إعلان ميلاد “جمهوريّة جديدة” في مصر: ما المقصود؟


2021-08-18    |   

إعلان ميلاد “جمهوريّة جديدة” في مصر: ما المقصود؟
صورة للرئيس السيسي من مؤتمر إطلاق مشروع "حياة كريمة" (بوابة الأهرام)

منذ مارس 2021 انتشر مصطلح “الجمهوريّة الجديدة” وحظي بقدر كبير من التغطية الإعلامية والجدل العامّ. ظهر المصطلح على الساحة بأشكال عدّة، منها “وسم” (هاشتاج) ظهر بشكل شبه متواصل على القنوات المصرية[1]. كما تمّت مشاركة الوسم على وسائل التواصل الاجتماعي وتداوله في الصحافة والبرامج الحوارية.

ارتبط المصطلح بثلاثة أحداث:

أوّلها خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في الندوة التثقيفية الـ33 للقوّات المسلَّحة في مارس 2021 الذي أعلن فيه عن أهمّيّة افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة الذي أُجِّلَ بسبب الظروف التي فرضتها جائحة الكورونا. وفقاً له، لن يكون الافتتاح مجرّد حدث عابر، ولكنه سيكون ميلاد دولة جديدة بافتتاح العاصمة الجديدة… إعلان جمهوريّة ثانية.

ثانياً تردَّد المصطلح مع اقتراب الذكرى الثامنة لثورة 30 يونيو، والسابعة لتولّي السيسي حكم البلاد، يرافقه رصد للإنجازات وما تمّ تحقيقه في مختلِف المجالات ممّا غيّر معالم البلاد لتصبح “جمهوريّة جديدة”.

وأخيراً تجدَّد ذكر المصطلح في مؤتمَر تدشين المشروع القومي “حياة كريمة” في 15 يوليو 2021. وما بدأ كمبادرة رئاسية لتنمية القرى ليتطوَّر إلى مشروع قومي متكامل تمّ إطلاقه في مؤتمَر حاشد ردَّد فيه الرئيس السيسي مصطلح “الجمهوريّة الجديدة” في خطبته: “أجدِّد معكم العهد وأَصدقُكم الوعد بأن نبدأ جمهوريّتنا الجديدة المولودة من رحم ثورتكم العظيمة في 30 يونيو“. كما انتهى المؤتمَر بإعلان تدشين ما سُمِّيَ اتّحاد شباب الجمهوريّة الجديدة.

لا شكّ إذاً بوجود محاولات واضحة لتوجيه رسالة إلى المواطنين مفادها أنّ مرحلة جديدة بدأت منذ يونيو 2013 وهي مستمرّة. تناولت وسائل الإعلام[2] هذه الرسالة، كلٌّ بحسب موقعه: فمن ناحية، نجد المصادر التي تبنّت المصطلح وأشادت بالجمهوريّة الجديدة والإنجازات التي غيّرت واقع المواطن المصري سواء بشكل عامّ[3] أو في قضايا محدَّدة مثل العشوائيات. ومن ناحية أخرى نجد الأصوات المعارِضة التي ركَّزت على الجوانب السلبية للمشاريع القومية أو على التضييق السياسي في البلاد. وفي الوسط نجد أصواتاً حاولت عرض كلٍّ من الإنجازات والتحدّيات أو تحليل المفهوم والخطاب الإعلامي وراءه.

ونظراً إلى هذا الزخم حول “الجمهوريّة الجديدة”، يتوقّف هذا المقال أمام المصطلح ويسعى إلى تفكيكه بعيداً عن تقييمه. فنبدأ بالتساؤل عن معنى مصطلح “الجمهورية الجديدة” ونشير إلى بعض جوانب الغموض الناتج عن استيراده من التاريخ السياسي الفرنسي. ثم ننتقل إلى التساؤل عن الجديد في هذه المرحلة وفي رؤية الإدارة الحالية، وما يميّزها عمّا سبقها من أنظمة وإدارات. وننتهي أخيراً إلى اقتراح أهمّيّة النظر بعيون جديدة إلى ما تخلقه “الجمهوريّة الجديدة” في علاقة المواطن بالدولة.

 

1. الغموض في نقل فكرة الجمهوريّة الجديدة في السياق المصري

على الرغم من أنّ اسمها “جمهوريّة مصر العربية” وأنّها جمهوريّة منذ 1953 إنّ مصطلح الجمهوريّة غير مألوف في الخطاب السياسي المصري، بخاصّة فيما يتعلّق بربط فكرة التغيير السياسي ببدء جمهوريّة جديدة. تناول المعلِّقون الأصل الفرنسي للمصطلح منذ الاستخدام الأوّل له، ومنهم مَن اتَّخذ المقارنة مع فرنسا أساساً للنقد مثل د. محمد البرادعي الذي أشار إلى أنّ الانتقال إلى جمهوريّة جديدة يتطلّب “تغييراً شاملاً لشكل نظام الحكم والدستور” بينما في رأيه “ما زلنا في مصر نعيش بامتياز في ظلّ الجمهوريّة الأولى منذ عام 1954. تغيَّرت الدساتير ولكن ما زال نظام الحكم واحداً.”

نرى، بعكس التعليقات المنتقدة، أنّ هذا المصطلح المستورَد قابل للتطبيق ويتناسب بقدر كبير مع وصف الوضع الحالي وإن كان يخلق بعض الغموض. فإذا نظرنا إلى فرنسا نجد أنّ إعلان جمهوريّة جديدة ينتج عن: حدث سياسي[4] مؤسِّس، يليه[5] كتابة دستور جديد يُعيد تشكيل النظام السياسي[6]. وبالقياس، من الممكن أن نقول إنّ في مصر جمهوريّة جديدة لأنّه كان هناك حدث سياسي مؤسِّس: ثورة 30 يونيو 2013 (يعقبها التدخُّل العسكري في 3 يوليو 2013) تلاه استفتاء على دستور (المعروف الآن بدستور 2014) منشئ لنظام جديد. لكن هنا أيضاً يظهر الغموض في تحديد في أيّ جمهوريّة نحن وما هي الجمهوريّة السابقة؟

تحدّث السيسي في خطاب مارس 2021 عن “إعلان جمهوريّة ثانية.” وهنا قد يكون المقصود المعنى الحرفي أنّها الثانية بعد الأولى أو قد يكون المقصود المعنى الدارج في العامّيّة المصرية (جمهوريّة تانية أي أنّها مختلفة تماماً عمّا سبقها) وفي الحالتين هناك أسئلة عدّة.

فإذا اعتبرنا أنّ كلمة “جمهوريّة ثانية” لها معنى حرفي: هنا تكون الأولى هي الجمهوريّة التي أُعلنت سنة 1953 بعد ثورة 1952 وحركة الضبّاط الأحرار. إنّ هذا المعنى يُعيد للذّهن المقارنة التي قام بها البعض بين السيسي وجمال عبد الناصر في بدايات تأسيس دولة 30 يونيو[7]. ويستوي الأمر أكثر إذا ركّزنا على عامل تدخّل الجيش لإرساء قواعد نظام سياسي جديد، حيث من الممكن أن نعتبر كلّاً من يوليو 1952 ويونيو/يوليو 2013 الأحداث المؤسِّسة لجمهوريَّتَيْ مصر. لكنْ يظلّ المصطلح الغالب على التغطية الإعلامية هو “الجمهوريّة الجديدة” وليس “الجمهوريّة الثانية” ممّا يرجّح أنّ المقصود بجمهوريّة ثانية هو المعنى الدارج أي أنّها مختلفة.

فما هي إذاً الجمهوريّات التي عبرت على مصر وفقاً لهذه الرواية؟ يرى البعض أنّ الجمهوريّة الأولى هي التي أسَّستها ثورة 23 يوليو 1952 والثانية هي التي أسَّستها ثورة التصحيح التي قام بها السادات وأفرزت دستور 1971 والجمهوريّة الثالثة هي إذاً التي أسَّستها ثورة 30 يونيو ويعبِّر عنها دستور 2014.

في هذه الحالة تأتي 2011-2012 كحلقة مفقودة إذ يختفي حدث سياسي كبير وهو ثورة 25 يناير 2011 ودستور كامل هو دستور 2012 عن رواية “الجمهوريّة الجديدة”. إنّ رصد “الجمهوريّات” يغفل دستور 2012 الذي، وإن تمّ تفعيله لمدّة سنة واحدة، كان دستوراً أُقِرَّ بعد استفتاء شعبي وقد تمّ إدماج بعض موادّه في نصّ دستور 2014. كما يجب التساؤل أيضاً عن دور ثورة 25 يناير كحدث مؤسِّس في هذه الجمهوريّة الجديدة. فإذا كانت ديباجة دستور 2014 تدمج ثورتَيْ 25 يناير و30 يونيو باعتبار الواحدة امتداداً للأخرى[8] وتعتبر هذا الدستور “دستور ثورتنا” أي أنّ الحدثَيْن جزء من ثورة واحدة إنّ 25 يناير إن ظهرت في محض الحديث عن الجمهوريّة الجديدة فهي تظهر كسقطة أو كبوة أصلحها الحدث الأهمّ، ثورة 30 يونيو.

يبدو إذاً أنّ الرسالة المقصودة وراء فكرة “الجمهوريّة الثانية” أو حتّى “الجمهورية الجديدة” لا تتوقّف كثيراً عند المعنى الدقيق والمباشِر لفكرة التغيير الدستوري والسياسي الذي يأتي بعد حدث مؤسِّس بقدر ما هو معنى رمزي للمصطلح. لكن هنا أيضاً، نواجه مستوى من الغموض في استخدام المصطلح. فأحياناً تظهر الجمهوريّة الجديدة كفاعل مثل “الجمهورية الجديدة تربح معركتها ضد العشوائيات أو الجمهورية الجديدة تواصل التنمية الشاملة“، وأحياناً تظهر معبِّرة عن فكرة مرحلة جديدة أو وضع جديد وأحياناً كنظام جديد بمعنى نظام حكم أو كيان جديد. يتكرّر هذا الغموض في كيان “اتّحاد شباب الجمهوريّة الجديدة”. وبينما تبدو الفكرة نفسها واضحة، أي خلق مظلّة لتنسيق جهود أفراد وكيانات تسعى إلى الهدف نفسه (حتّى الآن الفئات المنضمّة تشمل مجموعات شبابية موجودة داخل كيانات أخرى تابعة للدولة، مثل الأكاديمية الوطنية للتدريب والبرنامج الرئاسي والمؤتمَر الوطني للشباب وحياة كريمة)، يبقى ربطها بالجمهوريّة الجديدة هو غير الواضح. فهل هو اتّحاد شباب يعمل في ظلّ الجمهوريّة الجديدة أم يهدف إلى تحقيق أهداف الجمهوريّة الجديدة؟ أم اتّحاد يعبّر عن المرحلة الجديدة؟ هذا الإبهام يؤكّد لنا أنّ الكلمة المفتاحية في هذا المصطلح هي صفة “الجديدة” وأنّ النقطة الأساسية في الرسالة الموجَّهة هي أنّنا بصدد تجديد وتغيير عميق بدأ وسيستمرّ. تشتبك الفقرة التالية مع هذه الفكرة، وبعيداً عن الإشادة والنقد، نأخذ بجدّية فكرة التجديد ونفكّك أوجه التميّز في النظام الحالي والإدارة الحالية عمّا سبقها.

2. ما “الجديد” في الجمهوريّة الجديدة؟

تركّز الخطابات الرسمية والإعلامية على فكرة البناء والتطوير والتنمية وتحقيق تقدُّم وإنجازات في المجالات المختلفة وأهمّها: الاقتصاد والبنية التحتية والأمن القومي والسلم الاجتماعي والمؤسَّسات السياسية. نهدف هنا إلى الابتعاد عن فكرة الإنجازات أو التحقيق لنتعرَّف على بعض ما هو جديد في رؤية هذه الإدارة.

نظرة جديدة للمساحة التي تغطّيها الدولة

في خطابه في مارس 2021 عند إعلان الجمهوريّة الجديدة ركّز السيسي على أهمّيّة المشاريع الهندسية التي تقوم بها الدولة فيقول “مصر فيها 100 مليون مصري، كمان مساحتها 100 مليون كم2، لكن فيه حجم من الأراضي إحنا مش عايشين عليه (…) إحنا بنتحرك في الجديد والقديم. الموضوع مش مباني بس. ده تطوّر كبير إحنا بنعمله”. تظهر هنا معالم تفكير جديد وطموح جديد يتميّز به النظام الحالي عن سابقيه. فمشاريع البناء وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة تأتي ضمن توجُّه لإعادة تشكيل المساحة الجغرافية للدولة وإعادة توزيع المواطنين عليها. هذا التوجّه يفسّر محوريّة مشروعات التخطيط العمراني ورفض أيّ مقاومة من المواطنين “للتطوير”. يصاحب إعادة التشكيل العمراني والجغرافي إعادة تصوُّر جذرية لتواجد الدولة ومساحة تغطيتها (مساحة بالمعنى الحرفي أي انتشارها على الأرض ومساحة بالمعنى الرمزي أي تواجد الدولة وسط المواطنين) نراه في كمّ وحجم المشاريع القومية ومستوى التغطية.

فئات جديدة دخلت في خطاب الدولة والسياسات العامّة

أحد أهم العوامل في الجمهورية الجديدة ظهور فئات كانت غائبة عن سابقاتها في الخطاب الرسمي وعلى أجندة السياسات العامّة. وإذا كانت فئات “المرأة” و”الشباب” هي الفئات التي كثيراً ما يحتفي بها الإعلام فالحقيقة أنها كانت موجودة بوضوح في خطابات وسياسات الأنظمة السابقة[9]. لكن لا شكّ أيضاً أنّ السياسات المستهدِفة للشباب، كما سنوضح أدناه، وللمرأة قد تطوَّرت كثيراً في الحجم والكمّ والاستمراريّة والانتشار. لكنّ الجديد بالفعل في المرحلة الحالية هو الاهتمام الظاهر بـ”ذوي الإعاقة”، فللمرّة الأولى تحظى هذه الفئة بسياسات مُمنهَجة وتركيز ملحوظ من الخطاب الرسمي والإعلامي ما بين دعم وتمثيل وبرامج مختلِفة. على سبيل المثال، نجد أنّ مع دستور 2014 “بدأ تفعيل موادّ وقوانين خاصّة بذوي الإعاقة وتمّ إضافة محور التمييز على أساس الإعاقة وإنشاء المجلس القومي لشؤون ذوي الإعاقة[10] وقانون 2018 لإنفاذ حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة”[11]. بالإضافة إلى ظهور واضح لهذه الفئة في خطاب الدولة حيث تُولِي أحداث واحتفاليّات ومؤتمَرات اهتماماً ملحوظاً بقضاياهم. من الملاحَظ أيضاً وجود تركيز مميَّز مع فئة “الرياضيين” إذ ظهرت ممارسة الرياضة في المادّة 84 من دستور2014 مع التأكيد على دور الدولة بتنظيم شؤون الرياضة والهيئات الرياضية وإصدار قانون الرياضة لسنة 2017[12]. وبدون الغوص في كثير من التفاصيل لجهة مدى حرص أنظمة سابقة على الرياضة لاستقطاب الشباب، وعلى الأخصّ نظام مبارك الذي أقام العديد من الأحداث الرياضية وحتّى طمح في استضافة دورة أوليمبية في مصر. يبدو أنّ النظام الحالي يهتمّ برياضات متعدِّدة في ظلّ تشجيع ملحوظ للتركيز الإعلامي على مختلِف الرياضيين[13]. وأخيراً ظهر اهتمام جديد أيضاً بفئة “سكّان القرى” أي سكّان الريف في إطار برنامج حياة كريمة.

 

استقطاب مساحة السياسة في المجتمع وإعادة تشكيلها كحيّز داعم للدولة

لا شكّ أنّ منذ 2013 إلى الآن كان هناك استقطاب واضح وممنهج لكلّ مساحات السياسة في المجتمع بخاصّة لِما تكوَّن منها إثر ثورة 2011. وقد تمّ استخدام العنف لإقصاء الفاعلين مِمَّن لم يمكن استقطابهم. لكنْ، على مدار السنين الماضية، اتّضح توجُّه لإيجاد حيِّز سياسي جديد تحت رقابة وتحكُّم الدولة. فللجمهوريّة الجديدة برلمان وأحزاب وحتّى كيانات “تنسيقية لشباب الأحزاب” تُقارِب لعبة السياسة بجدّية شديدة. وإذا كان الاستقطاب وخلق حياة سياسية مزيَّفة من الخصائص المعروفة للأنظمة السلطوية تتميّز الإدارة الحالية من ناحية الحجم المرجوّ لهذه الحياة السياسية الموازية، وكمّ الفاعلين الذين يتمّ إدراجهم فيها، والسياسات المخصَّصة لدرجة اعتبار تنمية المؤسَّسات السياسية إحدى دعائم الجمهوريّة الجديدة. يعكس ذلك ظهور هدف جديد للحيِّز السياسي المستقطب وهو لعب دور “دعم الدولة” وليس مجرّد تحييد المعارَضة واضفاء وهم السياسة المؤسَّسية.

ندلّل على ذلك بمقارنة السياسات الموجَّهة إلى الشباب في النظام الحالي ونظام مبارك. سعى مبارك في العقد الأخير من حكمه إلى تقديم جمال مبارك مرشَّحاً شابّاً يأتي بفكر جديد. كما كانت محاولات لاستقطاب الشباب من خلال ما عُرف بجمعيّة شباب المستقبل بالإضافة إلى أدوات متوارَثة مثل أُسر الجامعات واتّحادات الطلّاب. أمّا النظام الحالي، بالإضافة إلى الأدوات الموجودة بالفعل، فقد أوجد كمّاً من الكيانات الجديدة التابعة له بشكل أو بآخر واستعان بأدوات وقنوات عديدة للتحدُّث إلى الشباب وباسمهم نرصد منها: البرنامج الرئاسي؛ الأكاديمية الوطنية للتدريب؛ تنسيقيّة شباب الأحزاب والسياسيين؛ المؤتمَرات الوطنية للشباب؛ المنتدى العالمي للشباب؛ حزب مستقبل وطن[14]. لا ندّعي وجود تعدُّدية فعلية وتمثيل حقيقي للشباب بقدر ما هو تطوُّر غير مسبوق في حجم وكمّ السياسات المستهدِفة لهذه الفئة. حتّى إنّ هذه الكيانات جميعها تحظى باهتمام ملحوظ من رئيس الجمهورية ذاته بشكل لم نره في الأنظمة السابقة، ممّا يوضح أنّ الهدف يتعدّى مجرّد الاستقطاب لتحييد الحراك السياسي إنّما يصاحبه تأكيد ممنهج وإصرار واضح على وضع هذه الفئة في قلب الخطابات والسياسات مع تحميلهم دور ظهير الدولة واستخدامهم في تنفيذ المشروعات والترويج لها والدفاع عنها.

يظهر ذلك أيضاً في مقارنة الحياة الحزبية والبرلمانية. فبخلاف نموذج الحزب الحاكم الذي تحيط به أحزاب ومجموعات صغيرة تمارس دور “المعارضة الكارتونية”، يشهد النظام الحالي نموذجاً جديداً مكوَّناً من أحزاب عدّة تابعة للدولة تتفاوت في أحجامها وفي أدائها البرلماني وتؤكِّد على “تواجدها في الشارع” وتتشدَّق بتعدُّدية البرلمان وتمثيله لفئات مختلفة من المجتمع في خطاب لم تحاول أيّ من الأنظمة السابقة ادّعاءه. ويظهر أيضاً في استخدام لغة الحياة البرلمانية مثل “أغلبيّة”، “دور رقابي”، “أدوات تشريعية”[15]، وإن كانت مألوفة في السياقات الديموقراطية فاستخدامها بهذا الشكل وهذا الكمّ بخاصّة في الإعلام هو جديد ويعكس محاولات إضفاء الجدّية على هذا المجال السياسي الجديد.

الجمهوريّة الجديدة والبحث عن السياسة

حسب Lagroye، أحد علماء السياسة الفرنسيين: “السياسة لا تتواجد دائماً في كلّ مكان بنفس الشكل ففاعلوها وقواعدها ومواضيعها تتغيَّر بحسب المكان والزمان. كما أنّ المجتمعات المختلِفة تنتج أشكالاً عديدة من السياسة: سواء مؤسَّسات أو ممارسات أو أدوات “[16]. وهو ما يدعونا لرصد عملية الإنتاج الاجتماعي للسياسة بأشكالها المختلفة بأدوات تحليلية تأخذ في الاعتبار السياقات المختلفة.

بناءً على هذا، نخلص في نهاية هذا المقال إلى أنّه في ظلّ “الجمهوريّة الجديدة” لا بدّ أن ننظر بأعين جديدة وأدوات تحليلية جديدة إلى السياسة في المجتمع المصري. فالتوقُّف عند فكرة استقطاب الدولة للمجال السياسي والقول بنزع السياسة من المجتمع يعكس التمسُّك بأدوات تحليلية هي بنت زمانها. فعلى الرغم من غموض مفهوم “الجمهوريّة الجديدة” والخطاب المصاحب له فإنّه يأتي لينبّهنا إلى عوامل تميّز الإدارة الحالية عن سابقاتها وهي عوامل ليست بالهيّنة بل كفيلة بإعادة تشكيل علاقة الدولة بالمواطن وبالمجتمع؛ وبالتالي خلق أشكال جديدة للسياسة.

لا نعني بذلك أنّه سيخلق بالضرورة احتجاجاً أو مقاومة بالشكل التقليدي الذي اعتدْنا على رؤيته ودراسته في العقد الماضي أو حتّى ما اعتادت أدبيّات الأنظمة السلطوية رصده. فلا شكّ أنّ إعادة توزيع المواطنين على مساحة الدولة سيفتح مساحات جديدة (بالمعنى الجغرافي) ومعها ستنتج مساحات جديدة (بالمعني الرمزي) للسياسة. نفس الأمر بالنسبة لتوجيه اهتمام إلى فئات جديدة وجهود استمراريّة اللعبة السياسية.

كلّ ذلك سيخلق ظواهر جديدة وعلاقات جديدة بين المواطنين، وبينهم وبين الدولة، وسيخلق مشكلات عامّة جديدة وطرقاً للتعبير عنها؛ وبالتالي ستتكوَّن ظواهر وإشكاليّات سياسية جديدة ستتطلّب من المحلّلين تبنّي أدوات مناسِبة أو “عيون جديدة” لرصدها وفهمها.

 

  1. يظهر الوسم على شكل رسالة في المربَّع الأيسر من الشاشة أثناء نشرات الأخبار والبرامج المختلِفة حتّى الترفيهي منها.
  2. لتفاصيل أكثر عن التغطية الإعلامية لمصطلح الجمهوريّة الجديدة: “سبع سنوات سمان”.. تفاصيل الاحتفاء الاستثنائي بذكرى تولّي السيسي الحكم “، عايدة سالم، مدى مصر 30 يونيو 2021.
  3. https://www.youtube.com/watch?v=uZMuzzYgDUQ
  4. ممّا يؤكّد أهمّيّة جانب الحدث السياسي لقيام جمهوريّة جديدة أنّ هناك العديد من التصوُّرات والمُقترَحات المختلِفة لـ”جمهوريّة سادسة” فرنسية بخاصّة مع أزمة السترات الصفراء في 2018 وحتّى جائحة الكورونا، مع ذلك لم يأتِ حدث سياسي بقوّة كافية يدفع نحو إقامة جمهوريّة جديدة.
  5. ليس بالضرورة مباشرة، سواء في فرنسا أو مصر أحياناً يمرّ بعض الوقت حتّى يتمّ إقرار دستور جديد، لكن يظلّ الحدث المؤسِّس مرتبطاً بالجمهوريّة الجديدة.
  6. الجمهوريّة الأولى: الثورة الفرنسية؛ الجمهوريّة الثانية: سقوط الملكيّة الثانية؛ الجمهوريّة الثالثة: سقوط الإمبراطوريّة الثانية بالحرب مع ألمانيا؛ الجمهوريّة الرابعة: سقوط جمهوريّة فيشي وانتهاء الحرب العالمية الثانية؛ الجمهوريّة الخامسة حرب الجزائر.
  7. رغم أنّ الخطاب الرسمي لم يتبنَّ هذه المقاربة، ورغم وضوح اختلاف مشروع الرئيسَيْن.
  8. تنصّ ديباجة دستور 2014 على أنّ “وثورة 25 يناير – 30 يونيو، فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قُدِّرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلِّع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والإيديولوجيّات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها، وهى أيضاً فريدة بسلميّتها وبطموحها أن تحقّق الحرّيّة والعدالة الاجتماعية معاً. هذه الثورة إشارة وبشارة، إشارة إلى ماضٍ مازال حاضراً، وبشارة بمستقبل تتطلّع إليه الإنسانية كلها.
  9. عن الشباب كفئة سياسات عامّة:

    Boutaleb, Assia. “La jeunesse en tant qu’objet et enjeu de légitimation en Egypte (2000-2004): prodiges et litiges de la légitimité.” PhD diss., Paris, Institut d’études politiques, 2006.

  10. في 2019 تمّ إنشاء المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة ليحلّ محلّ المجلس المُنشأ في 2018.
  11. حقوق ذوي الإعاقة في مصر“، غادة حلمي، دراسات في حقوق الإنسان، الهيئة العامة للاستعلامات.
  12. لمزيد من التفاصيل: “السياسة العامة للرياضة في مصر“، يوسف ورداني، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
  13. مثلاً كرة اليد؛ الاسكواش؛ الرياضات المائية: نشاهد تركيزاً إعلامياً ورسمياً ملحوظاً مع الرياضيين والرياضيات وتشجيع الدعم من القطاع الخاصّ بشكل متميّز عن الفترات السابقة، على الأقلّ من حيث الكمّ على الرغم من استمرار الحاجة إلى سياسة أكثر منهاجية.
  14. (على الأقلّ في بداياته وإن تطوَّرت الخطابات الحالية إلّا أنّ فئة الشباب ما زالت واضحة في خطابات وبرامج و أحداث الحزب.
  15. مقتطفات من مقابلات إعلامية مع قيادات من مستقبل وطن، حزب الأغلبيّة الحالي نذكر منها: https://www.youtube.com/watch?v=5JU5VMhfAQA
  16. Lagroye, Jacques. La politisation. Vol. 1270. Belin, 2003.
انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، مصر ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني