التسعير بالدولار خطوة أولى لرفض القبض بالليرة؟


2023-02-02    |   

التسعير بالدولار خطوة أولى لرفض القبض بالليرة؟

مع إعلان وزير الاقتصاد أمين سلام السماح لمتاجر البيع بالتجزئة التسعير بالدولار (يُتوقّع أن يُصدر قراره رسمياً خلال اليومين المقبلين)، تكون سلسلة الاستهلاك قد بدأت تسلك طريقها نحو الدولرة الكاملة. قُدّمت تلك الخطوة على أنها خطوة مريحة للمستهلكين، وقد يكون ذلك صحيحاً إذا نُظر إليها من ناحية تقليل الارتباك المرتبط بالتغيير الدائم للأسعار بالليرة، والتي تحولت إلى حزّورة تواجه المستهلكين، الذين لم يعد مفاجئاً بالنسبة لهم شراء السلعة بسعر ثم اكتشاف تغيّر سعرها عند الوصول إلى الصندوق. الأسوأ أن الأسعار التي تتأثر بسعر الدولار عند ارتفاعه نادراً ما تتبعه نزولاً، فالأسعار ترتفع ولا تنخفض. أمام هذا الواقع، قُدّم التسعير بالدولار بوصفه يشكل حالة من الاستقرار في الأسعار، مع وعد بأن تُفعّل وزارة الاقتصاد رقابتها في ظلّ الثبات المفترض للأسعار على الرفوف، وإن بالدولار. 

يُؤكد رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، عبر “المفكرة القانونية”، أن هذه الخطوة التي يُعمل عليها منذ مدة ليستْ حلاً للأزمة، بل هو أحد أساليب التخفيف من وطأتها على المستهلكين، انطلاقاً من أنه إذا لم تستطع تثبيت سعر صرف الدولار فعلى الأقل عليك تثبيت سعر السلع. وبذلك، فإن متغيراً واحداً سيؤثر على الأسعار هو سعر صرف الدولار، في حين سيكون سعر السلع بالدولار ثابتاً، أسوة بسعر الجملة، ما يلغي أي سبب لتعديل الأسعار بشكل مستمر وبشكل عشوائي. 

يدرك بحصلي أن هذه الخطوة لن تمنع السوبرماركات من ترك هامش تجاري يغطي تقلّبات سعر الدولار، لكنه يجزم أن هذا الهامش سينخفض، طالما أن الدفع للتاجر سيكون في النهاية بالدولار أو بحسب سعر الصرف في اليوم نفسه، خلافاً لما كان عليه الوضع حتى اليوم، حيث تكون فاتورة التاجر بالليرة، ويُفترض أن تُدفع بالعملة نفسها. كما يعلن أن سعر الدولار يفترض أن يكون واضحاً للعيان بمجرد دخول الزبون إلى المتجر.   

حصرية الدفع بالدولار؟

المشكلة الأولى التي يطرحها الخبير الاقتصادي ورئيس تحرير موقع “صفر” محمد زبيب هي عدم الثقة بأن لا تُتّبع هذه الخطوة بخطوة أخرى تتعلّق بإلزام المستهلكين الدفع بالدولار حصْراً. وهو أمر بدأت بوادره تظهر في قطاعات أخرى. فالمازوت لا يباع حالياً للمستهلك النهائي إلا بالدولار النقدي، فيما البنزين يُباع للمحطات بالدولار أيضاً، في ظل مساعٍ مستمرّة لأصحاب هذه المحطات للسماح لهم بالبيع بالدولار أيضاً، تخفيضاً للخسائر كما يرددون. أما المولدات الخاصة، فبعدما بدأ أصحابها أو جزء منهم التسعير بالدولار، مع إمكانية دفع الفاتورة بالليرة حسب سعر الصرف يوم جباية الفاتورة، فقد أكد مشتركون مقيمون في الحازمية، على سبيل المثال، إصرار أصحاب المولدات على قبص فاتورة كانون الثاني بالدولار فقط. وهو ما خلق بلبلة، نظراً لاضطرار المشتركين إلى شراء الدولارات النقدية. وعليه، يسأل زبيب من يضبط هذه العملية ومن يمنعها من التمادي لتطال كل الخدمات والسلع، بما فيها الدواء والاتصالات والكهرباء…؟

بالنسبة لبحصلي إن قام أحدهم بهذه الخطوة فهو يخالف قانون حماية المستهلك. لذلك، هو يتوقع أن يلتزم قطاع التجزئة بالدراسة التي أعدتها وزارة الاقتصاد، والتي تستند إلى قوانين النقد والتسليف (المادة 5) وحماية المستهلك (المواد 1و7 و192) وقانون العقوبات (319). وفي ذلك تشديد على أن التسعير بالدولار لا يُخالف القانون، بخلاف رفض القبض بالليرة، التي تشكل قوة إبرائية على جميع الأراضي اللبنانية.

يميز زبيب بين دولرة الاقتصاد، التي يعتبر أنها لطالما كانت حاضرة، وبين الجمع بين الدولرة واقتصاد الكاش، وهو نتاج انهيار قطاع المصارف وانهيار العملة معاً، ما أدى إلى احتفاظ الناس بالدولارات النقدية لحماية نفسها. لذلك يرى أنّ الخطوة التي من المتوقع سلوكها ستُساهم في تكريس إجراءات اعتماد الدولار كعملة تداول. وهي خطوة قد تكون على الطريق الصحيح إن كان الهدف هو استبدال العملة الوطنية أما إن كان هنالك من نيّة لإعادة تعويم الليرة فتكون خطوة في الاتجاه الخطأ.

مصالح احتكارية

من جهته، يحذر المدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان، في حديثه لـ”المفكرة”، من أن هذه الخطوة، مقرونة ببدعة تعزيز الرقابة وزيادة انضباط الأسعار، تخفي خلفها مصالح احتكارية كبرى، إذ تتغاضى عن حقيقة أن جدول تركيب الأسعار ليس مربوطاً بالدولار بشكل كامل، بل يوجد الكثير من العناصر التي تُدفع بالليرة، وأبرزها الأجور، بما يؤدي عملياً إلى إخفاء أرباح كبيرة خلف التسعير بالدولار. ويوضح حمدان أن ارتفاع الدولار وسطياً في العامين 2020 و2021 كان أكبر من معدل ارتفاع الأسعار، إلا أن ذلك لم يعد الحال في العام 2022، إذ ارتفعت الأسعار 174 % في متوسط 12 شهراً في حين لم يتعدّ ارتفاع الدولار عن 100%، ما ينفي تذرّع التجار بارتفاع سعر الدولار لزيادة أسعار السلع الاستهلاكية ولا سيما المواد الاستهلاكية التي صارت تشكل أكثر من 50% من السلة الاستهلاكية للأسر، في حين أن نسبتها، بحسب الإحصاء المركزي، لم تكن تزيد عن 25% قبل الأزمة. هذا يعني أن موارد الأسر صارت تنفق كلها على الغذاء المرتبط سعره بسعر الدولار. وبالتالي، فإن من شأن الاستمرار بهذا السيناريو أن يؤدي إلى تحوّل الأغلبية الساحقة من الأسر في لبنان إلى الفقر المدقع، إذ أن الدولرة الشاملة تلك لم تنعكس على الرواتب، التي أصيبت بضرر إضافي مع تعديل سعر الصرف الرسمي بدءاً من الأول من شباط، والذي يُساهم في رفع الأكلاف، بحيث ستُحتسب الضريبة على القيمة المضافة على سعر 15 ألفاً للدولار، والأمر نفسه سيشمل الخدمات من كهرباء واتصالات وغيرها. 

وأمام هذا الواقع المتردّي، دعا الاتحاد العمالي العام لإضراب شامل في 8 شباط، تعبيراً عن “الرفض القاطع لكل سياسات النهب والإفقار والتجويع، ورفضاً لجنون ارتفاع أسعار صرف الدولار وارتداداته السلبية على القدرة الشرائية للمواطنين والعمال…”.

الأولوية للدولرة الرسمية 

يضع الخبير الاقتصادي نسيب غبريل ما يحصل في إطار الأمر الواقع. ففي غياب الإصلاحات والثقة وانعدام قدرة المصارف على الإقراض وفي ظل غياب الدولار من الاقتصاد الرسمي، تصبح دولرة الاقتصاد أحد تجليات الأزمة. ومع ذلك يميّز غبريل بين الدولرة في القطاع المصرفي، وهو مستمرّ منذ ما بعد الحرب الأهلية وبين دولرة الاقتصاد اليوم، ليشير لـ”المفكرة” إلى أن الفارق بين الأمرين أن الدولرة صارت نقدية اليوم. ويذكر أنه عندما كانت السيولة متوفرة وكان النمو مستقراً كان المصرف المركزي يحاول تخفيض استعمال الدولار في القطاع المصرفي وقد نجح بذلك بشكل كبير. أما اليوم فالدولرة تحولت لتشكل أحد أبرز أسباب التضخم وتراجع القدرة الشرائية، أضف إلى أنها تعبّر عن عدم وجود إرادة للإصلاح. ويوضح أن الدولرة في القطاع المصرفي تصل حالياً إلى 61% بالنسبة للقروض المقدرة ب21.1 مليار دولار، و77.4% بالنسبة للودائع (96.6 مليار دولار من أصل 125 ملياراً).

وإذ تصل اليوم نسبة اقتصاد الكاش إلى ما بين 70 و80%، حسب غبريل (لا يوجد إحصاءات دقيقة)، فإن الخطوة الأولى المطلوبة هي الوصول إلى اقتصاد رسمي مُدولر، بحيث تمر الأنشطة الاقتصادية عبر المصارف، بما يساهم تلقائياً بزيادة الشفافية وتحسين الجباية، علماً أن أحد أهداف الكابيتال كونترول هو تشجيع الناس على إيداع الأموال مجدداً في المصارف، إذ أن الحسابات الدولار “الفريش” حالياً لا تزيد قيمتها عن مليار و400 مليون دولار، تشكل حسابات المستوردين النسبة الأكبر منها. 

مرة جديدة يؤكد الخبراء الثلاثة أن الدولرة ليست جديدة، لكن الجديد هو الدولرة النقدية، وفقدان الثقة بالعملة الوطنية، التي لا تزال صامدة فقط بسبب استمرار الموظفين بالحصول على رواتبهم بالليرة، في ظل تآكل ما يزيد عن 90% من قيمتها. فهل تصل الأمور إلى حدّ الدولرة الكاملة، كما في دول عديدة كالسلفادور، أم أن المستهلكين والموظفين سيبقون ضحايا الأزمة، بعدما ضمن التجار والمحتكرون حماية أنفسهم من تقلّبات العملة من خلال ترك هامش تجاري كبير (تسعير السلع على أساس سعر دولار يزيد عن سعر السوق)، ما يحقق أرباحاً كبيرة، تجعل من هذا القطاع القطاع الأكثر استفادة من الأزمة إن كان بداية عبر سياسة الدعم الذي لم يذهب إلى مستحقيه أو من خلال الاستفادة من تقلبات سعر الدولار. يظهر ذلك من خلال زيادة متاجر معروفة لعدد فروعها بشكل واضح)، إضافة إلى ولادة سلاسل متاجر أخرى سرعان ما وضعت نفسها على خارطة قطاع التجزئة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قطاع خاص ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني