“السرّية المصرفية” التي كادتْ تطيح بالتدقيق الجنائي


2023-10-18    |   

“السرّية المصرفية” التي كادتْ تطيح بالتدقيق الجنائي
رسم رائد شرف

هذا المقال يستعيد معلومات ومقاطع نشرت سابقًا على موقع “المفكرة القانونية” أهمّها مقال للكتاب بعنوان “حين عطّل حاكم مصرف لبنان التدقيق الجنائي في حساباته: قراءة في الحجج والحجج المضادّة” منشور في تاريخ 30/11/2020.

شكّلت السريّة المصرفيّة إحدى أهمّ الذرائع للحؤول دون إجراء التّدقيق الجنائي على حسابات مصرف لبنان. وإذ أسهمت ضرورة القيام بهذا التدقيق في زعزعة قدسيّة هذه السرّية، يبقى أنّها شكّلتْ أداة لعرقلة أعماله وتأخيرها لأشهر طوال، فضلًا عن أنّها أثّرت بالنتيجة على مضمونه ويُحتمل أن تؤثّر على استخدام نتائجه. نستعيد هنا أهمّ التعليقات التي نشرتْها “المفكرة القانونية” في مختلف المراحل التي اصطدمت فيها الإرادة المعلنة لإجراء التدقيق بالسرّية المصرفية. 

لا تدقيق جنائي من دون تعديل قانون السرّية المصرفية

وقّعت الدولة اللبنانية ممثّلة بوزير المالية غازي وزني السابق عقدًا للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان مع شركة “ألفاريز ومارسال” في 30/9/2020. إلّا أنّ مصرف لبنان رفض تزويد شركة التدقيق بالعديد من المعلومات المطلوبة منها بذريعة مخالفة العقد لقانونيْ النقد والتسليف والسرّية المصرفية. وما فاقم من مفاعيل هذا الرفض هو إعلان شركة “ألفاريز ومارسال” فسخ العقد واعتذارها عن المهمّة الموكلة إليها على مسؤولية الدولة. إلّا أنّ التدقيق في تفاصيل المعلومات المطلوبة يرجّح أنّه تمّ توسيع المجالات التي تشملها السرّية المصرفية من أجل تعطيل التدقيق الجنائي، وفق ما أثارته وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم. وقبل المضيّ في عرض موقف هذه الأخيرة من هذه الذريعة، يجدر التذكير أنّ أبرز المعلومات المطلوبة من شركة التدقيق اتّصلت بعمليات المصرف المركزي مع المصارف في سياق الهندسات الماليّة والشروط المحيطة بها بالإضافة إلى أنظمة تقييم المخاطر والإدارة الرشيدة.

– الهدف من السرّية هو حماية خصوصية الزبائن وليس منع الرقابة  

إنّ الهدف من السرّية المصرفية هو حماية خصوصية الزبائن وليس منع أيّ رقابة على المصارف والمصرف المركزي وأعمالها. ويكفي تاليًا من أجل مراعاة قانون السرّية المصرفية استبدال أسماء زبائن المصرف المركزي بأرقام أو أسماء أخرى. وقد أثارت وزيرة العدل آنذاك هذه الحجة لردّ ذريعة السرّية المصرفية متسلّحة باستشارة هيئة التشريع والاستشارات رقم 881/2020 الصادرة في تاريخ 22/10/2020 والتي أفادت بأنّه “في حال كان لهذه الجرائم ارتباط وثيق بأسماء الزبائن، يشار إلى أسمائهم بأرقام حفاظًا على السرّية بالنسبة إليهم”.

– توجّه دولي بمنع التذرّع بالسرّية المصرفية بشأن مخالفات المصارف والجرائم المالية

أثبتت التجربة سواء في لبنان أو في سويسرا أنّ السرّية المصرفية شكّلت عامل جذب مهمًا جدًّا لأصحاب النشاطات الإجرامية ممّا استدعى إلغاءه في بعض البلدان كلوكسمبورغ في عام 2014 أو تخفيفه كما فعلت سويسرا. وقد تداركت المواثيق الدولية هذه الإشكالية العالمية، فوضعت المادة 40 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد موجب تأمين آليات مناسبة في نظامها القانوني الداخلي لتذليل العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السرّية المصرفية في حال القيام بتحقيقات جنائية داخلية في أفعال مجرمة وفقًا لهذه الاتفاقية.

وتندرج آلية رفع السرّية المصرفية من قبل هيئة التحقيق الخاصّة المنصوص عليها في قانون مكافحة تبييض الأموال 44/2015 في سياق هذا التوجّه في ما خصّ جرائم تبييض الأموال. وقد ذهبت هيئة الاستشارات والتشريع في الاتجاه ذاته، حيث جاء في رأيها أنّ “السرّية المصرفية تنحصر فقط بعدم إفشاء أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم، ولا يدخل ضمن نطاقها ضبط مخالفات المصارف والجرائم المالية التي ترتكب في إدارة الأموال من جانب المؤسسات المصرفية… وإلّا لكان المشرّع قصد حماية الجرائم العادية التي يمكن أن ترتكبها المصارف في ممارستها تحت غطاء السرّية وليس فقط الزبائن”. وهذا ما تأكّد فيما بعد في تعديل قانون السرّية المصرفية الحاصل بموجب القانون 306/2022.

–  السرّية المصرفية لا تسري على الأموال العامّة

حجة أخرى أثيرت في مواجهة السرّية المصرفية وقوامها مبدأ الشفافية المتعلّق بإدارة الأموال العامّة أولًا في المادة 9 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقّع عليها لبنان. وقد جاءت المادة 7 من قانون حقّ الوصول إلى المعلومات لتكرّس هذا الحق حيث وضعت على الإدارة موجب النشر الحكمي لجميع العمليات التي بموجبها يتمّ دفع أموال عمومية تزيد عن خمسة ملايين ليرة لبنانية.

ورغم اقتناعها بعدم شمول الأموال العمومية بالسرّية المصرفية وفقًا لكلّ ما تقدّم، استطردت وزيرة العدل واعتبرت أنّه حتى لو اعتبرت أموال الدولة مشمولة بالسرّية المصرفية، فإنّ اتخاذ الدولة ممثلة بالحكومة قرار إجراء التدقيق الجنائي وتوقيعها العقد ممثلة بوزير المالية غازي وزني يرفع السرّية المصرفية عن المعلومات المطلوبة، طالما أنّ معلومات المصرف المركزي هي معلومات الدولة.

هذا فضلًا عن أنّ الدولة تعدّ أحد زبائن المصرف المركزي وبإمكانها تاليًا رفع السرّية عن أموالها سندًا للمادة الثانية من قانون السرّية المصرفية الذي يسمح برفعها إذا أذن بذلك صاحب الشأن المتمثّل هنا بالحكومة.

الطريق الوعرة في اتجاه تعليق السرّية المصرفية مؤقتًا لحاجات التدقيق

بمعزل عن قوّة الحجج المثارة من وزارة العدل وهيئة الاستشارات والتشريع، تمثّل الاتّجاه العام في التسليم بحجّة سلامة لجهة تعارض التدقيق الجنائي مع السرّية المصرفية، أقلّه درءًا للذرائع وللحدّ من المماطلة والتسويف. وإذ أثار رئيس الجمهورية ميشال عون مسألة عرقلة التدقيق الجنائي في كتاب وجّهه إلى مجلس النوّاب طالبًا منه التعاون في هذا الخصوص، انتهى مجلس النوّاب إلى إقرار قانون بتعليق قانون السرّية المصرفية لحاجات التدقيق الجنائي في تاريخ 21 كانون الأوّل 2020. إلّا أنّ الإمعان في أحكام هذا القانون إنّما يُظهر نيّة في إبقاء تجاوز السرّية المصرفية محصورًا في إطار ضيّق، ممّا قد يعيق فعليًا التدقيق الجنائي أو يحدّ من مفاعيله في حال حصوله. وهذا ما يتحصّل من أمور عدّة هي الآتية:

  • حصَر القانون رفع السرّية بمدة زمنية هي سنة واحدة فقط. وما زاد من قابلية تحديد المدة على هذا الوجه للانتقاد هو أنّ إقرار القانون حصل في ظلّ حكومة مستقيلة ومع الإدراك التامّ بإمكانية أن يستغرق تشكيل حكومة جديدة أمدًا طويلًا قد يؤدّي إلى استنفاد فترة هامّة من مدّة العمل بالقانون. وبالفعل، لم يحصل توقيع العقد مع شركة التدقيق إلّا بعد تشكيل الحكومة الجديدة وتحديدًا في تاريخ 17/9/2021، لتباشر الشركة مهامها في 21/10/2021 أي قبل قرابة شهريْن من انتهاء المدة المذكورة، الأمر الذي فرض استصدار قانون جديد لتمديد العمل بتعليق قانون السرّية المصرفية وفق ما نبيّنه أدناه.
  • أنّ رفع السرّية المصرفية هو لمصلحة الشركة المدققة حصرًا. أي أنّ ما يُمكن أن تكتشفه الشركة من مخالفات وجرائم داخل المصرف المركزي لن يُتاح الاطّلاع عليه من عموم اللبنانيين ليتمكّنوا من المحاسبة على أساسه كما في النُظم الديمقراطية. وما لا يقلّ خطورة في هذا الصدد هو أنّ حصر رفع السرّية بالشركة المدقّقة يسرِي أيضًا على القضاء بما يغلق أيّ باب للمُحاسبة على أساس نتائج التدقيق. وبذلك، يبدو أنّ المشرّع سمح بالتدقيق الجنائي على مصرف لبنان فقط بعد بتْر الهدف المتوقّع منه وهي المحاسبة القضائية. إلّا أنّ المفعول المعطّل لحصر تعليق السرّية المصرفية على هذا الوجه انحسر بدرجة كبيرة بعد إقرار قانون رفع السرّية المصرفية رقم 306/2022 والذي منح القضاء الجزائي المختص إمكانية تجاوز السرّية المصرفية في سياق التقصّي عن الجرائم المالية.  

تمديد مدة تعليق التدقيق الجنائي

نتيجة التأخّر في إعادة التدقيق الجنائي على السكّة، قدّم رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان اقتراح قانون معجّل مكرّر لتمديد العمل برفع السرّية المصرفية إلى حين انتهاء الشركة من أعمالها. وفي حين ورد هذا الاقتراح على جدول أعمال جلسة 28/10/2021 التشريعية، إلّا أنّه لم يُناقش بسبب رفعها بعد فُقدان النصاب. تبعًا لذلك، انتهى مفعول قانون 2020 على نحو هدّد استمرار التّدقيق الجنائي مرة أخرى. وقد شكّل عدم تمديد القانون على هذا الوجه عامل ضغط على رئيس الجمهورية ميشال عون الذي اضطرّ إلى الموافقة على فتح عقد استثنائي لمجلس النوّاب في شتاء 2021، كانت أوّل بنوده التمديد للتدقيق الجنائي. وعليه، أمكن شركة “ألفاريز ومارسال” استكمال عملها رغم كلّ العراقيل التي وضعها حاكم مصرف لبنان في وجهها من دون أن تقوم الدولة الرسمية بأيّ جهد لتذليل هذه العراقيل. وغالبًا ما عاد مصرف لبنان ليتذرّع بالسرّية المصرفية في مواجهة مطالب الشركة بإجراء مقابلات أو الحصول على معلومات، الأمر الذي أدى إلى تقرير اعترفت الشركة أنه يبقى غير كافٍ لتحديد المسؤوليات الجنائية. 

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان

للاطلاع على العدد كاملا بنسخة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، مصارف ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني