وفق المعايير الدولية للديمقراطية فإن نصوص الدساتير المعاصرة لا تقتصر على السلطات التقليدية الثلاث، بل أضحت تحتوي على مؤسسات دستورية مستقلة عن هذه السلطات لغرض ضمان الديمقراطية والمحاسبة. هذه المؤسسات لها صلة بحماية حقوق وواجبات المواطن السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية غيرها، كالنص على مجلس أعلى لحماية الحقوق والحريات أو على مفوضية عليا للانتخابات أو هيئة عليا لمكافحة الفساد أو على مؤسسة تهتم بالجانب الديني كدار الإفتاء في البلاد الاسلامية. ولذلك، ولأجل ضمان استقلالية مثل هذه المؤسسات فإن القواعد الدستورية تقضي بوضع أحكام عامة لتحقيق هذه الغاية وبصفة أساسية بيان آلية تعيين وإعفاء كبار موظفيها على نحو يكفل لهم الاستقلال وعدم التبعية لاسيما لرأس السلطة التنفيذية.
وعليه، فإن الاشكالية القانونية التي تعالجها هذه الورقة تتمثل في تقييم النص الوارد في مقترح لجنة فبراير والمعتمد من قبل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، والقاضي باختصاص رئيس الدولة بتعيين كبار الموظفين وإعفائهم من مهامهم بعد التشاور مع رئيس الحكومة؛ وحيث أن عبارة "كبار الموظفين" جاءت خالية من كل قيد أو شرط، فإن الفهم المعمق لها يفيد بأن من صلاحيات الرئيس تعيين ليس فقط كبار الموظفين في الحكومة بل والدولة بشكل عام؛ فوضع النص على العموم سيدخل كل كبار موظفي الدولة في صلاحيات الرئيس فيما يتعلق بتقلد وظائفهم وإعفائهم منها، وسيشمل هذا الاختصاص ليس فقط تعيين رئيس مجلس حقوق الانسان أو رئيس المفوضية العليا للانتخابات أو رئيس مجلس الإفتاء أو رئيس هيئة مكافحة الفساد أو رئيس هيئة الرقابة الإدارية، بل قد يمتد ليشمل رئيس المحكمة العليا أو النائب العام ولم لا؟ رئيس المجلس الأعلى للقضاء، فنحن أمام قاعدة دستورية جديدة تلغي القواعد الدستورية القديمة. أما إذا تعلقت قواعد تعيين هؤلاء بقواعد قانونية عادية، فسترتب على ذلك بطلان الأخيرة لعدم مطابقتها للقواعد الدستورية الجديدة الأعلى مرتبة منها، أي أن القواعد القانونية العادية ستصبح في هذه الحالة غير دستورية.
هذا فضلا عن أن النص يقتضي بأن عملية التعيين تتطلب أمرين: مشورة رئيس الحكومة وقرار رئيس الدولة. ويجب أن تسبق المشورة القرار، إذ تعد المشورة الأساس بالنسبة لقرار التعيين. بمعنى آخر يجب أن تتوفر مشورة رئيس الحكومة أولا قبل صدور قرار رئيس الدولة بالتعيين، مما يدل على أن المشورة لها صفة التوصية. وعلى الرغم من أن هذه التوصية ليس لها صفة الإلزام بل صفة الاقتراح، إلا أنها تعد شرطا ضروريا لصحة صدور القرار من الناحية الدستورية، وبذلك تكون للتوصية قيمة قانونية واضحة لا يستهان بها رغم أنها ليست ملزمة.
ما تقدم ذكره يوحي ظاهره بأن النتيجة القانونية سابقة الذكر (لقيمة التوصية دستوريا) تمثل ضمانة ديمقراطية هامة تسجل لصالح مقترح لجنة فبراير؛ إذ يفيد ظاهر النص بأن رئيس الدولة لا يمتلك سلطة مطلقة ومنفردة عند ممارسة صلاحياته في تعيين كبار موظفي الدولة أو عند إعفائهم من مهامهم، وأن هذه النتيجة كفيلة بأن تمنع رأس السلطة التنفيذية في اختيار من يحملون ولاء شخصيا له حتى لا يسيطر على مفاصل الدولة بتعيين أولئك الموالين له في وظائف الدولة العليا. وبمعنى آخر أن ظاهر هذه النتيجة كفيل بمنع وقوع التعيين وفق المعيار الولاء السياسي ويضمن عنصر الاستقلال والكفاءة. هذا الايحاء غير صحيح واحتيال على العمل الديمقراطي وإهدار لمبدأ الاستقلال المفترض للمؤسسات الدستورية سابقة الذكر؛ لأن أحد طرفي آلية التعيين المركب ليس مستقلا عن الأخر وتابعا له بالكلية، وبناء على ذلك يكون قرار التعيين والإعفاء ضمن الصلاحيات المطلقة للرئيس، كيف؟
الإجابة ببساطة تتمثل في أن رئيس الحكومة (رئيس الوزراء) وفق مقترح لجنة فبراير يختار من قبل رئيس الدولة، ولن يكون هذا الأخير أقل حرصا من غيره في اختيار من يدين له بولاء شخصي لرئاسة حكومته، فهل سيكون رئيس الحكومة مستقلا عند إبداء المشورة لمن له الفضل في اختياره رئيسا للحكومة؟
الخلاصة هي: أنه يفترض لأغراض الديمقراطية التي تتطلب استقلال عدد من المؤسسات والسلطات الدستورية، لاسيما فيما يتعلق بتعيين وإعفاء كبار موظفي هذه المؤسسات أو السلطات، أن لا تمنح التوصية لرئيس الوزارة بل إلى الجمعيات أو المجالس العمومية المسيرة لتلك المؤسسات أو السلطات؛ كالمجلس الأعلى للقضاء فيما يتعلق بتعيين رئيسه أو رئيس المحكمة العليا أو النائب العام، وإلى المجلس الأعلى لحقوق الانسان فيما يتعلق بتعيين رئيس هذا المجلس أو إعفائه من مهامه، وإلى المجلس الأعلى للإفتاء فيما يتعلق بتعيين المفتي أو إعفائه من مهامه، وإلى الجمعية العمومية لهيئة مكافحة الفساد فيما يتعلق بتعيين رئيس الهيئة أو إعفائه من مهامه وهكذا. أما القول بغير ذلك – على النحو الوارد حاليا بمقترح لجنة فبراير- يجعل هذه المؤسسات والسلطات مؤسسات وسلطات غير مستقلة في مواجهة السلطة التنفيذية. وبذلك، تجنح اللجنة نحو توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية مقابل اضعاف صلاحيات السلطات والمؤسسات الدستورية الأخرى من خلال آليتي التعيين والإعفاء الممنوحة لرئيس الدولة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.