الأراضي الفلاحية الدولية: قاطرة تنمية معطوبة لصالح ديناميّات النهب والاستلاب


2022-02-23    |   

الأراضي الفلاحية الدولية: قاطرة تنمية معطوبة لصالح ديناميّات النهب والاستلاب
المصدر: المفكرة القانونية | رسم: عثمان سلمي

طالما كانت قضيّة حقّ النفاذ إلى الأرض، ولا سيّما الأراضي الفلاحية الدولية منها، قضيّة مركزية في تونس على اعتبار معطيات خصوبتها ومردوديّتها العالية. من جانب آخر تستقطب الأراضي الفلاحية الدولية عديد الفاعلين والمؤثّرين، وإن كانت تربطهم علاقات متناقضة ومصالح متضادّة وديناميّات مشتبِكة، وهو الأمر الذي يعكس بصورة جليّة اختلاف وجهات النظر وتبايُن طرائق واستراتيجيّات استغلالها والتصرّف فيها.

الأكيد أنّ المسار الانتفاضي الذي عرفتْه تونس في 2011 كان مُحمَّلاً بهواجس وهموم أبناء وبنات أرياف تونس العميقة في حقّهم المشروع في النفاذ إلى مختلف مرتكزات الإنتاج الفلاحي، وفي مقدّمتها مسألة حقّ الولوج إلى الأراضي الفلاحية الدولية. وهو ما تجسّد بشكل فعلي من خلال تعدُّد وانتشار الحراكات الاجتماعية في هذا الخصوص، كحراك جمنة من ولاية قبلّي في الجنوب التونسي في استرجاع “هنشير ستيل”، وتحرّكات أهالي ولاية منّوبة كالشويقي والدخيلة والمرناقيّة، فضلاً عن حراك مدينة الدهماني في الشمال الغربي التونسي حول “هنشير بالقرون”[1]. في السياق ذاته، يجدر التذكير بأنّ العديد من الناشطين المجتمعيين على قاعدة الحقّ في الأرض كانوا قد تعرّضوا إلى جملة من التضييقات والملاحقات وصلت في أحيان كثيرة إلى حدّ مُقاضاتهم وتتبّعهم عدلياً.

كان المسار الانتفاضي الذي عرفتْه تونس في 2011 مُحمَّلاً بهواجس وهموم أبناء وبنات أرياف تونس العميقة في حقّهم المشروع في النفاذ إلى مختلِف مرتكزات الإنتاج الفلاحي.

من جانب آخر، رافقت مسألة الأراضي الفلاحية الدولية في تونس جملة من الخطابات والتحليلات التي ترى جملة من الإخلالات التي تشوب ملفّ الأراضي الدولية، فضلاً عن لا شفافيّة ولا حياديّة إسناد التصرّف فيها، انطلاقاً من معطيات الزبونيّة السياسية والفساد المالي، وهو ما ساهم في تكوُّن رؤوس أموال احتكارية، لطالما استنزفت وتفرّدت باستغلال هذه الأراضي عبر صيغ “شركات الإحياء والتنمية الفلاحية” و”مقاسم الفنّيين”.

في الحقيقة، إنّ كلّ محاولة فهم وتحليل لواقع الأراضي الفلاحية الدولية في تونس واستراتيجيّات التصرّف فيها تبدو غير ممكنة أو منقوصة إذا استثنينا منها مهمّات تحليل وتشريح مجمل الخيارات المُعتمَدة منذ ستّينيّات القرن الماضي، أي في لحظات تركيز مشروع التعاضد وصولاً إلى يومنا هذا، نظراً إلى أنّ مسألة الأراضي الفلاحية الدولية إشكال هيكلي وسياسي بامتياز.

عن تجربة التعاضد وتهاوي محاولات تعصير الفلاحة التونسية قسرياً

انبثقت فلسفة التعاضد عن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتّحاد العامّ التونسي للشغل سنة 1956، الذي كان يُعبّر آنذاك عن برنامج المركزيّة النقابية لآفاق البناء المجتمعي ما بعد الاستعماري في تونس. اعتُمد مشروع التعاضد في برنامج التنمية العشري 1962-1971، ليصبح بذلك الفلسفة الرئيسية للمنوال الاقتصادي والاجتماعي، إثر تبنّي الحزب الحاكم ما سُمِّيَ الاشتراكيّة الدستورية.

من جانب آخر، ارتكز مشروع التعاضد الاقتصادي والاجتماعي على ثنائيّة مركزية؛ تمثّل قطبها الأوّل في “دحر الاستعمار الاقتصادي المباشِر” وهو ما تجسّد في قرار “الجلاء الزراعي” سنة 1964، والذي تمّ بموجبه استرجاع الأراضي الفلاحية، التي كانت تحت طائلة استغلال المستعمرين القدامى. أمّا الثاني فقد تمثّل في “التخطيط الاقتصادي”، الذي تصبح بموجبه الدولة وحدها جهة راعية ومراقِبة ومتحكِّمة في عمليّات الإنتاج والتخطيط الاقتصاديَّيْن.

بموجب القانون عدد 19 المؤرَّخ في 25 ماي 1963، أُقِرَّ اعتماد تجربة التعاضد التي استهدفت بشكل أساسي القطاع الفلاحي، نظراً إلى ما يزخر به من إمكانات إنتاجية وتنموية لا بأس بها، وقد كانت الأراضي الفلاحية الدولية العمود الفقري لهذا التوجّه.

تأسّست تجربة التعاضد على تصوّر عامّ يتيح الاستغلال الأنجع للأراضي الفلاحية الدولية في أفق تجاوز الإشكالات الهيكليّة التي تعانيها الفلاحة التونسية. إضافة إلى ضرورات القطع مع حالة التبعيّة الغذائية وتحقيق مطلب الاكتفاء الغذائي الذاتي. فضلاً عن إمكانات استغلال خصوبة ومردوديّة الأراضي الفلاحية الدولية، قضت فلسفة التعاضد أيضاً بتجميع صغار الفلّاحين، الذين لا تتجاوز مساحة أراضيهم ثلاثة هكتارات، بغية تجاوُز إشكال تشتُّت الملكيّات وتدعيم إنتاجيّة مستغَلّاتهم بشكل جماعي.

تجدر الإشارة إلى أنّ المساحة الكاملة للأراضي الفلاحية المُسترجَعة غداة رحيل المستعمر الفرنسي بلغت 828 ألف هكتار سنة 1964، تنقسم ما بين 745 ألف هكتار كأراضٍ مُتَوْنَسة ونحو 83 ألف هكتار كأراضٍ أحباس[2]، وهو ما يؤكّد مرّة أخرى أهمّيّة هذا المخزون العقاري من جهة إمكاناته الاستراتيجية والتنموية.

أخذت تجربة التعاضد منحًى تصاعديا مدعوماً من السلطة السياسية، إذ تُبيِّن الإحصاءات أنّ بحلول سنة 1968 تمّت هيكلة 348 وحدة تعاضدية للإنتاج الفلاحي على مساحة إجمالية قُدِّرت بـ 379 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية الدولية[3]، التي أُريدَ لها أن تكون أنموذجاً حيّاً لضيعات فلاحية مثالية تعكس استراتيجيات تحديث الفلاحة التونسية.

أمّا في ما يخصّ الحصيلة الإجمالية لتجربة التعاضد، التي زاوجت بين مساهمات الأراضي الفلاحية الدولية ومساهمات صغار ومتوسّطي الفلّاحين، فتشير الإحصاءات إلى أنّ في حدود سنة 1968 وقعت هيكلة 1.7 مليون هكتار صلب وحدات تعاضدية للإنتاج الفلاحي، لتتطوّر إلى مجموع 1592 وحدة تضمّ 295414 مُتعاضداً على مساحة إجمالية تُقدَّر بـ 3.8 مليون هكتار في 30 جوان 1969[4].

بحلول سنة 1969، وعلى الرغم من التطوّر الكبير الذي أحرزتْه تجربة التعاضد من جهة ارتفاع نسق إحداث الوحدات التعاضدية واتّساع مجالها الجغرافي، فضلاً عن ارتفاع أعداد المُنخرطين صلبها، حملت هذه السنة أيضاً القرار التاريخي – السياسي إنهاء العمل بهذه التجربة.

ساهمتْ المعطيات الموضوعية المتعدّدة في الإسراع بإعلان التخلّي عن تجربة التعاضد. ومن ذلك أنّ الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي لم تكن تحظى باستقلاليّة نشاطها وحرّيّة اتّخاذها لما يلزم من قرارات تسييرية وتوجيهية، بل على العكس من ذلك، كانت خاضعة للإشراف والرقابة المباشرَيْن من رأس السلطة السياسية، كوزارتَيْ الفلاحة والداخلية من وُلاة ومُعتَمَدين، الأمر الذي ساهم في زيادة تعقيد وضعيّات الوحدات التعاضدية. إضافة إلى أنّها كانت عرضة للعديد من ممارسات الابتزاز والفساد المالي.

من جهة أخرى، ولّد قرار “تعميم تجربة التعاضد” سنة 1969 شعوراً لدى كبار المالكين العقاريين والأرستقراطيّة الفلاحية بتهديد مباشِر لمصالحهم ومحاولات انتزاع أراضيهم، وبالتالي إضعاف نفوذهم الاقتصادي والسياسي. وهو ما ساهم في ظهور جناح سياسي على رأس السلطة السياسية كان معارضاً لهذا التوجّه وانخراطه في الترويج لحملات دعائية، مفادُها أنّ التعاضد يهدف إلى تجريد المواطنين من ملكيّاتهم الخاصّة وإلحاقها بالملك العمومي، الأمر الذي سرّع في وتيرة الاحتجاجات الشعبية ضدّ مشروع التعاضد، وهو ما تجسّم خاصّة في “أحداث الوردانين” في جانفي 1969.

إضافة إلى ما شهده الساحل التونسي من حركات احتجاجية ورفض عامّ لسياسة التعاضد، ساهم انخرام موازين القوى السياسية لصالح الشقّ المناوئ لمشروع التعاضد، الذي ترأسّه الهادي نويرة، في حالة إجماع على ضرورة التخلّي عن تجربة التعاضد والعودة إلى اعتماد النموذج الليبرالي، وهو ما سيُعرَف لاحقاً بفترة “الانفتاح الحرّ”، انطلاقاً من بداية سبعينيّات القرن الماضي.

في استتباعات التخلّي عن تجربة التّعاضد: بدايات التأسيس لأطروحة الاستغلال الخاصّ في الملك العمومي

في بدايات سبعينيّات القرن الماضي، ومع تعيين الهادي نويرة رئيساً للحكومة خلفاً لأحمد بن صالح (مهندس تجربة التعاضد) واعتماد النموذج الليبرالي في الاقتصاد وانْخراط تونس في منظومة التقسيم العالمي للعمل، تضرّر القطاع الفلاحي بشكل كبير، ولم يعُدْ يحظى بأيّ ثقل استراتيجي بوصفه قاطرة التنمية في تونس، مقابل تنامي الرهان على الصناعات التحويلية وقطاع الخدمات. وهو ما تمظهر بشكل أساسي من خلال إقرار قانون 1972 المتعلِّق بالشركات الصناعية المصدَّرة كلّيّاً.

في السياق ذاته، رافق التخلّي عن مشروع التعاضد حملة ممنهجة لتصفية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي بوصفها الركيزة الأساسية لهذا المشروع. إذ تفيد الإحصاءات أنّ مسار التصفية أبقى سنة 1971 على 358 وحدة تعاضديّة للإنتاج فقط، تستغلّ مجالاً جغرافياً قُدِّر بـ 700 ألف هكتار من مجموع 1994 وحدة تعاضدية سنة 1969، تستغلّ مجالاً جغرافياً قُدِّر بـ 4.7 مليون هكتار[5].

كان لقرار تصفية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي عواقب وخيمة على الريف التونسي.

إنّ الوتيرة المتسارعة لنسق تصفية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي وتبنّي المقاربة الليبرالية في الاقتصاد كانت إشارة واضحة لبدايات تخلّي الدولة رسميّاً عن مسؤوليّاتها الرقابية والإشرافيّة، وبدايات التفويت في قطاع استراتيجي على جانب كبير من الأهمّيّة الاقتصادية والاجتماعية، يمثّله القطاع الفلاحي.

من جهة أخرى، كان لقرار تصفية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي عواقب وخيمة على الريف التونسي، تمثّلت في التسريح التلقائي لآلاف المزارعين من هذه الوحدات من دون أيّ برمجة لاستراتيجيّات متابعتهم ومرافقتهم ودعمهم. وهو ما حدا بالكثير منهم إلى التفويت في ملكيّاتهم الفلاحية الصغيرة، أو هجران وظيفة الإنتاج الفلاحي والنزوح نحو المدن الكبيرة بحثاً عن آفاق معيشية بديلة.

الجدير بالذكر أيضاً، أنّ بالإضافة إلى مسارات تصفية الوحدات الإنتاجية، عمدتْ السلطة السياسية آنذاك إلى التفويت في مساحة إجمالية قُدِّرت ب 329 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية الدولية تحت عنوان “الزبونيّة السياسية” إلى عسكريين ومقاومين وأقارب، وهو ما ساهم في تراجع المخزون العامّ لهذه الأراضي ليتقلّص من مساحة 828 ألف هكتار إلى 497 ألف هكتار[6].

أقرّت الدولة التونسية، بعد تصفية تجربة التعاضد، حقّ استرجاع الأراضي للمُتعاضدين القدامى بوصفها مساهمات عينيّة في تأسيس الوحدات التعاضدية، في حين تغافلت عن تعويضهم مادّياً وتمكينهم من مستحقّاتهم المالية الناجمة عن نشاطاتهم السابقة صلبها، والمتمثّلة في حساباتهم المُوْدَعة لدى البنك الوطني الفلاحي. في هذا السياق، يتحدّث متعاضد سابق من جهة قفصة عن كون حسابهم الجاري في البنك الوطني الفلاحي كان في حدود 80 ألف دينار سنة 1964، وهو ما يعادل تقريباً أكثر من مليون دينار في أيّامنا هذه. و لم يقع إلى اليوم تمكينهم من مستحقّاتهم المالية، أي بعد 47 سنة، وبدون احتساب الفوائض[7].

مثّل قرار تصفية تجربة التعاضد استهدافاً مباشِراً للقطاعات الإنتاجية الفلاحية.

في الحقيقة، مثّل قرار تصفية تجربة التعاضد استهدافاً مباشِراً للقطاعات الإنتاجية الفلاحية، إذ وقع التخلّي عن صغار ومتوسّطي الفلّاحين المنضَوِين صلب الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي، بحرمانهم من كلّ ممكِّنات الدعم والتأطير والتوجيه، فضلاً عن ضرب منظومات الإنتاج الأساسية عبر اعتماد سياسات تحرير أسعار مستلزمات الإنتاج الفلاحي. وهو ما مثّل انتكاسة حقيقية للفلاحة التونسية. من جهة أخرى، لم تكن وضعية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي أفضل حالاً. إذ شهدت هذه الأخيرة مسارات من التهميش المُمَنهَج والتخريب، فعرفتْ بدورها تراجعاً ملحوظاً في إنتاجيّتها ومردوديّتها وتقهقر موازناتها المالية.

رافقتْ سياسات التصفية الممنهجة للإرث التعاضدي حملات دعائية رسمية، روّجت لفشل خيارات التعاضد، وشوّهت جميع نماذج العمل التعاوني والتعاضدي، وحثّت في المقابل على ضرورات اعتماد أطروحات الاستثمارات الناجعة والمربحة. وهو ما تُوِّج في النهاية بابتكار نموذج “شركات الإحياء والتنمية الفلاحية” بصقتها هياكل استثمارية خاصّة سيقع تمكينها من استغلال الأراضي الفلاحية الدولية تحت يافطة ما يمكن أن نصطلح عليه بـ”الاستثمار الخاصّ في الملك العمومي”.

شركات الإحياء والتنمية الفلاحية: عنوان للريع العقاري الفلاحي

قضى التوجُّه الليبرالي الجديد في تونس بإعادة التفكير في مسارات استغلال الأراضي الفلاحية الدولية. فبعد الشروع في تصفية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي وإسناد جزء كبير منها إلى دوائر الموالين للسلطة السياسية، بدأ التحضير لبلورة استراتيجيّات جديدة تتيح تسرُّب رأس المال الخاصّ إلى مجال الأراضي الفلاحية الدولية تحت يافطة “شركات الإحياء والتنمية الفلاحية” و”مقاسم الفنّيين”.

لم تكن مسارات إسناد الأراضي الفلاحية لشركات الإحياء والتنمية الفلاحية خارجة عن منطق الموالاة والزبونيّة السياسية.

تدعيماً للتوجُّهات الليبرالية الجديدة، وتأكيداً لتخلّي الدولة عن وظائفها التسييرية والرقابية على القطاع الفلاحي، وقع إصدار القانون عدد 67 المؤرَّخ في 6 أوت 1982 والمتعلّق بمجلّة الاستثمارات الفلاحية. وفي هذا السياق، وقع بعث أوّل شركة للإحياء والتنمية الفلاحية سنة 1982. ظهر الإطار القانوني لشركات الإحياء من خلال الأمر عدد 226 المؤرَّخ في 4 مارس 1983 والمتعلّق بشروط إحياء الأراضي الفلاحية الدولية، إلّا أنّ النّقلة النوعية حصلت مع إصدار الأمر عدد 1172 المؤرَّخ في 18 جوان[8] 1988 المتعلّق بضبط شروط استغلال الأراضي الفلاحية الدولية من قِبل شركات الإحياء والتنمية الفلاحية، وهو ما أتاح للمستثمرين الخواصّ الانتفاع بترسانة من التسهيلات والامتيازات ليتمّ تدشين حقبة جديدة من الاستثمارات الخاصّة في المُلك الفلاحي الدولي.

كانت الدوائر المرتبطة برأس النظام القديم تستحوذ على ما جملته 30 شركة إحياء وتنمية فلاحية، من أصل 240 شركة.

يُقصَد بشركات الإحياء والتنمية الفلاحية تلك المؤسّسات الاستثمارية الخاصّة التي يُراد من خلالها إحياء الأراضي الفلاحية المملوكة للدولة، التي لم يقع إبراز طاقاتها الإنتاجية. ويذهب كراء هذه الأراضي إلى المستثمرين الخواصّ لمدّة لا تتجاوز الأربعين سنة ولا تقلّ عن الخمس وعشرين سنة. وذلك تحت عنوان شركات خفيّة الاسم، تونسية الجنسية وتُسمّى “شركات الإحياء والتنمية الفلاحية”، وفق كرّاس شروط يضبط الصيغة التعاقدية بين الطرفَيْن[9].

في الحقيقة، لم تكن مسارات إسناد الأراضي الفلاحية لشركات الإحياء والتنمية الفلاحية خارجة عن منطق الموالاة والزبونيّة السياسية. كما كانت هذه الأخيرة أداة تطويع وظَّفها النظام القديم في حشد مُوالين جدد ومكافأة المقرَّبين منه. إذ كانت الدوائر المرتبطة برأس النظام القديم تستحوذ على ما جملته 30 شركة إحياء وتنمية فلاحية من أصل 240 شركة، تمتدّ على مساحة إجمالية قُدِّرت بـ 12 ألف هكتار سنة 2010[10]. فيما ارتفعت مساحة الأراضي الفلاحية الدولية الموضوعة على ذمّة شركات الإحياء والتنمية الفلاحية من 87 ألف هكتار سنة 1995 إلى أكثر من 250 ألف هكتار سنة 2010[11].

تقلّ إنتاجيّة شركات الإحياء والتنمية الفلاحية بنسبة 40% عن إنتاجية ضيعات خاصّة مجاورة لها.

تُمثّل الأرقام الآنف ذكرها دليلاً جيّداً على التطوّر السريع في إسناد الأراضي الفلاحية الدولية لصالح شركات الإحياء والتنمية الفلاحية لتكون هذه الاخيرة قد تسوّغت سنة 2010، ما يمثّل نصف المساحة الإجمالية للأراضي الفلاحية الدولية في تونس. في حين يعاني أبناء وبنات الأرياف التونسية من صعوبات حقيقية في النفاذ إلى الأرض.

على الرغم من أهمّيّة مسارات “إسقاط حقّ الانتفاع” التي انتهجتها الدولة التونسية منذ 2011، واسترجعت بذلك مخزوناً عقارياً لا بأس به كان تحت تصرّف شركات الإحياء والتنمية الفلاحية التي لم تحترم نهاية كرّاس الشروط، والتي لم تنجح أيضاً في مهمّات التسيير الجيّد لهذه الأراضي وتنميتها، لا تزال سطوة الاستثمارات الخاصّة على هذه الأراضي تحظى بأهمّيّة نسبية.

في آخر تحيين لواقع الأراضي الفلاحية الدولية، تشير الأرقام إلى أنّ شركات الإحياء والتنمية الفلاحية تتسوّغ ما مساحته 90 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية، أي ما يعادل تقريباً ثلث مساحة الأراضي الفلاحية الدولية المُهَيْكَلة (307 آلاف هكتار). فيما تستأثر فئة مقاسم الفنّيين بمساحة تعادل 54 ألف هكتار[12]، وهو ما يعادل بالإجمال نسبة استغلال تضاهي 5% من الأراضي الفلاحية الدولية المهيكلة وما يقارب ثلث إجماليّ الأراضي الفلاحية الدولية.

تقلّ إنتاجيّة شركات الإحياء والتنمية الفلاحية بنسبة 40% عن إنتاجية ضيعات خاصّة مجاورة لها.

وعلى الرغم من أهمّيّة المساحات والإمكانيّات الموضوعة على ذمّة شركات الإحياء والتنمية الفلاحية، تبدو الحصيلة الإجمالية لهذه الأخيرة سلبية وبعيدة عن تحقيق الآفاق التنموية المنشودة. وهو ما يبرزه تقرير دائرة المحاسبات[13] الصادر سنة 2018، إذ يشير إلى أنّ:

– 53% من الشركات الناشطة لم تحترمْ التزاماتها التعاقدية والإنمائية، بما في ذلك معاليم الكراء التي تجاوزتْ 40 مليون دينار؛

– إنتاجيّة شركات الإحياء والتنمية الفلاحية تقلّ بنسبة 40% عن انتاجيّة ضيعات خاصّة مجاورة لها، حيث تراجعت مردوديّة المنتوجات الفلاحية بنسبة 35%. كما لم تتجاوز نسبة تشغيل 25% من هذه الشركات 50% ممّا هو مستوجَب خلال الفترة الفاصلة بين 2012 و2016؛

– بعض المستغلّين تعمّد اقتلاع وقصّ أصول أشجار بدون الحصول على موافقة مُسبَقة من وزارة أملاك الدولة، من ذلك ما أقدمت عليه “شركة الإحياء سيتروس” سنة 2017 من تقليع غراسات عنب على مساحة 25 هكتاراً سنة 2017. فضلاً عمّا قامت به “شركة صابة” من تقليع لأصول زياتين على مساحة 10 هكتارات في ولاية نابل بين سنتَيْ 2012 و2014؛

– بعض المستغلّين تعمّد إحالة كامل العقار أو جزء منه إلى الغير بالبيع أو بالكراء؛

– “شركة صوداسما 3” في ولاية القيروان المستغِلّة لعقار على مساحة 302 هكتار خلال قامت سنة 2012 بزراعة فاكهة الدلّاع عوض العناية بالزياتين المُبرمَجة على مساحة 42 هكتاراً، ممّا أدّى إلى ضعف نموّها، فضلاً عن زراعة الخضروات على مساحة 74 هكتاراً على حساب الزراعات الكبرى.

يمكن الجزم بأنّ شركات الإحياء والتنمية الفلاحية أصبحت تمثّل تهديداَ مباشِراً لمقوّمات السيادة على الغذاء.

من جانب آخر، وانطلاقاً من زيارات ميدانية، يمكن الجزم بأنّ شركات الإحياء والتنمية الفلاحية، وانطلاقاً من تجارب واقعية، أصبحت تمثّل تهديداً مباشراً لمقوّمات السيادة على الغذاء من خلال أنشطتها الاستنزافية للموارد الطبيعية من تربة وماء، الموجَّهة بكاملها نحو التصدير، على غرار ضيعات “الاعتزاز 2″ المختصّة في إنتاج مادّة الجوجوبا الموجَّهة بكاملها إلى التصدير و”ضيعة الاعتزاز 3”[14] المختصّة في إنتاج الزياتين (أصناف سقوية مستوردة) والموجَّهة بكاملها إلى التصدير، الأمر الذي يمثّل تعدّياً صارخاً على جميع خصوصيّات منطقة منزل بوزيّان في ولاية سيدي بوزيد، على مستوى استنزاف وسلب إمكانيّاتها الإنتاجية وتحويلها إلى الأسواق العالمية بدون تحقيق أيّ أثر تنموي محلّي.

تتنزّل مسألة السيادة الغذائية كمقوِّم أساسي من مقوِّمات سياديّة القرار الوطني.

ختاماً، لا يمكن لأيّ مشروع ينخرط في أفق القطع مع التبعية والهيمنة إلّا أن يكون سيادياً ومحدَّداً بجملة من التوجُّهات والاستراتيجيّات التي تدعم تحرُّرَه وانعتاقَه. في هذا السياق، تتنزّل مسألة السيادة الغذائية كمقوِّم أساسي من مقوِّمات سياديّة القرار الوطني، بما تعنيه من تحديد لسياساتها الزراعية وحرّيّة تحديد أولويّات إنتاجها الغذائي.

يمثّل شعار الحقّ في النفاذ إلى الأرض شعاراً مركزياً في جميع محطّات البناء الوطنيّ. ويعني هذا الحقّ تمكين جماهير المحرومين والمقصيّين من دوائر الإنتاج الغذائي الأساسي، من النفاذ إليه بوصفه قاعدة الإنتاج الحقيقية التي ستسمح بالقطع مع كلّ أشكال ونماذج الاستخراجيّة الزراعيّة وتوجيه كلّ الإمكانيّات الموضوعية نحو تلبية الاحتياجات المحلّيّة من الغذاء، عوضاً عن الانخراط في مقاربات التجارة العالمية واستيراد “لقمة العيش” من وراء البحار.

نشرت هذه المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم


[1] ياسين النابلي، “ملفّ الأراضي الدولية: الدولة تمنح الأرض لمَن ينهبها“، موقع نواة، 27 سبتمبر 2016.
[2] عبد الله بن سعد، “كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي“، الحوار المتمدّن، 12 نوفمبر 2015.
[3] المصدر السابق.
[4] غابرييل غانيون، “التعاضد و السياسة و التنمية”، منشورات جامعة مونتريال، 1974، ص. 14.
[5] لطفي بن عيسى، “الاقتصاد الاجتماعي و التضامني و منوال التنمية البديل: الاعتراف و التأسيس و التموقع“، المغرب، 21 أكتوبر 2017.
[6] عبد الله بن سعد، “كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي“، الحوار المتمدّن، 12 نوفمبر 2015.
[7] المصدر السابق.
[8] عبد الله بن سعد، “كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي“، الحوار المتمدّن، 12 نوفمبر 2015.
[9] كرّاس الشروط الخاصّ بكراء ضيعة دولية مُعَدَّة لبعث شركة إحياء وتنمية فلاحية، 21 جوان 2013.
[10] عبد الله بن سعد، “كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي“، الحوار المتمدّن، 12 نوفمبر 2015.
[11] المصدر السابق.
[12] تقرير فلاحتنا هي الحلّ، الاتّحاد التّونسي للفلاحة والصيد البحري، ص. 93.
[13] دائرة المحاسبات، التقرير السنوي الواحد والثلاثون، 2018، ص. 43 و54 و59.
[14] الاطّلاع على دراسة “غذاؤنا، فلاحتنا سيادتنا”، مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية، 2019.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني