إسرائيل تواصل جرائمها ضدّ المدنيين في الجنوب اللبناني


2024-02-14    |   

إسرائيل تواصل جرائمها ضدّ المدنيين في الجنوب اللبناني

أربعة أشهر منذ بدء العدوان الإسرائيلي والجنوب اللبناني ينزف، ينزف من أرضه ومن خيراته، ينزف من شبابه وناسه. أربعة أشهر وإسرائيل تواصل إبادة غزة، واستباحة الجنوب، مستهدفة قرى مأهولة بالسكان بما فيها من مقوّمات حياة حيث دمّرت منازل أحيانًا على رؤوس من فيها ومساجد ومحال تجارية وصيدليات ومعامل ومحطات ضخ مياه وحارقة أراض زراعية ومفسدة تربتها بالفوسفور الأبيض. أربعة أشهر وأكثر من 100 ألف شخص لا يزالون خارج بيوتهم نازحين، القليلون منهم في مراكز إيواء والأغلبية ينتشرون في مناطق جنوبية تعتبر آمنة نسبيًا أو في مناطق أخرى من دون أي دعم من الدولة يسندهم في نزوحهم ويعوّض عليهم خسارة أشغالهم وأرزاقهم. 

وفي الآونة الأخيرة تصاعدت وتيرة الضربات وتوسّعت دائرة الاستهدافات، ليسقط مساء السبت 9 شباط الجاري في حولا الشهيدان حسين موسى حسين والعريف في قوى الأمن الداخلي علي نمر مهدي اللذين قتلا في غارة إسرائيلية على حي الجامع وسط حولا. وفي قرية الخيام سقط الشهيد محمد علي عواضة في 7 شباط تحت سقف منزل ذويه الذي كان يتفقّده بعد نزوح العائلة منه. ويؤكّد شهود كانوا في موقع الغارات الإسرائيلية على حولا أنّها استهدفت تجمًعًا للمدنيين كانوا يخرجون من صلاة المغرب وأنّ الغارات اللاحقة قتلت شخصين كانا يحاولان إنقاذ الجرحى.  

كذلك استهدفت مسيّرة إسرائيلية سيارة في جدرا في إقليم الخروب  تابعة لمسؤول في حركة “حماس” يدعى “باسل صالح” الذي نجا فيما استشهد المواطن خليل فارس الذي يملك بسطة خضار في المكان ذاته (نعاه حزب الله لاحقًا)، كذلك استشهد شخص آخر من الجنسية السورية صودف مروره على دراجته النارية ولم نتمكّن من الحصول على اسمه أو جمع أي معلومات عنه.

ولم يتوقّف عدّاد الشهداء المدنيين عند هذا الحد فمع كتابة هذه السطور، قتلت إسرائيل سيدة وطفليها في بلدة الصوانة وصاحب “إكسبريس” قهوة في بلدة عدشيت وأصابت 11 شخصًا مع توسّع رقعة الغارات الإسرائيلية إلى مناطق جديدة)  

لقطة شاشة من فيديو لموقع بنت جبيل

استهداف تجمّع للناس في حولا

يُدرج العدو الإسرائيلي بلدة حولا هدفًا دائمًا له في كل اعتداءاته على لبنان، وربما لا تخلو عائلة في حولا من شهيد أو مقاوم واجه  العدو الإسرائيلي بشتى الأشكال، منذ مجزرة حولا التي ارتكبها العدو في 31 تشرين الأوّل العام 1948 وراح ضحيّتها أكثر من مئة شهيد. وتعرّضت حولا في العدوان الحالي إلى سلسلة غارات كانت آخرها أمس الثلاثاء دمّرت مركزًا تجاريًا ومنزلًا في حي المرج. والسبت 9 شباط، استهدف العدو الإسرائيلي حي الجامع أو الضيعة القديمة بالمدفعية وبمسيّرة، مستهدفًا عددًا من المواطنين الذين كانوا مجتمعين أمام المسجد عقب صلاة المغرب عند الساعة السادسة عصرًا. وأسفر العدوان عن استشهاد كلّ من حسين موسى حسين وعلي نمر مهدي، إضافة إلى جرح ثمانية أشخاص. ولا تزال عشرات العائلات صامدة في حولا بخاصة في حي الجامع الذي كان حتى الآن بعيدًا عن مرمى النيران.

يروي زياد غنوي الذي كان متواجدًا أمام المسجد لحظة الاستهداف، أنّه ما أن خرج المصلّون من الجامع حتى سقطت أوّل قذيفتين. وما إن بدأ الناس يهرعون لإنقاذ المصابين حتى سقطت بقية القذائف، ما أدى إلى استشهاد الشابين اللذين كانا يحاولان إنقاذ الجرحى.

“استشهد على صدري، شهق آخر شهقة هو وعم يطّلع فيني، لآخر لحظة من حياته ضلّ حدي”، بصلابةٍ وعنفوانٍ تتحدث منتهى حسين لـ “المفكرة القانونية” عن شقيقها حسين موسى حسين. هي المشغولة بإحياء مراسم العزاء تاركة ابنتها الجريحة آيات مرتضى في المستشفى وابنتها الثانية ابنة التسع سنوات “المصدومة” جرّاء القصف، عند جيرانها. تتحدث عن “رفيق عمرها”، وكيف أنّهما لم يفترقا منذ الولادة ولم يغادرا القرية حتى خلال الاحتلال الإسرائيلي.

وحسين مواليد العام 1983، كان موظفًا في بلدية حولا، أب لثلاثة أولاد (ابنتان متزوجتان وشاب بعمر التاسعة عشر)، يجمع أهل القرية على سيرته الحسنة وعلى أنّه “كثير طيّب وخدوم”. يقول غنوي إنّ حسين يحرص دائمًا على المشاركة في نشاطات البلدية كي يساعد سكان القرية في إحياء نشاطاتها وأبرزها “رحلة المسنين” التي تنظمها البلدية لكبار السن. وخلال العدوان غادر معظم أبناء القرية، وأرسل حسين زوجته وابنه إلى مدينة صور،  بقي هو ليساعد في تيسير أمور الصامدين، يحرص على جلب المازوت للمولّد الكهربائي لينير لياليهم، يخبز وشقيقته منتهى “خبز الصمود” كما كانا يسمّيانه حيث يساعدها في الفرن ليحصّلا قوت يومهما.

الشهيد حسين موسى حسين من بلدة حولا

تقول منتهى: “صرلنا أربع شهور صامدين أنا واياه مع بعض، منفيق الساعة ستة الصبح، منحضّر العجين لنعمل خبز ومناقيش، مننطر العالم لتجي، بس نخلّص منرجع سوا عالبيت”.

تضيف أنّه يوم استشهاده، عادا من الفرن إلى المنزل، وكعادتها انشغلت منتهى بتحضير طعام الغذاء له ولأولادها، فيما انشغل حسين بترتيب غرفته. وبُعيد صلاة المغرب عاد حسين من الجامع وقام بتحضير الشاي منتظرًا شقيقته، وما إن جلس  أمام المنزل  حتى سقطت أولى القذائف. “لمّا بلّش القصف زعبنا حسين أنا وبناتي لجوّا عالبيت وضهر هو ليساعد الناس اللي عم تصرّخ، وصل عالدرج إجت قذيفة بالرابيد تعولتو قدام البيت”. تروي منتهى أنّ القذائف انهمرت متتالية وأنّ القذيفة الرابعة سقطت أمام منزلهما، تفرّقت هي وبناتها كل واحدةٍ في اتجاه، خرجت منتهى لتفقد شقيقها فوجدته جريحًا على الدرج، قامت باحتضانه “قلتلو ما تتركني، اطّلع فيني وشهق ومات على ركبتي”. استجمعت منتهى قواها وراحت تبحث عن ابنتيها لتجد ابنتها الكبيرة “آيات” مصابة في بطنها فقامت بإسعافها “انا عاملة دورات إسعافات أوّلية بالهيئة الصحية”. بعدها عثرت على ابنتها ابنة التسعة أعوام في حالة صدمة. وعندما حضرت سيارة الإسعاف نقلت جثة شقيقها وابنتها الجريحة إلى مستشفى تبنين. تقول منتهى إنّها لا يمكن أن تتذكّر لحظة في حياتها لم يكن حسين حاضرًا فيها، آخرها وأصعبها فترة مرض والدتهما التي توفيت قبل ستة أشهر: “كنّا أنا ويّاه نهتم فيها، نشيلها سوا، نحمّمها نطعميها..”.

ليس بعيدًا استشهد العريف في قوى الأمن الداخلي علي نمر مهدي (28 عامًا) الذي هرع لمساعدة إحدى الطفلات عندما انهمرت القذائف الأولى، وما لبث أن أصيب بشظايا القذائف الأخرى التي تلتها استقرّت في رأسه، فنقل إلى المستشفى بنبض ضعيف حيث خضع لعملية جراحية حرجة، واستشهد على إثرها.

وعلي عريف في الاستقصاء، يمضي ثلاثة أيام في مقر عمله في النبطية، ويعود إلى قريته لثلاثة أيامٍ متتاليةٍ، وبقي على هذا الحال حتى خلال العدوان، حيث رفض وذويه مغادرة القرية. ولاحقًا حمل لقب “مراسل الضيعة” لأنّه كان يجول على منازل أصدقائه النازحين أو الذين يسكنون في بيروت، ويلتقط الصور والفيديوهات ويرسلها يوميًا إلى الجميع، بحسب ما تروي صديقته لما أيوب في اتصالٍ مع “المفكرة”.

تقول لما التي تقطن في بيروت وتزور القرية عادةً في نهاية الأسبوع إنّها كانت ما إن تصل إلى القرية حتى تهاتف علي لتلتقي به وبالأصدقاء ويجتمع الجميع عند “البركة”، وغالبًا ما يخرجون بسيارة الشهيد إلى خارج القرية. “كان ياخذنا بسيارته او يستعير سيارة خيه”، يحب علي الجنوب وطبيعته، يجول وأصدقائه في الوديان والجبال، يذهبون إلى النهر وأحيانًا يصلون إلى بحر صور بلا سابق تخطيط. 

تتحدث لما عن حب علي للمساعدة والعطاء ، فهو بحكم عمله في دائرة النفوس في النبطية كان يساعد أبناء القرية على تخليص معاملاتهم، “كان ياخذلنا أوراقنا يخلّص المعاملات”. تقول إنّه قبل بضعة أيام من استشهاده نزل إلى بيروت، وجال على منازل أصحابه وأقاربه، “دقلّي قلّي نازل على بيروت ومارق لعندكم، قعدنا حكينا عن الوضع، قلتلّو ما تضلّك فوق، قال ما في شي خطير”. وتضيف أنّها وعدته بزيارة القرية قريباً “وهيك صار، زرت الضيعة لشيّع علي وإمشي بجنازته”.

الشهيد محمد علي عواضة من بلدة الخيام

محمد قتلته إسرائيل تحت سقف منزل والديه في الخيام

لم تحيّد الاعتداءات الإسرائيلية قريةً أو منطقةً جنوبية منذ بدء العدوان، والإثنين 7 شباط أسفرت غارة استهدفت الاعتداءات منزلًا في بلدة الخيام عن استشهاد الشاب الثلاثيني محمد علي عواضة، وجرح مواطنين آخرين. وكان العدو الإسرائيلي استهدف منزل عواضة  لثلاث مرات سابقة وفي الرابعة والأخيرة كان محمد في زيارة تفقدية لمنزل ذويه فسقط شهيدًا تحت سقفه.

“لو بتشوفي أمه وأبوه شو عملوا عالجبّانة ، يصرخوا يا محمد بصوت يجمّد الحجر، الله يصبرهم” تقول عمة الشهيد في اتصال مع “المفكرة”. “محمد كان آخر العنقود في عائلة شقيقي” تقول، “كان الدلّوع عايش مع أهله شايل فيهم”. وتضيف أن عواضة ولد وترعرع في الكويت مع ذويه وثلاثة أخوة، وأنه قبل حوالي الستة أعوام عاد ووالديه للاستقرار في بلدتهم الخيام، فيما بقي أخوته في الكويت. افتتح الشهيد محلًا لتصليح الهواتف في الخيام، وقام والده ببناء عمارة من ستة طبقات سكن في شقة فيها، وكان يعتاش من بدل إيجارات بقية الشقق ،”إجا حط كل رزقه هون بالجنوب عمّر وصار يأجّر ويعيش، هلق  كل رزقه عالأرض”.

تضيف أنّ الشهيد كان يمضي معظم وقته في عمله ويعود للمنزل ليهتمّ بذويه. ومع بدء العدوان الإسرائيلي استهدف العدو الإسرائيلي منزلهم، فنزحوا إلى منطقة بشامون، إلّا أنّ عواضة قرّر العودة إلى المنزل لجلب بعض الأغراض، عندها استهدف العدو المنزل بقذيفة أخرى، فسقط أحد جدران المنزل على رأسه واستشهد على الفور.

“الحمد الله مات شهيد على إيد ألدّ أعدائنا” بهذه العبارة يتصبّر علي عواضة والد الشهيد محمد على حزنه وفاجعته. ويقول في اتصالٍ مع “المفكرة” إن الفراق غالي وإنّ الموت “فجأة” مؤلم جدًا لكن هذا قدره. ويضيف أنّه قبل عودته من الكويت ذهب محمد إلى قطر للعمل في إحدى الشركات إلّا أنّه لم يقوَ على فراقنا فعاد إلى الخيام راضيًا بما يرسله الرب من رزقةٍ، “بتعرفي الصغير لو مهما كبر بيضلّ بعين أهله صغير ونحن كنّا معلّقين فيه كثير”.

ويتابع الوالد المفجوع أنّه منذ بدء العدوان الإسرائيلي وهو يتمنّى الشهادة ويطلبها أمامنا، “كان قبل العدوان يقول بدي اتجوّز ويجيب اولاد، بعد العدوان صار يقول أنا بدي موت شهيد”.

يقول والد علي إنّه كان يحلم أن يمضي بقية عمره في القرية وأن يحمل أولاد محمد ويراهم يلعبون بالقرب منه، اليوم وبعد أن سوّيت العمارة في الأرض واستشهد فلذة كبده، لا يعلم كيف سيمضي بقية سنواته. ويضيف أنّه عندما استهدف العدو منزله في المرات الأولى، لم يحزن “قالولي اتهدّمت بنايتك والله ما انهزيت اللي عمّر أوّل مرّة بيعمر ثاني مرة، بس إنّه يستشهد محمد ما بعرف كيف بدي إرجع عمّر وعيش هون”.

الشهيد علي مهدي من بلدة حولا
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني