اشتباكات عين الحلوة (2): طريق العودة إلى المخيم غير سالكة


2023-09-21    |   

اشتباكات عين الحلوة (2): طريق العودة إلى المخيم غير سالكة
أحد مراكز الايواء في صيدا

يُنهي إعلان وقف النار في مخيّم عين الحلوة يوم غد الجمعة أسبوعه الأوّل والحياة داخله لا تزال تتلمّس إمكانيّة العودة من عدمها. آلاف ممّن نزحوا منه لا يزالون خارجه، بعضهم حاول العودة فلم يجد بيتًا صالحًا للسكن، وإن وجده ففي مدينة أشباح لا دار فيها ولا جار. وبعضهم لا يزال يترقّب سير الأحداث وينتظر إشارات تطمئنه بأنّ لا جولة اشتباكات أخرى تضطّره للركض مع أبنائه تحت القذائف بحثًا عن أقرب مخرج من المخيّم. أمّا من بقي داخله فيسأل عن شكل الحياة بعد جولة الاشتباكات الأخيرة وما ستفرضه من واقع جديد لم تتضح معالمه بعد وقد يكون عنوانه القضاء على الحدّ الأدنى من الأمن والأمان اللذين كانا يتمتّع بهما أهل المخيّم. المخيّم الذي باتت مدارسه ثكنات عسكريّة ومنازل بعض أحيائه متاريس ومخازن أسلحة كما ينقل سكّانه.

لا توجد أرقام دقيقة حول عدد النازحين من المخيّم ولكن مصادر داخله تقدّر أنّ هناك حوالي 10 آلاف نزحوا من المخيّم خلال المعركة الأخيرة وأنّ أكثرهم نزحوا خلال الجولة الثانية، وهو رقم غير مسبوق يُضاف إليه عدد من العائلات التي نزحت داخل المخيّم نفسه وتحديدًا إلى أحياء تعتبر أكثر أمانًا منها الصفصاف والصفّوري والزيب، بحيث يصل مجموع النازحين من بيوت إلى 25 ألف نازح.  

كما تتحدّث المصادر عن دمار غير مسبوق في عدد من الأحياء تحديدًا في الطوارئ والبستان اليهودي وحطّين والطيري ولوبيا ورأس الأحمر، وعن حوالي 300 بيت متضرّر بشكل كبير بالإضافة إلى شبكات المياه والكهرباء والمدارس ومراكز الأونروا الخدماتيّة.

“المفكرة القانونية” التقت نازحين من مخيّم عين الحلوة تحدثوا عن هروبهم من المخيّم وعن مخاوفهم من العودة، بعد أن سبق وزارت مدينة صيدا قبيل بدء سريان وقف إطلاق النار ووقفت عند تداعيات جولتي القتال الأخيرتين عليها وعلى أهلها والنازحين فيها من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين.

مستودع الفوّار حيث يقيم عدد من النازحين 

الخروج كان صعبًا والعودة غير آمنة 

لم تستطع فريدة (40 عامًا) أن تنتظر أكثر من 3 أيام على إعلان وقف إطلاق النار، فقرّرت قبل يوميّن أن تعود هي وأطفالها الأربعة إلى منزلها داخل المخيّم، ولكن وما أن وطأت قدماها حي الطيري حيث منزلها حتى عرفت أنّ زيارتها ستكون خاطفة وأنّ العودة إلى المخيّم لن تكون قريبة.

تشبّه فريدة الأحياء التي مرّت بها بأنّها مدينة أشباح، فالبيوت أو ما تبقى منها خالية من سكّانها، بعضها تحوّل إلى متاريس فُتحت في حيطانه كوّات، وبعضها مليئة بالأسلحة. أمّا حيّها ففارغ إلّا من بعض المسلّحين “لا دار ولا جار” تقول. اقتربت فريدة من منزلها فوجدت باب بيتها مفتوحًا هي التي حرصت جيدًا على إقفاله حين غادرته على عجل تحت النيران في جولة الاشتباكات الثانية. 

قبل أن تدخل فريدة إلى منزلها، أخبرها المسلّحون بأنّ الوضع لا يزال غير آمن طالبين منها عدم تشغيل أي نور ولا حتّى شمعة: “أي نور سأشغّل أصلًا، كلّ شيء متضرّر لا كهرباء ولا ماء في المنزل، وفيه خراب كبير لا يقتصر على الباب المخلوع بسبب القذائف”.

جمعت فريدة بعضًا من أغراضها الأساسيّة من ملابس واحتياجات شخصيّة، وعادت مرّة أخرى إلى حيث كانت نزحت مع بدء جولة الاشتباكات الثانية.

تروي فريدة لـ “المفكرة” كيف مرّت عليها الجولة الأولى حين اختارت ألّا تنزح “لا مكان أذهب إليه، والنزوح رغم كونه أكثر أمانًا إلّا أنّه صعب” تقول. كانت تحتضن أطفالها وتجلس في زاوية في المنزل لا تخرج منها أبدًا، وكانت جارتها ترسل لها طعامًا عبارة عن عرايس لبنة “فالخروج إلى الدكّان لم يكن سهلًا” .

مع بدء الجولة الثانيّة لم تستطع تحمّل الأمر “شعرت أنني سأموت، فصوت القذائف بعد فترة من شبه الاستقرار، أخافني جدًا، لم أحزم حقيبتي، إذ لم أتوقّع أنّ الأمر سيطول”.

لم يكن في بال فريدة أي وجهة تلجأ إليها، خرجت من المخيّم وجلست مع أطفالها جنب مسجد الإمام علي القريب من المستشفى الحكومي الذي كانت تصله القذائف والرصاص الطائش. بعد ساعات أقلّتها سيّارة صودف مرورها من المكان، إلى واحد من المراكز في صيدا خّصّص لاستقبال النازحين.

تجلس فريدة على فراش إسفنجي، تنظر إلى أطفالها يقلّبون فرحين ملابس تبرّعت لهم بها إحدى الجمعيات، تفكّر في إمكانيّة العودة وفي شكل الحياة داخل المخيّم بعد المعركة الأخيرة، تتنفّس بصوت مسموع وتقول: “طريق العودة غير سالك بعد”.

تمامًا كما فريدة لا تتحمّل أم عمر (24 عامًا) وجودها خارج المخيم “نحن زيّ السمك، إذا خرجنا من المخيّم منموت” تقول هي التي اضطرّت للنزوح بعدما أصابت إحدى القذائف منزلها الكائن في منطقة حطّين، مضيفة بصوت مخنوق: “المخيّم ناسه حلوة، كيف ما كانت أحوالك بتعملي طبخة، نحن لا ننتمي إلى أي فصيل، ولكنّنا شعرنا في المعارك الأخيرة وكأنّنا أعداء الجميع، يقصفون بيوتنا ويشرّدوننا، المخيّم ناسه حلوة كتير حلوة، كيف لهم أن يقتلونا”. 

ما أن أعلن وقف إطلاق النار الأوّل الذي سبق الجولة الثانية من الاشتباكات حتى عادتْ أمّ عمر وعائلتها إلى منزلها، بعد أن نزحت إلى منزل أحد أقربائها في صيدا: “كان منزلي لا يزال صالحًا للسكن، كان هناك بعض الأضرار لا سيّما في خزّانات الماء، ولكنّنا عدنا إلى المنزل”.

تتحدّث أم عمر عن المرحلة الفاصلة بين جولتي القتال وتصفها بالصعبة جدًا، فلا هي حرب ولا سلم، توتّر وقلق مستمرّان وخوف لا ينتهي: “كانت حقائبنا جاهزة على باب المنزل، لم نكن نشعر بالأمان ولم نكن نريد أن نهرب بلا أغراضنا كما المرة الأولى، كنّا نتدبّر أمورنا بصعوبة في تلك الفترة” تقول.

لم تطلْ عودة أم عمر, فما أن بدأت المعارك في جولتها الثانية حتى أصابت قذيفة المبنى حيث تسكن، فاضطرّت إلى ترك المنزل مجدّدًا. لم يكن باب المخيّم يومًا بعيدًا مثلما كان في ذلك النهار حسب أم عمر “كانت جميع المخارج مقفلة إلّا مخرج من جهة الحسبة وهو ليس الأقرب لنا، كنّا نركض بين المنازل، نختبئ فيها قليلًا ونكمل طريقنا، نختنق بروائح القذائف، لا أعرف كيف خرجنا سالمين”. تقول.

عند إعلان وقف النار الأخير لم تعد “أم عمر” وعائلتها إلى المنزل: “نِصفُ بيتنا محروق، ونصفه الثاني حيطانه مفسّخة، ثمّ إننا ما عدنا نثق في إعلانات وقف النار، صرفنا ما لدينا من مال، وإذا طالت الحال أكون قد هربت من الموت تحت النار إلى الموت من الجوع” تُضيف.

روى (28 عامًا) أيضًا لم تعد تثق في قرارات وقف إطلاق النار، لا سيّما أنّها لا تستطيع أن تنسى اللحظات الفاصلة بين منزلها في حي الطوارئ وباب جامع الموصلّي في مدينة صيدا.

“إمشي جنب الحيط، أمسكي يد أطفالك، أسرعي، سيري حيث تسير الناس” عبارات تذكر أنّها كانت تسمعها بينما كانت تبحث مع طفليها عن مخرج من المخيّم وأصوات القذائف لا تتوقّف. تذكر كيف شعرت بأنّ الطريق طويل وكيف كانت تركض مع طفليها هي الحامل في شهرها التاسع.

تروي روى كيف استيقظت ذلك اليوم على صوت ابنها (7 سنوات) يصرخ ويطلب منها الخروج من المنزل، كيف وضع بعض ملابسه وملابس أخته ووالدته في كيس حمله معه إلى مركز الإيواء الذي نقلت إليه من جامع الموصلي.

عادت روى إلى منزلها بعد جولة المعارك الأولى، وكانت الحياة حينها شبه مستحيلة. إذ إن الخروج من المنزل كان مخاطرة، ثمّ إنّ الاشتباكات كانت أثّرت على وصول المياه والكهرباء إلى منزلها: “كانت أيام صعبة، كنت أضطر إلى إرسال ابني لملء غالونات المياه من جامع الموصلي” تقول.
حاليًا تُقيم روى في أحد المستودعات في منطقة صيدا التي خُصصت للنازحين وهي لا تعرف حتّى اللحظة إن كان منزلها قد تضرّر أم لا ولكنّ الأخبار التي تصلها تؤكّد بأنّ مئات المنازل في حيّها قد تضرّرت. 

الأمن لم يعد موجودًا بحدّه الأدنى 

لا يختلف اثنان من أهل المخيّم بأنّ الحياة لم تكن يومًا آمنة داخله، ولكنّ سكّانه اعتادوا على الأمن بحدّه الأدنى، حفظوه ويجيدون التأقلم معه، إذ يتجمّعون في حال حصول اشتباكات في غرفة يظنّونها أكثر أمانًا، يبيتون عند أقرباء لهم في أحياء بعيدة عن الاشتباكات داخل المخيم، ومن ثمّ يعودون. “نحن في المخيّم راضيين، والله راضيين، حتى لما يتناوشوا نقعد ببيتنا ما حدا بقرّب علينا، بس القذائف وصلت لنص بيوتنا بالجولة الأخيرة” تقول أم محمد (50 عامًا). تصف أم محمد حياة الفلسطيني داخل المخيّمات بالصعبة، ولكنّها بعد المعارك الأخيرة  أصبحت مستحيلة، فالمعارك أخذت أشكالًا جديدة ومنحى يبدو من الصعب التراجع عنه.

“ما عاد أحد يفكّر فينا نحن المدنيين، حتى عاصمة الشتات يريدون تشتيتها، أولادنا أصلًا مسجونون في المخيّم، لا مستقبل يطمحون إليه، فكيف سيكون الحال بعد اليوم إذا تسلّحوا، لا أحد يعرف”.

 يتحدّث أهالي المخيّم الذين التقتهم “المفكرة” عن مخيّم لم يعد آمنًا، عن حياة كانت تُعاش بأحسن أحوالها بـ “حلاوة الروح” وأصبحت لا تُعاش أبدًا على حدّ تعبير أبو أحمد الذي يخبرنا بأنّ “ما يحصل اليوم غير مسبوق، فالسلاح مكوّم بين المنازل، شبّان يحملون السلاح لأوّل مرّة، شباب صغار أصبحوا مقاتلين إما عبر استقطابهم كونهم عاطلين عن العمل، أو مدفوعين تحت عنوان الحميّة عن أهلهم”.

الأمر نفسه تكرّره سيّدة تجلس على السرير جنب ابنها في إحدى المستشفيات، إذ تخبرنا بأنّ ابنها لطالما كان في حاله ولكنّ انسداد الأفق وضيق الحال يأخذان الشبّان ومنهم ابنها في المخيّم إلى المجهول “المصاري يا خالتي، والفوضى” تقول، وتضيف: “ماذا ربحنا؟ ماذا ربح؟ ها هو مرمي أمامي في المستشفى”.

يؤكّد محمود (19 عامًا) الذي تبدو آثار شظايا الرصاص والقنابل واضحة على جسده، فضلًا عن إصابة في يده اليمنى، أنّها المرّة الأولى التي يُشارك فيها بقتال في حياته، ويقول: “أعمل في مواد البناء أي عمل غير قانوني، لم أحمل السلاح في السابق، ولا حتّى في الجولة الأولى من الاشتباكات، ولكن عندما قتل أصدقائي الآمنون، شعرت أنّ الأمر شخصي، وعليّ أن أدافع عن أهلي أمام قوى تهدّد أمنهم”.

انخراط الشبّان بشكل لافت في القتال يشكّل هاجسًا أساسيًا بالنسبة لعدد من الأمهات اللواتي تقول إحداهن لـ “المفكرة” إنّها لطالما كانت تحثّ ابنها على الصلاة في المسجد ولكن منذ فترة أصبحت تفضّل أن يقيم الصلاة في المنزل، إذ أصبحت بعض المساجد أماكن لتجنيد الشبّان.

من جهة أخرى، يتحدّث بعض أهالي المخيّم عن عنصر أساسي يؤشّر بالنسبة لهم إلى تدهور أمني إضافي ويُشعرهم بعدم أمان غير مسبوق، وهو استقدام مسلحين من خارج المخيّم “ربما من مخيّمات أخرى، المهم مقاتلين غرباء عن المخيّم” تقول إحدى النازحات مضيفة: “في جميع جولات القتال أو المناوشات التي سبقت جولة القتال الأخيرة، لم نلمح أناسًا غرباء. الأمر تغيّر اليوم، في السابق كان المقاتل يعمل حساب للجيرة والقرابة اليوم هو غريب”.

عند الحديث عن الأمن في المخيّم قبل المعارك الأخيرة تروي رؤى (17 عامًا) كيف كان الأطفال يصرخون عند مثلّث المدارس حيث كانت تحصل بعض الاشتباكات وتخبر “المفكرة” أنّها كانت في الصفّ السابع عندما ذُبح شخص بسكّين أمام عينيها وهي خارجة من المدرسة.

تتحدّث كيف يدرّبونهم في المدرسة على التعاطي مع الأطفال زملائهم عند حدوث اشتباكات وعلى كيفيّة الخروج الآمن، وتقول: “إذا كنّا منتدرّب بالمدرسة هيك، فتخايلي الأمن الذي نعيشه نحن”.

وعلى الرغم من كلّ ما تقوله تصرّ رؤى على أنّها ورفاقها يحرصون على متابعة دراستهم التي تبدو غير ممكنة حاليًا بسبب بقاء المسلحين في المدارس، وتضرّر المدارس بشكل كبير الأمر الذي يشكّل عامل قلق بالنسبة لها، وإن كانت تعلم أنّها محرومة وبالقانون من ممارسة عدد من المهن.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني