يعبّر بعض أهالي حي “كروم التين” وجواره في بلدة القليعة قضاء مرجعيون، جنوب لبنان، عن مخاوف كبيرة جرّاء تواجد برجين هوائيين تابعين للشركتين المشغّلتين للهاتف الخليوي “ألفا” و”تاتش”. وتنتج هذه المخاوف عن بلوغ معدّل الإصابة بالسرطان مستويات عالية، الأمر الذي يعزوه الأهالي إلى الذبذبات الكهرومغناطيسية التي تصدر من محطّات الإرسال المتواجدة على البرجين. كما يعبّر الأهالي عن ضيق صدرهم من تشغيل مولّد كهربائي ضخم تابع للبرجين إضافة إلى ساحب الصواعق.

ودفاعاً عن أنفسهم، أقام خمسة من سكان الحي دعوى مدنية ضد الشركتين المشغّلتين للهاتف الخليوي أمام القاضي المنفرد المدني في مرجعيون محمد عبد الله، الذي يعقد الجلسة الأولى للقضية صباح اليوم الأربعاء. وكان هؤلاء لجأوا في مطلع العام الحالي إلى قضاء العجلة الذي كلّف خبيراً أصدر تقريراً أكد على صوابية مخاوف الأهالي، لما تضمّنه من تحذيرات من احتمال وجود أضرار على الصّحة جرّاء تعرّض السّكان للذبذبات المنبعثة من المحطات. ويفيدنا أحد السكان بأنّ قضاء العجلة اعتبر أنّ بت النزاع هو من غير اختصاصه الذي ينحصر في التعدّيات البديهية، فلجأ هؤلاء إلى المحكمة المدنية.

ويشرح أحد سكان الحي طلب عدم ذكر اسمه، لـ”المفكرة”، بأنّ بعض الأهالي يتركون منازلهم في الشتاء بسبب الصواعق التي يسحبها البرجان، والتي تسبّب لهم حالات ذعر وهلع وأرق متواصلة في الليل. ويُضيف أنّ “الذبذبات التي تنبعث من البرجين قد تكون السبب في ارتفاع معدّل الإصابة بالسرطان في حي سكني واحد وهو الأقرب إليهما، ما يصل إلى 20 حالة في السنوات الأخيرة”.

اطّلعت “المفكرة” على التقرير الذي أعدّه الخبير حسن برجاوي لقضاء العجلة وهو يُظهر أنّ المخاطر الناشئة عن المحطات هي: “الإرهاق، والألم في الرأس، والدوار، والنقص في الشهية، وقلّة النوم، والكآبة، والتعب، وضعف التركيز، وفقدان الذاكرة، والمشاكل الجلدية، واضطراب في النظر والسمع، وصعوبة الحركة والمشاكل في شرايين القلب”. ومن ناحية الأمراض السرطانية، يشير التقرير إلى أنّها تظهر على المدى البعيد، وقد تظهر بعد سنوات، كلما تكثفت الأضرار حيث يُرهق الجسم وتضعف المناعة. وأكد الخبير في التقرير أنه استند إلى أبحاث علمية ودراسات للوصول إلى هذه النتيجة.

القضاء والقانون ينحازان لمبدأي “الحيطة والحذر”

اتجهت العديد من الدول نحو اعتماد مبدأي “الحيطة والحذر” في القوانين المتعلقة بالبيئة وحماية الصحة العامة، ومنها قانون حماية البيئة اللبناني الصادر عام 2002، والذي يؤكّد في المادّة الرابعة على أنّه على كل شخص طبيعي أو معنوي أن يلتزم بعدة مبادئ منها: “مبدأ الاحتراس، والذي يقضي باعتماد تدابير فعالة ومناسبة بالاستناد إلى المعلومات العلمية وأفضل التقنيات النظيفة المتاحة الهادفة إلى الوقاية من أي تهديد بضرر محتمل وغير قابل للتصحيح يلحق بالبيئة”. وتمّ التأكيد على هذا المبدأ في معاهدات دولية منها معاهدة ريو دي جانيرو عام 1992، ومعاهدة برشلونة المتعلقة بحماية البحر المتوسط من التلوث البحري عام 1978.

كما أنّ أحكام قضائية عدة في بلدان مختلفة ومنها لبنان صدرت في دعاوى مشابهة لصالح المتضرر من أبراج هوائية، حتى في حال عدم إثبات اليقين العلمي من تسبّبها بأضرار على الصحة. ونذكر منها، حكم لمحكمة البداية المالية في جبل لبنان برئاسة القاضية أماني سلامة لصالح رجل توفي نجله بمرض السرطان، ادعى على المؤسسة اللبنانية للإرسال عام 2005، بعدما زرعت المؤسسة محطة بث تلفزيوني أمام منزله في بلدة بيت مري. وقضت المحكمة في حكمها الصادر في 13 أيلول/سبتمبر 2005 بإزالة المحطة مستندة إلى أنّ الإصابة بالسرطان هو “ضرر احتمالي غير أكيد”. ويُستنتج من الحكم ما خلاصته أنه حتى لو أنّ العلم لم يُثبت أو ينفي وجود ضرر من محطات الإرسال على صحة الإنسان، إلّا أنّه من الضروري الارتكاز إلى مبدأ “الاحتياط”[1].

في الاتجاه نفسه، ذهبت محكمة الاستئناف في بتطوان، (المغرب) حين أيّدت الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية في شفشاون بتاريخ 12 نيسان/أبريل 2017 في قضية تركيب هوائيات الهواتف النقالة في الأحياء السكنية. وكانت مجموعة من سكّان أحد الأحياء في مدينة شفشاون تقدموا بدعوى أمام المحكمة الابتدائية يعرضون فيها أن شركة اتصالات المغرب تعتزم تركيب الجهاز اللاقط الخاص بالهاتف النقال على سطح أحد المنازل المجاورة لإقامتهم. واعتبروا أنّ هذه الأجهزة تبث إشعاعات مغناطيسية تسبب ضرراً بالغاً بصحة السكان المجاورين. وقد أيّدت محكمة البداية ثم محكمة الاستئناف التوجّه إلى إيقاف تركيب الأجهزة، وذلك بالاستناد إلى ضرورة اعتماد مبدأي “الحيطة والحذر”، واللذين يفرضان “وجوب تبنّي إجراءات تحوّطية لحماية البيئة والصحة العامة”. وتوجّهت المحكمة إلى تبنّي الاحتياط في حالة عدم ثبوت الحقائق العلمية التي تؤكد أو تنفي الضرر الناتج عن الإشعاعات[2].


[1]  حكم للرئيسة سلامة يشكل حلاً لقضايا أشعة الأبراج الكهرومغناطيسية مسرعة الموت، صدر بتاريخ 13 أيلول 2005، المصدر: موقع Dedicate Humanism.