التضييق يطال حتى الضحك: استهداف نور حجّار الذي “يُبهجنا وسط الكآبة”

التضييق يطال حتى الضحك: استهداف نور حجّار الذي “يُبهجنا وسط الكآبة”

تثبت السلطة بكل فروعها، دينية كانت أم سياسية أم أمنية أم اقتصادية أنّ حرّية التعبير هي عدوّتها الرئيسية، لأنّ هذه الحرية بالذات هي التي تتهدّدها كونها هي من التي تفضح فشلها وفسادها وتداعيات سياساتها وممارساتها. وتبحث هذه السلطة عن الأحرار في هذه البلاد وتنبش في ما يكتبونه ويقولونه ويفعلونه باحثة عن أي شيء تستطيع أن تلفّق عليه تهمة أو قد يثير مشاعر سلبية عن بعض الرأي العام وتضعه تحت المجهر. من هؤلاء الأحرار الكوميدي نور حجّار الذي يقدّم عروضًا كوميدية ساخرة (ستاند آب كوميدي) منذ عدّة سنوات غالبًا ما تعتمد السخرية السوداء في التعليق على الأوضاع في البلاد وانتقاد ممارسات السلطات. والكوميديا الساخرة فنّ تخشاه السلطة منذ الأزل وتقمع ممارسيه والأمثلة في التاريخ القديم والحديث كثيرة، لإدراكها قدرته على تحرير الناس من الخوف وجعلهم قادرين على الانتقاد والمكاشفة.       

وقد استدعي نور في الأيام الأخيرة مرتين للتحقيق معه على خلفية عروضه الساخرة: الأولى من قبل النيابة العامّة العسكرية إلى مقر الشرطة العسكرية في الريحانية على خلفية سكتش ساخر عن اضطرار عناصر الجيش العمل في الدليفري، والثانية من قبل النيابة العامّة التمييزية إلى المباحث الجنائية على خلفية فيديو مجتزأ بشكل يجعله يبدو وكأنّه يسخر من القرآن. وقد خرج نور في المرتين بسند إقامة، بانتظار ما ستقرّره النيابات العامّة بحقه لجهة الادعاء والإحالة إلى المحاكمة أو عدمه. وترافق الاستدعاءان مع حملة تحريض كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي ضدّه وصلت إلى حد تهديده وتهديد عائلته بحسب ما قال في بيان توضيحي صدر مساء أمس الأربعاء. 

“هيبة” الجيش تنضمّ إلى الخطوط الحمراء

بدأت قصة استهداف نور مع انتشار فيديو له يسخر من اضطرار عناصر الجيش اللبناني للعمل في خدمة الدليفري نظرًا لتدنّي قيمة رواتبهم نتيجة الأزمة. قامت الدنيا ولم تقعد وبدلًا من أن يأخذ الناس زبدة الكلام، أي إضاءة نور على مصيبة عناصر الجيش، علقوا في فكرة واحدة: “نور يسخر من الجيش”، وانهالت التعليقات المدافعة عن المؤسسة العسكرية وعن كرامة العناصر وأُدرجت “هيبة” الجيش ضمن الخطوط الحمراء التي لا يُسمح المسّ بها وانهال معها التهديد لنور لمسّه بها. ونسي المدافعون والمهاجمون والمهددون المصيبة الأساسية: عناصر الجيش اللبناني في محنة، والسلطة السياسية هي التي تمسّ بهيبتهم وهيبة المؤسسة، وليس نكتة نور.

وعلى إثر ذلك، استدعت معاونة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضية منى حنقير نور للتحقيق يوم الجمعة 26 آب لدى الشرطة العسكرية في مقرّها في الريحانية حرفيًا “بسبب نكتة”، وجرى التحقيق معه بحضور وكيلته المحامية ديالا شحادة، قبل أن يطلب من وكيلته الانتظار خارجًا إلى حين صدور إشارة من حنقير بشأنه. وأبقيَ نور حوالي 9 ساعات في المركز بعد الانتهاء من الاستماع إلى إفادته، ثم ترك ليلاً رهن التحقيق. وفي تلك الأثناء، توجّهت دورية عسكرية إلى المسرح حيث قدّم نور عرضه الذي تضّمن المشهد الذي تحدّث فيه عن عناصر الجيش، للاستقصاء حول القيّمين عليه. وقد استدعيت القاضية حنقير أحد هؤلاء يوم الاثنين 28 آب للتحقيق معه لدى  الشرطة العسكرية أيضًا، وقد تُرك بسند إقامة بعد تحقيقٍ دام حوالي خمس ساعات. أما نور، فطُلب منه العودة مجددًا يوم الثلاثاء إلى الريحانية للتوقيع على سند إقامة. فاغتنمت المباحث الجنائية هذه الفرصة لتوقيفه في القضية الثانية. 

اجتزاء مقصود لسكتش يعود إلى 5 سنوات

أثناء وجود نور في الريحانية محاولًا توضيح مغذى النكتة المتعلّقة بالجيش، كان البعض يحوّل منصّات التواصل الاجتماعي منصّات للتحريض والكراهية، والبعض الآخر تفرّغ للنبش في فيديوهات سكيتشاته بحثًا عن شيء آخر يُبقي الحملة ضدّ نور حيّة ليجد سكتش يسخر فيه نور من طريقة تصرّف والدته في العزاء ويجتزئ منه مقطعًا بدا فيه نور وكأنه يسخر من القرآن وهو ليس الحال إطلاقًا (السكتش كاملًا).

وعليه، تحرّكت دار الفتوى بشخص أمين الفتوى، أمين الكردي، في 28 آب “حرصًا على السلم الأهلي”، ووجّهت إخبارًا إلى النيابة العامّة التمييزية بخصوص ما أسمته “جرائم تمسّ الدين الإسلامي وإثارة النعرات الدينية والطائفية والاستهزاء بالقرآن الكريم والنيل من الوحدة الوطنية وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة”. وأرفق الإخبار بـ CD يتضمّن المقطع المقصود، المجتزأ طبعًا. المفارقة أنّ الفيديو محل الإخبار، إضافة إلى كونه مجتزأ، فإنّه يعود إلى خمس سنوات أعادت منصة Cinemoz نشره قبل عام.

وبالتزامن، قدّم عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الشيخ وائل شبارو أيضًا إخبارًا للنيابة العامّة الاستئنافية في بيروت بخصوص ما أسماه “إثارة الفتنة والمسّ بالسيادة اللبنانية والتهديد المباشر” على خلفية المقطع المجتزأ نفسه وأورد العبارات التي وردت فيه مكتوبة في نهاية الإخبار وأرفقه أيضًا بـ usb يتضمّن المقطع.

وفي 29 آب، بعد خروج نور من مركز الشرطة العسكرية في الريحانية حيث وقّع على سند إقامة، وفيما كانت وكيلته تنتظره خارج الثكنة، تمّ توقيفه من قبل دورية للمباحث الجنائية بموجب قرار إحضار صادر عن  النائب العام التمييزي غسّان عويدات، وذلك ومن دون استدعاء نور مسبقًا ومن دون إبلاغ وكيلته، علمًا أنّ نور لم يمتنع عن تلبية استدعاءات الشرطة العسكرية. وقد نقلته الدورية إلى مركز المباحث الجنائية في وزارة العدل، حيث تمّ التحقيق معه حول الفيديو المجتزأ بحضور وكيلته. وعلمت وكيلته  أنّ النيابة العامة التمييزية تحرّكت من تلقاء نفسها وأنّ محضر التحقيق مع نور بخصوص الفيديو فُتح في 26 آب أي قبل تقديم الإخبارين.

وخلال التحقيق معه، أوضح نور القصد من الفيديو موضوع التحقيق، وشدد أنّ الأفعال قد مرّ عليها الزمن لعرضه هذا السكيتش قبل خمس سنوات، وفقاً لوكيلته. وبعد الانتهاء من الاستماع إلى إفادته لدى المباحث الجنائية، قرر عويدات توقيف نور احتياطيًا. وعلى الفور امتلأ محيط قصر العدل بالمتضامنات والمتضامنين والمدافعين عن حرية التعبير، وهتفوا ضد “الدولة البوليسية” ومع الحرية لنور ومع معاقبة رياض سلامة حاكم مصرف لبنان السابق الذي لم يحضر جلسة التحقيق معه في ذلك اليوم وخاصم جميع الهيئات الاتهامية في بيروت لمنع توقيفه وعرقلة إجراءات التحقيق بحقّه في قضية التحويلات لشركة فوري. وليلًا، قرر عويدات ترك نور بسند إقامة بعد احتجازه لدى المباحث الجنائية لأكثر من 7 ساعات، بانتظار ما سيقررّه لجهة الادعاء أو حفظه، بحسب وكيلته.

وخرج نور من دون الإدلاء بأي تصريح وقد بدا عليه الانزعاج الشديد، ليصدر في اليوم التالي بيانًا يكشف فيه أنّه تعرّض هو وعائلته لتهديدات بالقتل ما أجبره على مغادرة بيته مع أسرته وإغلاق هاتفه، وهو سبب عدم تمكّنه من تبلّغ استدعاء النيابة العامة التمييزية، فصدر القرار بإحضاره موقوفًا إلى مكتب المباحث الجنائية للتحقيق بشبهة المسّ بالشعائر الدينية، وفقًا لما جاء في بيانه.

نور حجّار بعد خروجه من المباحث الجنائية

وشدد نور على أنّه لم يقصد أبدًا إيذاء المشاعر الدينية لأحد واعتذر لمن تضررت مشاعره من الفيديو الذي كرّر أنّه مجتزأ لغرض في نفس من اجتزأه وقديم يعود إلى أكثر من خمس سنوات. وكتب نور في بيانه: “إنني أولًا وأخيرًا فنان يجتهد لاجترار البهجة وسط الكآبة التي تعمّ بلدنا المنكوب بمآسيه. ولكم يؤلمني أن يرتبط اسمي بهذا الكمّ من الاستياء والغضب والأذى، أنا الذي تعوّدت على إضحاك الناس وإبعاد الهموم عنهم. ولكم يحزنني أن تُجتزأ نكتة لي فتُفهَم على أنّها ازدراء لأهلي وأصدقائي وأحبائي”.

المطالبة بالحماية القانونية للكوميديا

مقابل الحملة التحريضية ضدّ نور، برزت حملت تضامن واسعة معه رفعت شعارات حماية حرية التعبير وحماية “الحق في الضحك والإضحاك في بلد الأحزان والأزمات”، ووجّهت انتقادات إلى السلطة التي تريد قمع حتى الضحك.

وكتبت جريدة المدن: “يختلق سياسيو لبنان معركة وهمية ويعطونها انطباع الخروج عن السيطرة فيما تتحرّك المؤسسات لاحتواء الموقف وتسجيل الإنجازات”، وهو ما ينطبق على حالة نور وقبل ذلك على الحملة الواسعة ضدّ المثليين الذين تمّ تصويرهم على أنّهم تهديد للمجتمع فهبّت السلطة بكل فروعها للدفاع عنه في وجههم.

واعتبرت المفكّرة القانونية أنً ممارسات النيابات العامّة في قضية نور جاءت مخالفة لاجتهادات القضاء العدلي التي اعتبرت أنّ العمل الكوميدي يتطلّب تجاوز المألوف والمقبول بهدف إضحاك الناس. وشددت أنّ الفقه والاجتهاد يعتبران أنّ الوظيفة الاجتماعية الهامّة التي تؤدّيها الكوميديا في المجتمع الديمقراطي تستوجب منحها أوسع الحماية القانونية، نظرًا إلى تأثيرها الإيجابي على الصحّة النفسية وإلى قدرتها على فتح النقاش حول القضايا الاجتماعية بشكل فكاهي.

كما أدان تحالف حرية التعبير احتجاز نور وطالب عويدات بإطلاق سراحه فورًا لعدم جواز استخدام التوقيف الاحتياطي في قضايا التعبير، ولمرور الزمن على الأفعال المذكورة، ولضرورة منح أوسع الحماية القانونية للأعمال الكوميدية. 

وكما تبيّن من الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية ضدّ الكوميدية شادن فقيه على خلفية سكيتش ساخر تضّمن اتصالًا بالأمن الداخلي خلال فترة الإغلاق العام، يظهر من قضية نور حجّار أنّ السلطات القضائية تتعدّى على حق الكوميديين في التعبير الفكاهي والساخر من الأوضاع المتردّية في البلاد. وفي هذا الإطار، تُعتبر الاجراءات الجزائية التي اتخذتها النيابات العامّة من تلقاء نفسها بحق نور، لا سيّما الإحضار والاحتجاز، مخالفة للمعايير الدولية التي تمنع اللجوء إلى الإجراءات السالبة للحرية في قضايا التعبير.

نور حجّار في أحد عروضه
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، أجهزة أمنية ، محاكم عسكرية ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني