، لا تحمل أوجه المقارنة مع أيّة حركة احتجاجية سابقة في تاريخ البلاد، إلّا أنها تذكّر بحركة الاحتجاج الضخمة التي هزّت البلاد في 1987 خلال فترة الحرب الأهلية والتي طالت جميع المدن الكبرى وطالبت بشكل أساسي بتثبيت القوة الشرائية، في سياق انخفاض سعر صرف الليرة والتضخّم المفرط.[13] كذلك في تشرين الأول 2019 منذ أن تعطّلت آليات الاندماج الوظيفي المتمثلة في الإجماع العام على ثبات السياسة النقدية، أصبح واضحاً للجميع أن معايير الاستقرار المصرفي هي من الماضي (القريب).
وفي حين انكبّ صغار المودعين وكبارهم على شبابيك المصارف بما يشبه البكاء على الأطلال، أحدثت انتفاضة تشرين تغيّراً نوعياً على مستوى التخاطب العام، حيث بدا الشرخ الأفقي في الآراء العامة المتضاربة ثانوياً في موازاة ضرورة استرجاع فضاءات الخطاب العام المسلوبة. لا بل يمكن القول بأن حملات الاحتجاج الواسعة التي شهدتها البلاد أحدثت حالة من الإنصهار الوطني في مواجهة التفكك العمودي لأعمدة البناء المصرفي والنقدي مما ساهم في تماسك البنيان الاجتماعي على الرغم من معارضة أطياف كبيرة للانتفاضة.
إذا تبعنا هابرماس في تمييزه بين نمطين للاندماج المجتمعي، يمكننا أن نؤكّد أنه في مقابل الاندماجالنظاميأوالوظيفي الذي تفرضه السياسات النقدية، يبدو أن الانتفاضة قد فعّلت ونشّطت مصادر التواصل النائمة والتي تخضع لنموذج اندماجي مخالف، ألا وهو الاندماجالتواصلي[14]Intégration systémique ou fonctionnelle / systemic or functional integration. Intégration communicationnelle / communicative integration.
يتبع الاندماج النظامي نمطاً وظيفياً عمودياً يحقق أهدافه من خلال وساطة المال أو السلطة، في حين يستجيب الاندماجالتواصلي لهدف الانصهار الاجتماعي الذي تكون أداته اللغة، أي الاستخدام الأفقي لأدوات التخاطب العقلانية في مساحات النقاش العامة من أجل إرساء فهم مشترك والوصول إلى تفاهم معياري في النشاط الجماعي.
طوّر هابرماس هذه المقاربة في قراءته النقدية لتالكوتبارسونز الذي حلل بالفعل آليات الاندماج الوظيفي المتحقق من خلال النقود التي اعتبرها بارسونز وسيطاً رمزياً بامتياز لأنه يسمح لشخصين بالتفاعل والتبادل بدون الاتفاق على التعاريف نفسها ومن دون التشارك بأي تفاهم على معانٍ مشتركة.[15]
وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ السياسات النقدية شكّلت حتى الآن المجال الرئيسي للاندماج في لبنان، وهو اندماج وظيفي تتوسطه قيمة النقود، وتتجاوز فعاليته بكثير قدرة المبادئ الاندماجية الأخرى المنبثقة عن مجالات أخرى في التشريع والشرعنة ولا سيما إمكانيات مؤسسات الدولة والقانون أو النقاش الديمقراطي على إنتاج توافق عام على قضايا المجتمع الأساسية.
خلاصةجزئية
في سياق الغياب شبه الكامل للدور الاجتماعي للدولة، وفي ظلّ تميّز آليات تمويل الاقتصاد بغلبة التحويلات الصافية من الخارج[16] حتى عام 2015 [الشكل 3]، غالباً ما كان يُنظر إلى القطاع المصرفي على أنّه حجر الزاوية في نموذج النمو اللبناني وضمانة مرونة قطاعه الخاص.
من الناحية الأيديولوجية، أدّى النظام النقدي والمالي دور الضامن الأول والأخير لـ”المعجزة اللبنانية”، أي الملاذ الأساسي للاستثناء الليبرالي اللبناني الذي يفتخر بقدرته على ملء الفراغات في أوقات السلم كما في الحرب، وحتى في فترات الفراغ الحكومي أو الرئاسي.
تؤثر هذه الأيديولوجيا على الرؤية التي يمتلكها المجتمع اللبناني عن نفسه وتنعكس على مستوى الوعي الكاذب الذي يتوق إلى إقناع نفسه بمقوّمات نجاحه، متناسياً أنّ هذه المعجزة المزعومة تخفي وراءها واحداً من أكثر الأنظمة ظلماً على هذا الكوكب حيث يجد لبنان نفسه اليوم في دائرة الدول التي تتمايز بأعلى درجات الفوارق في الدخل والثروات إلى جانب البرازيل أو جنوب إفريقيا وهما دولتان تحملان تاريخاً طويلاً من الأشكال المتطرفة للتمييز العنصري.[17]
وبالنظر إلى هذه الثقة التي نادراً ما يتم التشكيك فيها والتي وضعها اللبنانيون لمدة نصف قرن على الأقل في مرونة نظامهم المصرفي، فإنّ تفكك الأخير يشكّل انقطاعاً جذرياً في حلقات التواصل الكاذب ويهدد بانقطاع شروط تراكم رأس المال وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والانتاجية، في سياق انهيار معايير السياسة الاقتصادية.
فالإفلاس المزدوج للدولة ومصرفها المركزي ينبئ بما هو أكثر من أزمة اقتصادية أو مالية إذ أنّه يمسّ بأحد أقوى أسس نظام التراكم الذي ساد منذ الاستقلال من خلال استقطاب مدخرات الخارج أي مدخرات باقي العالم ومن خلال تأمين الإطار المؤسساتي الملائم من خلال قوانين السرّية المصرفية وحرية حركة رأس المال وتحرير متصاعد للأسواق الاقتصادية والمالية ومرونة مفرطة في أسواق العمل والتوظيف.
وبحسب روبرت بوير، يشير نظام التراكم إلى مجموعة من آليات التنظيم التي تؤمن تطوراً عاماً متماسكاً نسبياً لتراكم رأس المال والتي تسمح بامتصاص الصدمات وتصحيح الاختلالات الناتجة بمرور الوقت عن عملية التراكم نفسها. وبالتالي فإن نظام التراكم هو رسمٌ نموذجي لنمو الاقتصاد الوطني في وقت معيّن، يشير إلى آليات تنظيم مؤسسية معيّنة تؤثر على مسار النمو.[18]
وبالنتيجة، فإنّ تفكّك هذا النظام النقدي والمالي وهزّ أسسه المعيارية يدحض بعض أهم الأساطير المؤسِّسة لـ“جمهورية التجّار والمصرفيين”، ويعلن عن انقطاع في الطريقة التي يفهم بها المجتمع نفسه.[19]
أما في غياب التحليل النقدي، فيُخشى ألّا يضمن هذا الانقطاع بحد ذاته إنتاجاً لوعي متحرّر من ضميرنا الكاذب.
وبما أنّ السياسة النقدية أدّت بطريقة ما دور الخطاب التكاملي أو الإدماجي لهذه الأساطير المختلفة، فإنّ التحليل النقدي التفصيلي لوظائفها وأهدافها يبدو ضرورياً اليوم، إذا أردنا تفكيكاً أكثر للأنماط والمفاهيم المتأصلة في نظرتنا ورؤيتنا وفهمنا لأنفسنا.
[1] Axel Schimmelpfennig & Edward H. Gardner (2008), « Lebanon : Weathering the perfect storms », IMF, Middle East and Central Asia Department.
[2] Charbel Nahas, « Le Liban est déjà dans une dynamique de crise », Commerce du Levant, 15 janvier 2019.
[3] J. Habermas (1967), L’espace public : Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, Paris, Payot, 1993.
[4] وفقاً لقراءة الثوسر لجرامشي، الدولة ليست مجرد مجموعة من المؤسسات ولكنها تشمل أيضاً الأجهزة الأيديولوجية للدولة والتي تخدم الهيمنة الثقافية و الأيديولوجية على الآراء العامة من خلال فرض رؤية معيّنة وسلوكيات محددة.
Louis Althusser (1970), Idéologie et appareil Idéologique d’État: Notes pour une recherche, Pensées, n. 151.
[13] “انتفاضة 17 تشرين الأول اللبنانية والنقابات”، غسان صليبي، النهار، 4/11/2019.
[14]Habermas J. (1984), Théorie de l’agir communicationnel, Paris, Fayard, 1987.
[15] Habermas J. (1997), Droit et démocratie : Entre faits et normes, Paris, Gallimard.
[16] تشمل التحويلات الصافية تحويلات الدخل بين المقيمين في البلاد وبقية العالم التي لا تخضع إلى أي أحكام بالتسديد.
[17] Lydia Assouad (2017), “Rethinking the Lebanese economic miracle: The extreme concentration of income and wealth in Lebanon 2005-2014”, WID.world WORKING PAPER SERIES N° 2017/13
[18] Robert Boyer, La théorie de la régulation : Une analyse critique, La Découverte, 1986, p.46.
[19] Gates C. L. (1998), The Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy, London, Tauris
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.