تأجيل مزايدة البريد من 24 كانون الثاني حتى 16 شباط لم يؤدّ إلى أي نتيجة. كان التأجيل يهدف إلى إعطاء وقت إضافي للراغبين بالمشاركة. لكن تبين أن لجنة التلزيم، التي اجتمعت أمس في مبنى مديرية البريد في وزارة الاتصالات، لم تستلمْ أيّ عرض، بالرغم من أن 4 شركات سبق أن اشترتْ دفتر الشروط (“ميريت إنفست”، “ليبان بوست”، “غانا بوست”، و”إيكون”). حتى شركة “غانا بوست” التي حسمت أمرها في اللحظات الأخيرة وحاولت تقديم ملفها، لم يتم تسجيله لأنه وصل بعد المهلة القانونية المحددة في الساعة التاسعة من صباح أمس، أي قبل ساعة من موعد فضّ العروض. الشركة التي تؤكّد مصادر مطّلعة أن صاحب الأعمال وسام عاشور هو الذي قدّم العرض باسمها من دون أن تتبين طبيعة العلاقة التي تجمعه بها، إن كان وكيلاً أو شريكاً أو وسيطاً، لم يُعرف حتى ما إذا كان عرضها يتناسب مع شروط المزايدة أم لا، إذ أن أحد أعضاء لجنة التلزيم أكد أنه لم يكن بالإمكان قبول العرض حتى لو كان التأخير ربع ساعة فقط، لان قبوله يخلّ بمبدأ المساواة في الفرص بين العارضين.
بالنتيجة، لم تعقدْ جلسة التلزيم التي كانت مفاجأتها الأكبر عدم تقدّم شركة “ليبان بوست” لها، وإصدارها قبل يوم واحد بياناً موجهاً إلى موظفيها تعلمهم فيه أن “مساهمي الشركة قرروا عدم المشاركة في المزايدة بسبب ظروف البلد غير المستقرة إطلاقاً”، مؤكّدة في الوقت نفسه تسييرها المرفق العام إلى حين تسليمه.
تلك المفاجأة اعتبر البعض أنها ناتجة عن عدم قدرة الشركة على الحصول على براءة ذمة، إلا أن وزير الاتصالات جوني القرم أكد لـ”المفكرة القانونية” أن السبب الفعلي هو تأثير الحملة الإعلامية التي شُنّت على الشركة على سمعة المستثمر الرئيسي فيها، أي بنك سرادار الذي يملك 70% من أسهمها، وتفضيله الابتعاد عن القطاع، علماً أن القرم نفسه أكّد أنه لم يعطِ الشركة براءة ذمة، بالرغم من أن لا مانعًا قانونيًا أمام ذلك إذ أن الأمر كان محصوراً بإجراء المقاصة التي أشار إليها تقرير ديوان المحاسبة، في تغاضٍ مستمر عما حفل به التقرير من ملاحظات يتحتم تسويتها بين الوزارة والشركة، وفي تغاضٍ مستمرّ عن وجود دعوى عالقة بين الشركة والدولة في مجلس الشورى.
مزايدة جديدة خلال 6 أسابيع
مع تأكيد وزير الاتصالات لـ”المفكرة” أنه سيُعيد إطلاق المناقصة خلال 6 أسابيع، فإنّ الأسئلة عادتْ لتُطرح بشأن مصير القطاع في ظلّ إحجام الشركات عن الاستثمار في لبنان في ظلّ ظروف غير مستقرّة. وإذ أوضح القرم أنه بعد إعلان “ليبان بوست” عدم رغبتها في الاستمرار، أشار إلى أن “لدينا واجبات كدولة هي استمرارية القطاع ولا أريد استباق الأمور لكننا سنرى من يمكنه أن يشغّله”. وقد أعاد القرم التأكيد أنه بالتوازي مع إعادة إطلاق المزايدة سيدرس الخيارات المتاحة في حال عدم التمكّن من تلزيم القطاع، جازماً، في الوقت نفسه، أنّه لا يمكن للوزارة استلام القطاع لأنّها لا تملك القدرات التقنية والبشرية لإدارته في ظل وجود 4 موظفين فقط في مديرية البريد.
وعليه، فإن إعادة المزايدة يفترض أن تؤدي إلى احتمال من ثلاثة:
- تقدم أكثر من شركة، وفوز مقدم العرض الأفضل، وهو ما يبدو مستبعداً بالنظر إلى الظروف المحيطة.
- عدم تقدّم أي شركة، وبالتالي فشل المزايدة مجدداً.
- تقديم عرض وحيد يُرجّح أن يكون للشركة التي حاولت التقدّم أمس. وفي هذه الحالة، ستكون الخيارات هي التالية: إما يكون العرض غير مقبول فتُلغى المزايدة لعدم تقديم أيّ عرض مراعٍ لدفتر الشروط، وإما يكون مقبولاً إدارياً وتقنياً ومالياً، فتكون الجهة الشارية، أي المديرية العامة للبريد في هذه الحالة، أمام خيارين: إلغاء عملية الشراء بسبب ورود عرض وحيد، أو اللجوء إلى أحكام الفقرة الرابعة من المادة 25 من قانون الشراء العام، التي تسمح بـ”اتخاذ قرار معلل بالتعاقد مع مقدم العرض الوحيد المقبول إذا توافرت عدة شروط أبرزها أن “تكون الحاجة أساسية وملحّة والسعر منسجماً مع دراسة القيمة التقديرية”.
بالنتيجة، فقد صار مؤكداً أن “ليبان بوست” ستستمر في إدارة القطاع حتى نهاية أيار، وهو الموعد الذي حدده مجلس الوزراء في قراره الذي صدر في 12/5/2022. في ذلك القرار أُقرّ دفتر شروط المزايدة أيضاً (أطلقتها وزارة الاتصالات في 18/10/2022)، مع الإشارة إلى أنه في حال نجاح عملية التلزيم يُمكن إجراء تسلّم وتسليم بين المديرية العامة للبريد وشركة “ليبان بوست”، ومن ثم تسليم القطاع إلى الجهة التي رست عليها المزايدة، من دون الحاجة إلى انتظار نهاية فترة التمديد. لكن الواقع يشير إلى أنه حتى في حال نجحت المزايدة المتوقّع إجراؤها حوالي الأول من نيسان، فإنه من البديهي أن لا تنتهي إجراءات التسلم والتسليم في أقل من شهرين.
لكن بما أنه لا يمكن الإطمئنان إلى مصير المزايدة، فإنّ التحسّب لإمكانية انتهاء فترة التمديد من دون التمكّن من تلزيم القطاع لأيّ شركة جديدة سيُعطى الأولوية في وزارة الاتصالات. وهو ما لمّح له، ويتحسّب له، وزير الاتصالات، في إشارته إلى أنه يدرس الخيارات المتاحة. وهذا يقود إلى التمديد الثامن للشركة، تحت عنوان تسيير المرفق العام، مع ما يعنيه ذلك من استمرار هدر الأموال العامة على عقد يميل بشكل فاضح لصالح الشركة، ويضرّ بمصلحة الدولة، على ما يؤكد ديوان المحاسبة في التقرير الذي أصدره في العام 2021، علماً أن وزير الاتصالات يستبعد وجود إمكانية لتعديل العقد في حال التمديد للشركة نفسها.
تجربة الخلوي
أمام هذا الواقع، يبقى خيار إدارة القطاع من قبل الدولة هو الخيار الأكثر منطقيّة، بالنظر إلى الاعتبارات المتوفّرة، أي الهدر المحقّق من خلال استمرار العقد الحالي وعدم إمكانية تعديل العقد لتحصين حقوق الدولة، بالإضافة إلى عدم وجود حماسة للاستثمار في لبنان. لكن مع ذلك، لا يعتبر القرم خيار استرداد القطاع واحداً من الخيارات المطروحة، بالرغم من أن هذا الأمر إن تحقق فلن يكون سابقة، إذ أنّ أيّ عقد موقّع مع الدولة يتضمّن بنوداً توضّح آلية الاسترداد، وعقد إدارة البريد ليس استثناءً. علماً أن تجربة مشابهة كانت عايشتها وزارة الاتصالات في العام 2002، في قطاع الخلوي.
حينها فسخت الدولة العقد، وكان يُفترض أن تعود إدارة الشبكات إليها، لكن لأن الاتجاه كان حينها نحو الخصخصة، وبالتالي حتى لو عادت ملكية القطاع إليها فبعد فترة قصيرة ستعود وتتنازل عنها، كانت الفتوى حينها بإنشاء شركتين خاصتين ومؤقتين لفترة 5 أشهر، يتم خلالها بيع القطاع. وقد تقرر بالفعل أن تؤسس شركة “ليبانسيل” شركة MIC2 ثم تتنازل عن أسهمها لمصرف فرنسبنك بالائتمان لصالح الدولة، وأن تؤسس شركة “سيليس” شركة MIC1 وتتنازل عن أسهمها لمصرف سرادار ثم لبنك عودة لاحقاً، بالائتمان لصالح الدولة أيضاً. بالفعل، بعد هذه الإجراءات استمرّت الشركتان بإدارة القطاع لصالح الدولة ما بين العامين 2002 و2004، أي إلى حين طرح مناقصة الإدارة والتشغيل، التي استمرت حتى انتقال الإدارة إلى وزارة الاتصالات بشكل تام.
يرفض القرم هذه المقارنة، معتبراً أن طبيعة العقد مع شركة “ليبان بوست” مختلفة عن طبيعة عقد الخلوي الذي كان عقد BOT (بناء وإدارة ونقل إلى الدولة)، فيما العقد مع شركة “ليبان بوست” لا يسمح بالحصول على ممتلكاتها ومعداتها بعد انتهاء عقدها وأي خطوة خلاف ذلك ستكون بمثابة وضع اليد على ممتلكات الشركة.
آلية استرداد البريد
يفوت وزير الاتصالات أن عقد “ليبان بوست” هو في الواقع عقد BOT في مضمونه أيضاً. فعند التعاقد مع الشركة الكندية للبريد، حصلت على كل الإمكانات التي كانت متوفّرة في مديرية البريد، ومنها المكاتب والمراكز الخاصة بالبريد، لاسيما في المطار ورياض الصلح، كما استعانت بعدد كبير من موظفي الوزارة، أضف إلى أن العقد معها يفرض استعادة الدولة للقطاع بعد انتهاء مدة إدارتها له. ففي مقدمة العقد الموقع في العام 1999 مع الشركة الكندية، والتي لا تزال سارية حتى اليوم، إشارة واضحة إلى أنه بعد انتهاء مدة العقد “يعاد نقل الخدمات إلى الوزارة”. كما أن هذا العقد يحدد في المادة 47 منه ما هي الأمور التي ينبغي أن يحولها المشغّل إلى الدولة، ومنها على سبيل المثال:
- الخدمات البريدية جاهزة للاستعمال كلياً.
- الخبرة المكتسبة فيما يتعلق بالبيع والتسويق والتخطيط والبرمجة والإدارة المالية وخطط العمل وإدارة العمليات.
- الأصول ذات الصلة، أي جميع الأصول المملوكة من قبل المشغّل والمتعلقة بتشغيل وصيانة الخدمات البريدية.
- العقود ذات الصلة، أي العقود مع الأشخاص الثالثين والتي دخل فيها المشغل بهدف تشغيل وصيانة الخدمات البريدية.
- الأبنية وكافة الأصول المملوكة من قبل المشغّل والمتعلّقة بها.
- الآليات، أو أي منقولات أخرى تكون متوفرة لمستخدمي المشغل.
وتوضح الفقرة الثانية من المادة نفسها أنه في تاريخ التحويل يجب أن تكتسب وزارة البريد حق ملكية شامل على مجمل الخدمات البريدية، بما فيها كافة التجهيزات والأنظمة المتعلقة بقطاع الخدمات البريدية. على أن تصبح بعد ذلك مسؤولة عن تشغيلها وصيانتها. بالاضافة إلى ذلك يجب أن تكتسب الوزارة قوائم المشتركين والفواتير والقوائم البريدية وجميع المعلومات التقنية والمعلومات التجارية.
أما في ما خص عدم قدرة الوزارة على إدارة القطاع بأربعة موظفين فتظهر موازنة 2022 أن موازنة الرواتب وملحقاتها في المديرية تصل إلى 6.3 مليار ليرة، وهي وفق معدل الرواتب في القطاع العام تغطي رواتب نحو 40 موظفاً. علماً أن عدداً من مراكز البريد لا تزال تدار من قبل الوزارة. أضف إلى أن تجربة الخلوي تنفي الحاجة إلى وجود كادر بشري كبير في الوزارة، فالشركتان تُداران حالياً من الكادر البشري الذي كان موجوداً عندما كانت الإدارة تابعة لشركة خاصة، والأمر نفسه يمكن تكراره مع “ليبان بوست”، بحيث يستمر الموظفون العاملون حالياً في أعمالهم على أن تكون الوزارة هي المشرف من خلال مجلس إدارة يمثلها.
وهذا الأمر سبق أن تناولته هيئة التشريع والاستشارات في استشارة صادرة في العام 2019 بشأن عقد تشغيل البريد (رقم 675/ا/2019). وقد أشارت فيها إلى أنه “في حال انتهاء مدّة العقد نكون قد أصبحنا في مرحلة التشغيل الذي يجب أن يتم إما عبر تلزيم إدارة واستثمار هذا المرفق عن طريق مزايدة علنية وإما مباشرة بواسطة الدولة التي تدير عندها هذا المرفق وتستثمره بالاستعانة بمستخدمي الشركة الذين يكتسبون عندها صفة العمال العموميين وأيضاً بالاستعانة بالتجهيزات والآليات التي تعود ملكيتها بانتهاء العقد إلى الدولة دون أن ننسى المكاتب التي هي إما ملك الدولة فتعود لها أو مستأجرة فتنتقل الإجارة للدولة”.
وبذلك، فإن المطلوب من وزير الاتصالات، بدلاً من إعلان عجز الوزارة عن إدارة القطاع، الإسراع في تنفيذ العقد لناحية إنشاء لجنة تنسيق مع المشغّل تسمى لجنة التحويل (تتألف من خمسة أعضاء ثلاثة منهم تعيينهم الوزارة ويكون الرئيس من بينهم، واثنان يعينهم المشغل)، على أن تعاين التجهيزات والأنظمة المستعملة في قطاع الخدمات البريدية وتحرر قائمة بها وبوضعها الحالي مع جردة لقطع الغيار والأشياء القابلة للاستهلاك والعقد ذات الأصول والأصول (المادة 47.2.4). كما يجب على اللجنة أن تؤمن تسليم سهل لخدمات البريد بحيث تكون جاهزة للاستعمال عند تاريخ التحويل.