الإسكندرية بين غرق بعيد منتظر وغرق موسمي متكرّر: مصارف الأمطار غائبة


2022-07-05    |   

الإسكندرية بين غرق بعيد منتظر وغرق موسمي متكرّر: مصارف الأمطار غائبة
تجمّعات مياه الأمطار في الساعات الأولى من بداية يوم ممطر. يناير 2022. منطقة سموحة – الإسكندرية.

في السنوات الأخيرة، أصرّت الحكومة على إنكار حاجة مدينة الإسكندرية إلى شبكة تصريف للأمطار، مبرّرة ذلك بقلّة الأمطار وندرة فتراتها، وهو ما دعمه تقدير لبعض الخبراء، باعتبار مصر من الدول الجافة. لذا اعتمدت المحافظة على أشباه حلول للتعامل مع المطر، مثل إصدار قرارات لتعطيل الدراسة والعمل بالمدينة، لمنع الناس من النزول إلى الشارع. يصف الأهالي في أحاديثهم في أوقات النوة[1] أداء السلطات المحلية بـ “أداء الخوف المستمر”، نتيجة معرفة السلطات بضعف البنية التحتية. لكن الآن تفرض أزمة المناخ تغييرات في كم المطر المعتاد ومدة هطوله، وتُفقد حتى توقعات الأرصاد قدرتها على التنبؤ بذلك. وهذا الأمر يلقي بأثره على حركة الأهالي داخل نطاق مدينتهم. تتعطّل الحياة جزئياً، ويسيطر على المدينة شلل مروري أحياناً، وأحياناً أخرى خسارة مالية وبشرية أيضاً، بسبب حوادث “ماسات كهربائية” متكررة.

يشكل كل ذلك بدوره تهديداً للسكان، في مدينة تمتّعت بشبكة مصارف للأمطار منذ العصور القديمة وحتى بداية القرن 21، مكّنتها من: توفير مخزون مياه يعيد الناس استخدامه من ناحية، وتخفيف ضغط الصرف عن شبكة المجاري من ناحية أخرى. حاولنا معرفة كيف اختفت شبكة صرف المطر المنفصلة وتسلسل ذلك، إلّا أنّ نتائج البحث المبدئي أبرزت علامات استفهام أكثر مما وفرت أجوبة. يحاول التحقيق التقصّي عن غياب شبكة لتصريف الأمطار منفصلة عن شبكة الصرف الصحي ومعرفة المخاطر التي تواجه الإسكندرية نتيجة غيابها في إطار التغييرات البيئية المرتقبة؟ ومن يتحمّل المسؤولية عن ذلك؟

رحلة البحث عن مصارف المدينة

إذاً تكمن مشكلة تصريف مياه الأمطار في الإسكندرية، حالياً، في غياب شبكة مستقلة لتصريفها؛ حيث تستخدم شبكة الصرف الصحي لتصريف مياه الأمطار مما يضغط على هذه الأخيرة. فهل هذا وضع جديد؟

في كتاب “قضية مجاري الإسكندرية“، يوثق عضو مجلس إدارة هيئة الصرف الصحي بالمدينة في مطلع الثمانينيات، محمد العدوي توصيات الخبراء والمهندسين المصريين والأجانب بإنشاء نظام صرف يفصل بين الأمطار ومياه المجاري، على مدار حوالي 100 عام بداية من 1908، ما يوحي بغياب شبكة صرف أمطار بالمدينة خلال تلك الفترة. إلّا أنّ الباحثة في ميكروبيولوجيا البيئة رانيا عامر تعيد غياب توثيق شبكة صرف الأمطار في الكتاب إلى حصر الكلام فقط بالحاجة إلى مصارف مطر تناسب حاضر الدراسة أو الوثيقة أيّاً كانت، من دون التطرّق إلى تاريخ وجود هذه المصارف سابقاً.

حسب رانيا عامر، فإنّ المطر المتسبّب بالغرق الجزئي المعتاد في فصل الشتاء، هو نفسه مصدر غير مستغل للمياه النظيفة.[2] وتوضح “كان هناك شبكة صرف للأمطار منذ زمن قديم. يرجع تاريخ جزء منها لإنشاء مدينة الإسكندرية في العصور القديمة، تحديداً في محطة الرمل ورأس التين في بحري، والمناطق الأقدم بالمدينة، ما قبل التوسّع العمراني لاحقاً”. وتُرجع سبب غياب مصارف المطر حالياً إلى رصف الشوارع في العقود الأخيرة. فقد واصلت السلطات استخدام طبقات من الأسمنت المتراكمة، الواحدة تلو الأخرى، وهو ما أدى إلى انسداد مصارف الأمطار، وصرف مياهها في بلّاعات الصرف الصحي، حتى أصبحت هذه البلاعات المصدر الحالي الوحيد للتخلّص من مياه الأمطار في الشوارع.

 تقع هذه البلّاعة في مستوى أكثر انخفاضاً، على جانب الطريق، ويسمح تصميمها بنفاذ الماء من فتحاتها.

وتبيّن بالبحث في اﻷرشيف الصحافي الرقمي، وفي عدد محدود من الأخبار وجود مصافٍ للأمطار بالفعل في مراحل سابقة. في مقال منشور  في “الأهرام” عن مشكلة الأمطار، يتّفق كاتبه مع ما أخبرتنا به رانيا عامر بالقول إنه في الماضي كان هناك بلّاعات لصرف مياه الأمطار، لكنّها سُدّت أثناء رصف الشوارع ووضع طبقات الرصف الجديدة على القديمة.

يؤكد الباحث البيئي الإسكندري كريم محروس وعضو حزب الخُضر، بدوره على وجود مصارف للأمطار بالمدينة، لكنه يشير إلى أنّ بداية دمج صرف مياه الأمطار والمجاري كانت باستخدام مصارف الأمطار للتخلّص من مياه الصرف الصحي، وليس العكس. ويقول “في البداية لم تصرف مياه المطر في شبكة الصرف الصحي، لكن المحافظة فتحت مصاف المطر للمجاري كحلّ سريع في الثمانينيات لتخفيف الضغط على شبكة الصرف الصحي”.

وبالعودة إلى كتاب “قضية مجاري الإسكندرية”، في عام 1935 طلب القومسيون من المستر جودفري تيلور عضو جمعية المهندسين المدنيين بإنكلترا والخبير الاستشاري في المياه والمجاري، وضع تقرير عن مجاري الإسكندرية وذلك لمعالجة ظاهرة طفح المجمعات الرئيسية عند هطول الأمطار وكذلك انتشار المناطق السكنية في أنحاء المدينة وأطرافها. أوصى بتوسيع المجاري لخدمة مليون نسمة، لكن المشروع لم ينفذ نتيجة قيام الحرب العالمية الثانية. 

هذا يعني أن وضع نظام الصرف في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يحم المدينة من ظاهرة الطفح إما لغياب شبكة مصارف وصرف صحي فعالة، أو أنّ سعة المصارف والشبكة الموجودة وقتها لم تكن كافية لاستيعاب تدفق مياه المطر والصرف الصحي، بحسب رانيا عامر. وتردف: “يعني ذلك أنّ مياه المطر والصرف وقتها لم تكن مفصولة عن بعضها البعض، طالما أنّ الكلام يربط بين طفحها وبين انتشار التجمّعات السكانية التي تزيد باستهلاكها كمية المياه، بغض النظر عن نوع المياه سواء أمطار أو صرف صحي”.

فتحت قضية تصريف الأمطار في الإسكندرية، مرة جديدة بعد تولّي الرئيس الأسبق حسني مبارك سدّة الرئاسة. فقد رفض عضو مجلس إدارة هيئة الصرف الصحي بالإسكندرية في مطلع الثمانينيات محمد العدوي رفض استغلال فكرة إنشاء مصارف للأمطار تُلقي مياهها في البحر في الترويج لصرف المجاري أيضاً في البحر كحل مؤقت اقترحته إدارة المعونة الأميركية على المسؤولين المصريين بصفتها مموّلة مشروع تطوير شبكة الصرف الصحي آنذاك. وينصّ الحل الذي طرحته إدارة المعونة على الترويج لإنشاء مصبّ بحري بطول 10 كيلومترات عند قايتباي يستخدم للطوارئ في المستقبل، والمقصود هنا طوارئ تستدعي إلقاء مياه الصرف بالبحر. وأضافت إدارة المعونة “وأيضاً يستخدم المصبّ لصرف مياه الأمطار في فصل الشتاء”. وبالتالي وخلافاً لدراسات وآراء خبراء آخرين، روّج خبراء المعونة لمصب صرف مياه المجاري والمطر في البحر، باعتباره السيناريو الأوفر اقتصادياً من الصرف بطرق أخرى أو إعادة استخدامها في ري الأراضي.

على إثر ذلك، رفع العدوي استقالته إلى محافظ الإسكندرية في تاريخ 19 مايو 1982، أي بعد تولّي اللواء فوزي معاذ منصب المحافظ بيوم واحد فقط. يشير العدوي في متن استقالته إلى محاولة المعونة الزجّ بفكرة إنشاء مصبّ يصرّف الأمطار في البحر لتمرير صبّ المجاري معها بصفة مرحلية “هذا العمل ليس له ما يبرّره، لأنّ مياه الأمطار لا تحتاج لمصب بطول 10 كيلومترات، كما أنّ الحلّ المرحلي يجب ألّا يشمل أعمال إنشائية بهذه الضخامة”. تذهب رانيا عامر من تسلسل التوصيات وشهادات الخبراء في هذا الكتاب إلى استنتاج: غياب توثيق الفصل بين صرف مياه المطر عن مياه الصرف بداية من القرن العشرين. وتؤكد استناداً إلى خلفيتها ودراستها العلمية وجود نظام صرف قديم للأمطار في الماضي، قبل عام 1900. في حوارنا الأوّل معها، توقّعت إمّا أنّ هذه الشبكة ردمت، أو أعيد استخدام مصارف المطر لأجل التخلّص من مياه الصرف الصحي، وإلقائها في البحر، وصولاً إلى الوضع الحالي.

بعد حوالي أسبوعين، تواصلت رانيا عامر معنا مجدداً. وزوّدتنا بمادة جديدة لاكتشاف أثري يثبت شهادتها عن مصارف المطر وسياق وجودها وتاريخ فقدان أجزاء منها. كانت مصارف المطر جزءاً مما يعرف علمياً باسم “cistern of alexandria” وترجمتها صهاريج الإسكندرية. استخدمت في العصور القديمة والوسطى كهياكل تخزينية تحت الأرض لحفظ المياه العذبة، إذ كانوا يستقدمون مياه نهر النيل ويجمعون المطر عبرها، لتلبية احتياجات التغيرات الموسمية. فُقدت صهاريج الإسكندرية مع تطوّر شركة المياه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يتبق منها في العقود الأخيرة من القرن العشرين وأوائل الألفينات إلّا بعض مصافيها.[3]

خريطة المسؤوليات

بحسب رواية الباحث البيئي كريم محروس، يتحمّل اللواء فوزي معاذ محافظ الإسكندرية في الفترة من 18 مايو 1982 وحتى 19 يونيو 1986، مسؤولية المبادرة بدمج صرف الأمطار والمجاري. فقد استخدم معاذ، وفقاً لمحروس، ما تبقى من مصاف المطر لصرف مياه الصرف الصحي فيها، وهو أمر ورد أيضاً في مشروعالمعرفةلجمع وإثراء المحتوى العربي رقمياً. وحسب محروس، فإنّه في ذلك الوقت، كانت شبكة الصرف الصحّي متهالكة إلى حد كبير، وكان الحلّ الأسهل وقتها استخدام شبكة صرف الأمطار لتدعيم شبكة الصرف الصحي.

يرتب محروس تسلسل المسؤولية من معاذ إلى خلفه إسماعيل الجوسقي (تولّى المسؤولية من يوليو 1986 حتى يوليو 1997) في ضمّ الشبكتين لبعضهما البعض. وتواصل ذلك أثناء توسيع كورنيش البحر في عهد عبد السلام المحجوب (تولّى المسؤولية من يوليو 1997 حتى أغسطس 2006)، حيث لم تراع التوسّعات المناطق التي يزداد فيها المطر بتضمين مصارف خاصة أو حلول بديلة لاستيعاب مياهها المتزايدة. ومع استكمال المحافظ الأسبق عادل لبيب (تولّى المسؤولية من أغسطس 2006 حتى فبراير 2011) لعملية التغيير والتوسّع بالمدينة، أزيل ما تبقّى من أرصفة البازلت القديمة، والتي كانت مصارف المطر موجودة بمحاذاتها. يقول محروس: “انتزعت المصافي، أزيلت مجاري الأمطار، تغيّرت أبعاد واتجاهات الأرصفة القديمة، وحلّ مكانها أرصفة إسمنتية. اعتمدت تطويرات المدينة على استحداث شبكة صرف مثل القاهرة من دون مراعاة الطبيعة الساحلية للمدينة واحتياجاتها المختلفة باعتبارها مدينة ممطرة”.

نموذجان لبلّاعات المجاري المنتشرة حالياً. بعضها مرتفع عن مستوى الشارع، ما يمنع صرف المياه إلّا إذا ارتفع تجمّع الماء لمستواها. كما أن تصميمها لا يسمح بنفاذ الماء من خلالها كما هو الحال في الصورة السابقة. وتتطلب معايير الأمان والسلامة إحكام غلقها، لأنّ فتحها يعرّض المارّة لخطر السقوط فيها.

يتفق ما يقوله كريم مع تصريح الرئيس الحالي لشركة الإسكندرية للصرف الصحي محمود نافع عن وجود مصارف لجمع مياه الأمطار ونقلها على البحر حتى عام 2004. ألغيت هذه الخزانات أثناء تطوير الكورنيش في الفترات السابقة (مع تعاقب المحافظين السابق ذكرهم، انتهاءً بعهد عادل لبيب) مع فقدان جميع مصافي الأمطار بطول الكورنيش، وتحوّل تصريف مياه الأمطار إلى شبكات الصرف الصحي. يوضح نافع “تضمّن الصرف الصحي سابقاً طريقة فصل داخلي، تتكوّن من خزان (بيارة)[4] لمياه الأمطار منفصلة عن خزان (بيارة) أخرى لمياه الصرف الصحي، وبالتالي كان من السهل توجيه مياه الصرف الصحي إلى المحطات المخصّصة للصرف الصحي وتوجيه مياه الأمطار لمصافي الأمطار باتجاه الكورنيش. تستبعد رانيا عامر ذلك قائلة “أنا شخصياً لم أعاصر وجودها في هذه الفترة، لكن معرفتي بها تأتي من دراستي، ولو بقي منها عيون لوقت متأخر كعام 2004، فأظنّ أنّها لم تكن تعمل”. إلّا أنّ خطة العمل البيئي لمحافظة الإسكندرية عام 2008 أشارت إلى مصارف المطر في معرض حديثها عن ضرورة حماية أغطيتها من السرقة.

وبحسب تاريخ صرف المطر وشبكة المجاري والجمع بينهما، نجد أنّه من في فترة 2000- 2010، وقت وجود عادل لبيب، آخر محافظ عثر في عهده على ذكر لمصارف الأمطار، وحتى أواخر العقد الثاني للألفية نفسها، لم تر الدولة حاجة إلى تدشين شبكة مصارف أمطار مستقلة. يبدو ذلك في تعليق مجلس الوزراء على موجة الأمطار الشديدة في 2018 بأنّ إنشاء شبكة لتصريف الأمطار يتطلّب مليارات الجنيهات في حين أنّ إمكانات الدولة المالية لم تكن تسمح بذلك، مؤكداً (التعليق) أنّ معظم الدول لا تنفّذ هذه الشبكات باهظة التكاليف. وهذا يعني أنّه بخلاف ضعف الاستفادة من كلّ مياه الأمطار طوال القرن العشرين، كما يوضح كتاب “قضية مجاري الإسكندرية”، بموجب توثيقه لتوصيات متعاقبة بإنشاء نظام صرف يفصل بين الأمطار والمجاري، من دون تأكيد تفعيل أي منها، فإنّ المعلوم من تسلسل البحث في تاريخ نظام الصرف وشهادات المتخصّصين أنّ استغلال المطر توقّف لقرابة 30 عاماً على الأقل، حتى عاد الحديث مجدداً عنه، بتوجيه رسمي رئاسي في أواخر 2021 لعمل مشروع الفصل.

بحسب رانيا عامر، لم تُحدّث شبكة الصرف الصحي لزيادة سعتها الاستيعابية كي تتناسب مع الاستخدامات المتزايدة للناس ومساكنهم نتيجة التوسّع العمراني، وعليه يتسبّب هطول الأمطار في طفح المجاري وانتشار تجمّعات المياه بالشوارع.  تستوعب شبكات الصرف الصحي وهي فارغة نحو 1.9 مليون متر مكعب من المياه، أما مياه الأمطار اليوم فتقدّر كمّيتها بأكثر من مليونَي متر مكعب في ساعتين ونصف، لافتة إلى أنّ شبكة الصرف الصحي لم تكن قادرة على استيعاب المياه[5]. في سياق متّصل، لا تعتقد رانيا عامر أنّ الأمطار وحدها يمكن أن تتسبب في سيناريو الغرق المحتمل، إلّا إذا ازدادت كثافة المطر وتحوّل إلى سيول، وهذا الأمر حدث في عام 2019.

هدر مياه الأمطار والفقر المائي

يضعنا الحديث عن غياب مصارف الأمطار وبالتالي الاستفادة من مياهها في إطار سياق أوسع تتناقص فيه كمية المياه ويتضاءل نصيب الفرد من حصة النيل مع الزيادة السكانية. تقول رانيا عامر “وصلنا إلى ما دون حد الفقر المائي. استمرار تجاهل استغلال مصادر المياه البديلة وفي مقدمتها الأمطار يدفع بنا للتوقف عن الزراعة مستقبلاً، إذ لن يعود بإمكاننا تغطية حاجات المنتجات الزراعية”. تستشهد ببدء منع زرع بعض المنتجات مثل الورد ونباتات الزينة والأرز. وتضيف: “نتحدث الآن عن أي منتجات يمكن الاستغناء عنها أو تستهلك كميات كبيرة نسبياً من المياه، وبالتالي سيقلّ الدخل العائد من الزراعة، وقلّة الصادرات الزراعية ومدخول البلاد من العملة الصعبة. ينقلنا ذلك على حد تعبيرها إلى “نتائج اقتصادية مهولة، يمكن أن تفقدنا المياه، وتضطرّنا فيما بعد لشرائها بأموال طائلة. لا نريد من الآن أن نصل لذلك، وما زلنا قادرين بعد على التعامل مع التغييرات البيئية، ولم تنفد أمطار الشتاء لدينا”.

في فصل الصيف، يقلّ منسوب المياه وتجمّعاتها بفعل التبخّر مع ارتفاع درجة الحرارة. ترى رانيا أنّ على السلطات تسريع جمع مياه الأمطار في الشتاء. فصحيح أنّ جزءاً من تجمّعات مياه الأمطار يذهب إلى المصارف ولكن جزءاً أكبر لا يزال بالإمكان الاستفادة منه ولا سيما في المحافظات الساحلية. لكن ذلك يحتاج إلى تركيز الانتباه على العوامل البيئية الأخرى التي تفاقم من صعوبة الوضع الحالي، إذا استمر. ويأتي في مقدمة هذه العوامل ردم البحيرات مثل ترعة المحمودية وأجزاء من بحيرة مريوط.

وتشير رانيا عامر إلى أنّّه “حينما رُدمت البحيرات، خسرنا مكاناً لتجمّع المطر، الآن تُفقد مياه الأمطار سواء في البحر أو في شوارع غير مهيّأة، بدل جمع كل نقطة تعويضاً لنقص مياه النيل”. فمياه الأمطار مصدر تعويضي لندرة المياه الناتجة عن التغييرات البيئية، لذلك تنبّه إلى أهمية استغلال مياه الأمطار في تغذية الآبار بما فيها من مياه جوفية أثناء فصل الشتاء، عن طريق شحن خزانات الآبار بمياه المطر، استعداداً لقدوم فصل الصيف (الحل الأول). “وقتها لن نكون قلقين بشأن المياه كما نحن الآن، لأننا نملك بديلاً لكن الوضع الحالي يسفر عن هدر مصدر طبيعي وعديم التكلفة للمياه”.

وتوضح دور البحيرات في تخزين أو هدر مياه المطر، تبعاً لوجودها من عدمه “حتى في ظل غياب شبكة مصارف للأمطار، تبقى الاستفادة منها ممكنة، لو أنّ الشوارع صُمّمت بميول معيّنة يميناً ويساراً بطول ممرّات المدينة، لتصبّ تجمّعات المطر في البحيرات. ردم الترع حول البحيرات إلى شوارع، وفقاً لرانيا، مما أدى لهدر المياه النظيفة وتأزّم وضع المدينة بفصل الشتاء. يساهم عدم ضبط ميل الشوارع وتحديثه باستمرار كلّما استدعت الحاجة ذلك، في الغرق الموسمي للمدينة أيضاً. تشرح أنّ “انخفاض مستوى سطح الشوارع هو جزء من أسباب غرق الشوارع بالمطر. يجري في الغالب الاعتماد على الرّصف فقط للتعامل مع الشوارع. نتيجة غياب توجّه لتعديل وضبط نسب وميل الشوارع بحيث تصبّ في تجمّعات طبيعية، لكنّ التعامل السطحي على مدار السنين، وحصر التعامل على وضع طبقات من الأسفلت بالأعلى، هو ما يؤدي إلى الوضع الحالي.

 توضح الصورة تركيز مياه الأمطار في الجزء المنخفض الموازي للرصيف على جانبي الشارع.

بخلاف ذلك، برزت عوامل التغييرات البيئية ما دفع الحكومة إلى تكليف كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية القيام بدراسة مشروع يهدف إلى فصل شبكة مياه الأمطار عن الصرف الصحي بالمدينة. حاولنا الوصول إليها، لمعرفة مخططها الزمني وتكلفتها ومراحل التنفيذ أو التواصل مع رئيس قسم الهندسة الصحية المسؤول عن فريق الدراسة، من دون رد حتى تاريخ كتابة هذه المقالة. ما نعرفه الآن عن المشروع هو وصف المحافظ  له بـ “الدواء المر” في إشارة إلى تكلفته الكبيرة التي طالب المواطنين بالمشاركة فيها.

في المقابل تطرح رانيا عامر بديلاً أكثر يسراً وقابلية للتنفيذ (الحل الثاني) يقوم على “وضع خزانات مفتوحة على أسطح البيوت لتجميع الأمطار، سواء من قبل أصحاب البيوت أنفسهم واستخدامها لأغراض منزلية، أو تتولى الدولة مسؤولية الجمع عبر مواسير، وهذا نظام معمول به في بعض الدولة الأفريقية الأخرى”. تقدّر دراسة في 2019، حجم الحصيلة السنوية لمياه الأمطار بحوالي 142.5 مليون متر مكعب في المدن التي شملتها الدراسة، تفيد بقدرة المياه المحتملة من الأمطار على تلبية حوالي 12% من الاحتياجات المنزلية التكميلية للمياه في مدينة الإسكندرية. تقترح الدراسة استخدام الأمطار لسدّ احتياجات المناطق البعيدة عن نهر النيل والمنطقة التي تعاني من نقص في المياه. حتى تفعيل مقترح الخزانات أو تنفيذ مشروع شبكة صرف جديدة، تبقى الإسكندرية في مهب خطر غرق آخذ في التصاعد تحت وطأة عدم كفاية الإجراءات المتّبعة حتى الآن.


[1] النوة هي مفردة عامية تستخدم في البلدات الساحلية إشارة إلى رياح شديدة تثير اضطراب البحر، وارتفاع في موج البحر، وتشمل أمطار غزيرة قد يتبعها سيول.

[2] جرت هذه المحادثة الأولى في تاريخ 2 يناير 2022.

[3] أجريت المحادثة الثالثة في تاريخ 6 فبراير 2022.

[4]  البيّارة هي خزان أرضي يستخدم لجمع وتخزين المياه، وغالباً ما يستخدم باعتباره بديلاً أولياً لأدوات شبكات الصرف والمجاري المتطوّرة.

[5] مياه الشرب بالإسكندرية تفجر مفاجأة عن حجم الأمطار في المحافظة، حسين دسوقي – محمد البنهاوي، أخبار اليوم، 2/12/ 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، تحقيقات ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مصر ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني