احترام صاحب العمل يقابله احترام العامل: احتجاز حرية العمّال ولو لساعة يشكّل جرماً جزائياً


2022-08-11    |   

احترام صاحب العمل يقابله احترام العامل: احتجاز حرية العمّال ولو لساعة يشكّل جرماً جزائياً

طرحت في السنوات الأخيرة أمام مجلس العمل التحكيمي في بيروت قضية تخبرنا كثيراً عمّا بلغه منسوب التسلّط لدى عدد من أصحاب وصاحبات العمل. يعود النزاع إلى الفصل الأول من سنة 2018 حين توقفت إحدى الشركات عن دفع أجور عدد من أجرائها، وأوصدت باب مقرّها الكائن في الطابق الرابع، آسرة مواطنيها داخله ومحوّلة إياه وفق وصف إحدى أجيراتها (المدعية في النزاع المذكور) سجناً حقيقياً. وقد صرّحت الشركة أمام المحكمة أنّها فعلت ذلك لرغبتها في إجراء تحقيق مع بعض الأجراء بحجّة تبديدِهم للأموال، رغم أنّ الإقفال سبق زمنياً التحقيق وطال أمده. إذ ذاك تجمّع عدد من الموظفين ومن بينهم المدعية أمام الباب مطالبين بفتحه بعدما ضاقوا ذرعاً بسجنهم، ورفعت الأجيرة مع باقي الموظّفين صوتها مطالبة بفتح الباب. وأقدم موظف في الشركة على طلب الدرك، فتدخّلت قوى الأمن الداخلي وأجرت تحقيقاً في الموضوع. فراجعت الأجيرة المدّعية مديرة الشركة للاستيضاح حول سبب إقفال الأبواب وما يُراد به خفية، فتصدّى لها محامي الشركة وأسمعَها كلاماً اعتبرته غير لائق وأبلغها شفهياً وهو يصرخ أنّها مصروفة من العمل. وفي حين وجّهت الأجيرة تبعاً لذلك كتاباً إلى الشركة استنكرت فيه صرفها التعسّفي من العمل، مطالبة بتسديد حقوقها المستحقة لها، أبلغت الشركة الأجيرة بعد أيام من الحادث أنّه تمّ صرفها على أساس المادة 74 من قانون العمل التي تجيز لصاحب العمل صرف أجير/ة من دون إنذار أو تعويض في حال ارتكابه/ها خطأ. وقد اعتبرت الشركة أنّ خطأها يتأتّى بشكل خاص من الصراخ الذي أطلقته ضد الشركة بعد إقفال بابها.

وإذ ادّعت الأجيرة مطالبة بتعويض جرّاء صرفها تعسفياً، أدلت الشركة أنّها اكتشفت في الفترة السابقة أنّ بعض الموظّفين في القسم المالي يقومون بتبديد أموالها عن طريق الاحتيال وإساءة الأمانة والتزوير، وقد أتلفوا مستندات مالية، فقرّرت مواجهتهم بما لديها من أدلة، وطلبت من مكتب متخصص في التدقيق المحاسبي أن يَحضر أيضاً كشاهد ويستلم ما تبقى من مستندات غير متلفة، وأنّها أقفلت الباب الرئيسي للطابق الرابع لحصر حركة الدخول والخروج من الشركة. وتابعت أنّ الأجيرة المدّعية أقدمت “لأسباب مجهولة وبطريقة هستيرية على الصراخ والشتم والتهديد بخلع باب الطابق الرابع إن لم تبادر الشركة إلى فتحه خلال ثلاث دقائق، وأنه عندما لم تنجح محاولات تهدئة المدّعية، دعتها المديرة إلى أحد مكاتب الشركة لاستيضاحها حول أسباب تصرّفاتها غير المبررة، وشُرح لها بأنّ الباب تمّ إقفاله لأسباب تقنية ولفترة قصيرة جداً…، إلّا أنّها استمرّت بالصراخ والتهجّم على مديرة الشركة، فتمّ إعلامها عندها بفسخ عقد عملها، وأنّه نتيجة اتصال هاتفي مجهول بالقوى الأمنية حضرت هذه الأخيرة وحققت في الموضوع وتأكدت من عدم وجود أية مخالفة”، دائماً بحسب الشركة. واستندت الأخيرة على “أنّ الاجتهاد اعتبَر تفوّه الأجير بعبارات نابية بحق صاحب العمل هو نوع من الاعتداء، وأن صراخ وتهديدات المدّعية على مسمع من بقية الموظّفين والشهود يشكل اعتداءً واضحاً عليها ويوجب تطبيق المادة 74 فقرة 7 بحقها، إذ أنّ إخلال الأجير بواجبَي الطاعة والاحترام من شأنه الإخلال بهيبة صاحب العمل في مؤسسته”، ويسيء إلى حسن سير أعمال المؤسسة وازدهارها، ويجيز له إنهاء خدمات الأجيرة من دون إنذار مسبق.

تبعاً لذلك، حسمت الغرفة الأولى[1] في مجلس العمل التحكيمي في بيروت برئاسة القاضية زينة بطرس في 16/6/2020 القضية لصالح الأجيرة. وقد اعتبرت أنّ إقفال الباب من قبل الشركة من “دون توضيح السبب، خلق جوّاً من الضغط النفسي والتوتر الشديد لديهم (الموظفين)، بدليل أنّ أحدهم وهو من أقدم الموظفين في الشركة قد طلب القوى الأمنية التي حضرت فعلاً إلى المكان…”. كما اعتبرت أنّ “إقفال الباب في الظروف المذكورة أعلاه من شأنه أن يستثير غضب الموظفين المبرّر، بالإضافة إلى أنّ احتجاز الحرية وإن كان لساعة واحدة أمر غير مقبول مهما كانت الأسباب ويشكّل جرماً يعاقب عليه القانون، وكان من الممكن الاستعاضة عنه بإجراءات أخرى من شأنها تأمين الأهداف من دون الافتئات من حرية التنقل”، و”أنه لم يثبت أنّ المدعية وجّهت السباب والكلام النابي إلى مديرة الشركة، بل إن الشاهدَين أفادا أنّها بدأت بالصراخ والتهديد بخلع الباب إن لم يُفتح ضمن مهلة ثلاث دقائق”، وبأنّه “وعلى فرض تصرّفها بطريقة هستيرية إلّا أنّ ذلك لا يعتبر اعتداء بمفهوم المادة 74 عمل، طالما يجد مبرّره في الظروف التي أوجدها رب العمل وتسبّب بها، الأمر الذي يجعله هو المسؤول عن فسخ عقد العمل ولا تكون شروط المادة 74 فقرة 7 عمل متحققة”.

هذا الحكم يستدعي الملاحظات الآتية:

أوّلاً، إنّه يعيد بعض التوازن إلى العلاقة بين الأجراء والأجيرات وأصحاب وصاحبات العمل. فموجب احترام الأجراء لأصحاب العمل ليس مطلقاً بل يرتبط بمدى احترام هؤلاء لحقوقهم. وعليه، فإنّه يكون على المحكمة أن تتحرّى عما إذا كان أيّ تهجّم من الموظف (حتى ولو وصل إلى السباب والكلام النابي أو الهستيريا) على صاحب العمل مبرراً بتصرّفات هذا الأخير أو الظروف التي أوجدها أو تسبّب بها. وكانت محكمة التمييز ذهبتْ في سنة 2018 في هذا الاتجاه في إحدى القضايا العمالية المتفرّعة عن قضية نقابة عمال “سبينس”. ففي حين برّرت الشركة صرف أحد النقابيين بتوزيع مناشير مسيئة لسمعتها، رأت المحكمة أنّ المناشير “التي جرى توزيعها عرضت مسائل تتعلق بالعلاقة بين (الشركة) وعمّالها وسلطت الضوء على ما يواجه هؤلاء من مشاكل كعدم التصريح عن البعض لدى الضمان الإجتماعي ومعاقبتهم بسبب إنشاء نقابة لهم وفصل بعضهم تعسفياً” لتخلص إلى القول بأنّ المناشير المدّعى بها شكّلت وسيلة سلمية لجأ إليها الأجراء […] للتعبير عن وضعهم الوظيفي والمعيشي وذلك ضمن حدود حرية التعبير والرأي المصانة قانوناً.

ثانيا، إنّه يشكّل حالة تطبيقية للقاعدة التي تسمح للعامِلة بترك العمل مع تحميل صاحب العمل مسؤوليته، وتحديداً في حال ارتكاب صاحب العمل أعمال عنف بحقّها، سنداً للمادة 75 من قانون العمل.

ثالثاً، إنّه يكرّس أهمية الحرية الشخصية للعامل وتحديداً حرية التنقل. وإذ اعتبر الحكم أنّ احتجاز الحرية وإن كان لساعة واحدة أمرٌ غير مقبول مهما كانت الأسباب ويشكّل جرماً يعاقب عليه القانون، من الملفت أنّ إدانته لهكذا تصرفات جاءت مطلقة لتشمل جميع علاقات العمل وليس فقط العلاقات الخاضعة لقانون العمل. ومن شأن ذلك أن يؤسس لتطورات لاحقة في قضايا عاملات المنازل المهاجرات اللواتي يتمّ حجز حريّتهنّ بانتظام داخل المنازل حيث يُقِمن ويعملن. وللدلالة على أهمية ذلك، يكفي التذكير بالمعطيات التي توصّلت إليها دراسة للجامعة الأميركية بالتعاون مع منظمة العمل الدولية تبعاً لاستجواب عيّنة واسعة من مستخدمي عاملات مهاجرات، ومنها أنّ ما يناهز 94% من هؤلاء صرّحوا بأنّهم يحتفظون بجواز سفر العاملة، وأنّ 25% منهم على الأكثر صرّحوا بأنّهم يسمحون بخروج العاملة بمفردها في يوم راحتها الأسبوعيّة، وأن نسبة الذين صرّحوا أنهم يقفلون على العاملة باب المنزل ناهزت 23.6%. كما يجدر ختاماً التذكير بالحكمين 1 و 2 اللذين أصدرهما قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف وقد جاء فيهما حرفياً أنّ “أيّ تقييد لحرية التنقل، “لا يمكن أن يتمّ إلّا استثنائياً وبموجب نصّ قانوني، ومن قبل جهة رسميّة، تحت رقابة المحاكم”، معتبراً أنّ الممارسة القائمة إنّما تشكّل تمييزاً عنصرياً وجندرياً مخالفاً لتعهدات لبنان الدوليّة.

قادت المفكرة القانونية بإنتاج هذه المواد. هذا المنتج هو جزء من مواد شبكة عملي، حقوقي! وهي شبكة تضمّ منظمات المجتمع المدني تعمل على تحقيق العدالة والحماية الاجتماعية والقانونية الشاملة لا سيّما الحماية للأفراد العاملين في سوق العمل النظامي وغير النظامي في لبنان، بما يتوافق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان وقانون العمل اللبناني ومعايير العمل الدولية.

تدعم منظمة أوكسفام الشبكة وينسقها المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين بالتنسيق مع المفكرة القانونية في إطار مشروع “تعزيز العمل اللائق وتنمية الأعمال المستدامة في البقاع، لبنان.”

تم إنتاج هذه المواد بدعم مادي من البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية لدعم لبنان، الأردن والعراق (RDPP II) وهو مبادرة أوروبية مشتركة بدعم من جمهورية التشيك، الدنمارك، الاتحاد الأوروبي، ايرلندا وسويسرا. تمثل هذه المواد آراء شبكة عملي، حقوقي! ولا تعكس بالضرورة سياسات أو آراء منظمة أوكسفام أو المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين أو البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية أو الجهات المانحة له.


[1] م.ع.ت بيروت الغرفة الأولى برئاسة القاضية زينة بطرس، قرار رقم 318/2020، تاريخ 16/6/2020

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، محاكم إدارية ، سلطات إدارية ، قرارات قضائية ، حرية التنقل ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني