إلغاء مزايدة السوق الحرة: هيئة الشراء العام تفرض دورها


2022-11-05    |   

إلغاء مزايدة السوق الحرة: هيئة الشراء العام تفرض دورها

شكّل إلغاء مزايدة السوق الحرة في مطار بيروت أول نجاحات هيئة الشراء العام التي تمكّنت من تصويب مسار مزايدة كانت ستؤدي إلى تفويت أموال طائلة على الخزينة. وبالرغم من أن الهيئة لا تملك سلطة تسمح لها بتعديل دفاتر الشروط أو إلغاء المناقصات أو المزايدات، إلا أن تدقيقها في الملف بعد إعلان الملتزم المؤقت، ساهم عملياً في اتخاذ وزير الأشغال العامة علي حمية قرار إلغاء المزايدة في 2 تشرين الثاني والطلب من مديرية الطيران المدني المباشرة بإجراءات إعادة التلزيم وفقاً لملاحظات الهيئة.

وعليه، فإن المزايدة المقبلة ستكون الثالثة من نوعها. فبعد فشل الدورة الأولى من المزايدة، في 13 تموز الماضي، بسبب ورود عرض وحيد (أجريت في إدارة المناقصات لأن قانون الشراء العام لم يكن قد دخل حيز التنفيذ)، تمكّنت وزارة الأشغال في الدورة الثانية، التي عقدت في 27 أيلول الماضي، أي بعد نحو شهرين من بدء العمل بقانون الشراء العام (29 تموز 2022) من إنجازها وإرساء التلزيم على الشركة المشغّلة للسوق الحرة حالياً، أي شركة “باك ديوتي فري” التي يملكها صاحب الأعمال محمد زيدان. آنذاك احتفل وزير الأشغال علي حمية بهذا “النجاح”، معتبراً أن عائدات هذا المرفق ارتفعت من نحو 150 مليار ليرة في العقد السابق إلى 1900 مليار ليرة حالياً. وقد بدا لافتاً تعمّده إغفال حقيقة أن ال150 مليار ليرة كانت تساوي 100 مليون دولار، بينما ال1900 مليار ليرة تساوي أقل من 50 مليون دولار حالياً. علماً أن هذا التراجع في إيرادات الدولة لم يكن مبرراً، بعدما عادت حركة المسافرين إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، وفي ظل تسعير كل المنتجات في السوق الحرّة بالدولار الأميركي أو ما يوازيه بالليرة على سعر الصرف في السوق السوداء. أضف إلى أن الاستمرار في تدهور سعر صرف الليرة كان سيؤدي إلى تبخّر قيمة المبلغ المقطوع الذي تحصل عليه الإدارة سنوياً، وزيادة أرباح المستثمر على حساب المال العام.

هذا التراجع عزّزه أولاً تحديد سعر افتتاح متدنّ أصلاً، هو 800 مليار ليرة، أي نحو 20 مليون دولار فقط (يضاف إليها علاوة بقيمة 3.5 دولار عن كل راكب)، وثانياً غياب المنافسة الجدية واستمرار قلق الشركات العالمية من الاستثمار في لبنان. ولذلك كانت المشاركة في المزايدة محلية فقط، بالرغم من سحب دفتر الشروط من شركات عالمية. وبعد أن قدّمت شركة زيدان وحدها عرضاً في الدورة الأولى، انضمت إليها في الدورة الثانية شركة “إنتر وورلد” (تدير السوق الحرة في مرفأ بيروت). وبالفعل، تبيّن للجنة التلزيم أن العرضين مقبولان شكلاً لتوافقهما مع دفتر الشروط، ففتح الملف المالي لكل منهما. وبالنتيجة، فازت “باك” بفارق ضئيل، إذ قدّمت “إنتر وورلد” عرضاً بقيمة ألف مليار ليرة، فيما قدّمت “باك” عرضاً بقيمة 1120 مليار ليرة (يضاف إليها 3.5 دولار عن كل راكب).

في هذا السياق، كانت الوزارة تغاضت عن اقتراح هيئة الشراء العام تحديد أسعار الافتتاح بالدولار، وهو ما يجيزه قانونها في المادة 5 منه (يحدد دفتر الشروط عملة العقد وكيفية المحاسبة في العقود بالعملة الأجنبية)، طالما أن الإيرادات تُحصّل بالدولار. هذه الخطوة كان يمكن أن تضمن محافظة الأموال التي تتقاضاها الخزينة على قيمتها في ظل الانهيار المُستمّر لسعر صرف الليرة اللبنانية، إلا أن الوزارة، وبشكل أدق، مديرية الطيران المدني، رفضت ذلك، مكتفية بإبقاء العلاوة وحدها بالدولار، كما كانت سابقاً. أما لجنة التلزيم فقد رفضت بدورها الأخذ برأي مندوب هيئة الشراء العام عمر البرّاج، الذي اعتبر أن عرض شركة “إنتر وورلد” لا يتضمن الضمانات المالية المطلوبة، مشيراً إلى أن المادة الثانية من دفتر الشروط لا ينطبق على ما جاء في نص الإفادة المالية التي قدمها الخبير المحلف، وبالتالي فإن العرض رقم 1 (“انتر وورلد”) يعتبر مرفوضاً شكلاً. وقد أعطى استكمال إجراءات فضّ العروض الشرعية للمزايدة التي أكدت بقاء شركة “باك” في إدارة السوق الحرة لأربع سنوات جديدة.

المزايدة تلك كانت أول صفقة كبرى تنفذ على أساس قانون الشراء العام، الذي ينص على إجراء المزايدة أو المناقصة في الإدارة المعنية، بحضور ممثل عن هيئة الشراء العام، المسؤولة عن الإشراف على كل الصفقات العامة. وهو ما حدث فعلاً. القانون نفسه ينص، في المادة 24 منه، على تجميد المزايدة أو المناقصة لمدة عشرة أيام من تاريخ النشر، بحيث تُعتبر بمثابة فرصة لمن يرغب بالاعتراض سواء أمام قضاء العجلة أو ديوان المحاسبة او غيرهما، علماً أن هذه المهلة لا تنطبق على هيئة الشراء. في هذا الوقت، أي في 29 أيلول، طلب رئيس هيئة الشراء جان العلية ملف المزايدة لدراسته أيضاً، وهو إجراء روتيني يُتوقع أن تلجأ إليه الهيئة في الصفقات الكبرى. وقد استلمته في 12 تشرين الأول، لتردّ في 18 من الشهر نفسه بكتاب موجه إلى المديرية العامة للطيران المدني، يؤكد ما خلص إليه مندوب الهيئة في لجنة التلزيم، إذ أشار العلية إلى أن العرض رقم 1 (“انتر وورلد”) احتوى على شهادة بقيمة 60 مليون دولار ليس للشركة نفسها ولكن للمجموعة التي تنتمي إليها. وبالتالي فإن قبول إفادة الخبرة الصادرة عن مدقق حسابات الشركة لا يقع في محله الصحيح وهو يُخالف أحكام دفاتر الشروط الخاصة ومبدأ التنفيذ الشخصي للعقود الإدارية، بالإضافة إلى أن مدقّق الحسابات لم يقدم إثباتاً على أنه يدقق حسابات المجموعة وانتهت إفادته إلى عدم مسؤوليته عن الإفادة التي يدلي بها ما يفقدها قوتها الثبوتية. وبالتالي، كان ينبغي على لجنة التلزيم أن تعتبر أنّه لم يقدم سوى عرض واحد مقبول. ولذلك، طالب العلية بإعادة النظر في قبول لجنة التلزيم للعرض الأول، كما دعا إلى إعادة النظر بقرار وزير الأشغال إعلان الملتزم المؤقت، بسبب ورود عرض وحيد.

في اليوم اللاحق، حوّل حمية كتاب الهيئة إلى مديرية الطيران الوطني طالباً إحالة كامل الملف مجدداً إلى لجنة التلزيم على أن “تجتمع بكامل أعضائها بحضور مندوب هيئة الشراء لدرس الملاحظات الواردة في الكتاب”. وبالفعل، اجتمعت اللجنة، في 25 تشرين الأول، وأعادت التأكيد أن الشركة لا تنتمي لأي مجموعة، كما أوضح ممثلوها، وأن الالتباس الذي حصل سببه إفادة مدقق الحسابات التي ذكر فيها أنه مدقق حسابات مجموعة “إنتر وولرد”. وقد أجاب ممثلو الشركة على هذا الأمر بأن الشركة تدير مناطق حرة في مرفأ بيروت ومرفأ طرابلس ولدى القوات الدولية ولأن مدقق الحسابات يدقق حساباتها جميعها فقد اعتبرها “مجموعة”، ولكنها كلها تتبع للعارض رقم 1. وبناء عليه، أكدت اللجنة بجميع أعضائها (الرئيس سعيد الغرلي والعضوين عيسى كمال وطوني عساف) أن ما جرى في جلسة التلزيم كان موافقاً لجميع النقاط الواردة في دفتر الشروط وفق اختصاصها واطلاعها وأن اللجنة كانت شديدة الحرص على الأخذ بجميع ملاحظات مندوب هيئة الشراء”.

رغم ذلك، قرر وزير الأشغال إلغاء المزايدة سنداً للمادة 25 من قانون الشراء العام، التي تنص في الفقرة “أ” منها على إمكانية إلغاء الشراء أو أي من إجراءاته في أي وقت قبل إبلاغ الملتزم المؤقت إبرام العقد عندما تجد الجهة الشارية ضرورة إحداث تغييرات جوهرية غير متوقعة على ملفات التلزيم بعد الإعلان عن الشراء”. واعتبر أن الهدف الأسمى للوزارة هو تحقيق أعلى مردود ورفد الخزينة العامة بما يؤمن موارد هامة في ظل العجز المالي في الموارد القائمة. وقد تبين للوزارة التفاوت الكبير في أسعار صرف الدولار ما بين تاريخ إعداد دفتر الشروط في آذار 2022 (23 ألف ليرة) وتاريخ إرساء الالتزام المؤقت (38 ألف ليرة)، ليخلص إلى أن التفاوت الكبير في سعر الدولار من شأنه إحداث تغيير جوهري غير متوقع على ملف التلزيم بعد الإعلان عن الشراء. وأكد على وجوب أن يتمّ إعادة النظر بسعر الافتتاح في المزايدة الجديدة وتحديده بالدولار الأميركي.

يذكر أن رئيس هيئة الشراء كان أصدر في 13 تشرين الأول 2022 توصية إلى كل المعنيين بعمليات الشراء بإعادة تخمين كل عقود الاستثمار بالعملة الأجنبية نظراً للانخفاض الحاصل في سعر صرف الليرة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني