“
تطرح الأزمة التي اندلعت بين أركان الحكم في لبنان حول مرسوم منح سنة أقدمية لضباط الجيش الذين تخرجوا سنة 1994 مسألة مهمة تتعلق بمدى اعتباطية السلطة السياسية التي تعتبر أن النظام القانوني مرهون بإرادتها متناسية عن جهل أو دراية أن الصلاحيات هي اختصاصات منحتها القوانين للمؤسسات، بحيث لا يحق للأشخاص القيمين عليها ممارستها إلا بتفويض قانوني وفي حدود التشريعات النافذة. وعقب اندلاع الأزمة، طلب رئيس مجلس الوزراء من مصلحة الجريدة الرسمية عبر الأمين العام لمجلس الوزراء التمهل في نشر المرسوم ريثما يتم التوصل إلى تسوية سياسية وايجاد المخارج “التوافقية” التي لطالما كان لها الكلمة الفصل والأخيرة في لبنان بغضّ النظر عن مدى احترامها للمبادئ القانونية. لذلك سنحصر بحثنا في نقطتين: الأولى تتعلق بصدور المرسوم دون توقيع وزير المالية والثانية بطلب رئيس الحكومة بعدم نشر المرسوم.
توقيع وزير المالية بقوة المساومة أم بالقانون؟
نصت المادة 54 من الدستور بشكل واضح على التالي: “مقررات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصّون، ما خلا مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة”. تعتبر هذه المادة من المسلمات في النظم البرلمانية كون رئيس الدولة غير مسؤول أمام السلطة التشريعية، ما يفرض اقتران جميع المراسيم الصادرة عنه بتوقيع الحكومة التي تتحمل مسؤوليتها وتخضع للمحاسبة السياسية أمام مجلس النواب. وقد اعتبر مجلس شورى الدولة في لبنان أن توقيع الوزير المختص ليس فقط معاملة جوهرية تتعلق بشكل المرسوم بل هو يدخل في قواعد الاختصاص إذ “ان توقيع الوزير المختص المرسوم ليس أمرا شكليا لازما فحسب بل أنه من المقومات الجوهرية لتكوين المرسوم الصادر لتعلقه بالصلاحية. وعلى هذا، فإن خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختص يجعل هذا المرسوم عملا إداريا باطلا لصدوره عن سلطة غير صالحة” (قرار رقم 133 تاريخ 4/12/1997). لذلك، تعتبر قضايا الصلاحية من الانتظام العالم التي توجب على القضاء الإداري إثارتها عفوا.
وقد نصت المادة 47 من المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16/9/1983 (قانون الدفاع الوطني) بشكل صريح على التالي:
“يمكن منح الضباط أقدمية للترقية تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنتين تقديرا لأعمال باهرة قاموا بها خلال عمليات حربية أو عمليات حفظ الأمن او اشتباك مسلح في الداخل.
تمنح الأقدمية للترقية بموجب مرسوم بناء على اقتراح وزير الدفاع الوطني المبنيّ على إنهاء قائد الجيش وموافقة المجلس العسكري”.
وهذا النص يعني أن المادة المذكورة جعلت من مرسوم منح القدم مرسوما عاديا لا يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء بل اشترطت فقط صدوره بناء على اقتراح وزير الدفاع. ويُشار إلى أن جميع المراسيم وفقا للمادة 54 من الدستور يجب أن تقترن بتوقيع رئيس مجلس الوزراء، باستثناء مرسوم قيول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة ومرسوم تسمية رئيس الحكومة.
وقد اعتبر مجلس شورى الدولة الفرنسي أن الوزير المختص هو أساسا الوزير الذي يقع على عاتقه تحضير العمل المعني وتطبيقه (CE sect. 10 Juin 1966, Pelon et autres). وذهب مجلس شورى الدولة في لبنان في الاتجاه نفسه في أكثر من قرار له (قرار رقم 70 تاريخ 13/11/1997). وهو يوضح في هذا الإطار “أن وزير المالية يجب أن يوقع كل المراسيم التي تترتب عليها بصورة مباشرة وحتى بصورة غير مباشرة نتائج مالية او أعباء على الخزينة” (قرار رقم 74 تاريخ 16/11/1995). وعليه، فإن المعيار لاشتراط توقيع وزير المالية هو أن يترتب على المرسوم نتائج مالية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو أمر لا ينطبق على مرسوم منح القدم، كون رواتب الضباط المعنيين لم تتغير. وعليه، لا يحتاج هذا المرسوم إلى توقيع وزير المالية كونه لا يدخل في اختصاصه وهو أصلا لا يتولى تحضير المرسوم أو اقتراحه أو تطبيقه. وبالفعل صدرت في الماضي عدة مراسيم مماثلة كالمرسوم رقم 6763 تاريخ 2/11/2011 الذي قضى بمنح ضابطين في الجيش قدما للترقية بسبب مشاركتهما بالتصدي للعدو الاسرائيلي في منطقة العديسة، وقد نشر هذا المرسوم في العدد 54 من الجريدة الرسمية وهو لم يحمل توقيع وزير المالية.
في مطلق الأحوال، وبغض النظر عن المحاججة القانونية، إن معالجة هذه القضية لا يجب أن تتم عبر التفاوض السياسي وتقاسم المغانم والمصالح بين الأحزاب السياسية بل عبر تقديم طعن بالمرسوم المشكو منه من قبل المتضررين أمام مجلس شورى الدولة إذ انه المرجع الوحيد الصالح لحسم هذا الأمر من الناحية القانونية.
ممارسة جديدة: التريث بنشر مرسوم
إن الأعمال الإدارية سواء كانت تنظيمية أو فردية تصبح مكتملة وحائزة على توصيفها القانوني بمجرد توقيعها من قبل المراجع المختصة حتى لو لم يتم إذاعتها وشهرها (publicité) عبر الوسائل المناسبة، وفقا للإجتهادين اللبناني والفرنسي ( CEF, syndicat national des chemins de fer de France et des colonies, 18 juillet 1913) . فعدم إشهار العمل الإداري يمنعه في المبدأ من الدخول في حيز التنفيذ ويمنع الطعن به كون سريان مهلة الطعن متعلقة بشهر العمل الإداري. وتختلف طرق إشهار العمل الإداري إذ يتوجب نشر (publication) الأعمال التنظيمية في الجريدة الرسمية أو عبر تعليقها (affichage) بينما الأعمال الفردية لا تحتاج بغية نفاذها إلى النشر بل مجرد تبليغ الشخص المعني (notification). وعليه، يشكل إشهار العمل الإداري شرطا ضروريا لانتاج مفاعيله القانونية تجاه المعنيين به أو تجاه الغير باستثناء الأعمال الفردية (أي غير التنظيمية) المكسبة للحقوق، أي التي تؤدي إلى إنشاء حقوق تصب في مصلحة أشخاص معينين. فمجرد توقيع العمل يصبح كافيا وفقا لإجتهاد مجلس شورى الدولة الفرنسي (CE, Sect. 19 décembre 1952, Delle Mattéi). وهذا ما أكده أيضا العلامة “شابو” في كتابه المرجعي:
« L’entrée en vigueur de celles de ces décisions (individuelles) qui sont favorable à leurs destinataires, et notamment qui sont de nature à leur conférer des droits, a lieu (et cela est certain) sans qu’aucune mesure d’information officielle soit nécessaire, dès la signature de ces décisions » (René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, p. 1121).
إن مرسوم منح القدم لدورة 1994 تم توقيعه من قبل المراجع المختصة وقد أصبح بالتالي مكتملا من الناحية القانونية وهو عمل غير تنظيمي من شأنه أن ينشئ حقوقا مكتسبة وبالتالي لم يعد من الممكن أن يتعرض للإلغاء (abrogation) أو السحب (retrait) إلا في حال كان مخالفا للقانون ( أي غير مشروع) وضمن مهلة الطعن[1]. فصدور المرسوم يعني أنه خرج من السلطة الاستنسابية للمراجع المخولة بالتوقيع عليه إذ ان السلطة الاستنسابية تتدخل في المرحلة السابقة على اتخاذ المرسوم أو القرار لكنها تصبح منعدمة فور صدوره وبالتالي لا يحقّ لأي سلطة كانت أن تتدخل لاحقا بغية منع نشره.
إن الفجوة بين إصدار المراسيم ونشرها الفعلي هو أمر خطير يفتح الباب أمام اعتباطية السلطة السياسية التي قد تتدخل لتحول دون إعطاء المرسوم مفاعيله القانونية رغم أنه بات مكتملا ولم يعد يحق للسلطة المعنية التعرض له إلا ضمن شروط صعبة استنبطها القضاء الإداري بخصوص الإلغاء أو السحب. وقد ظلت هذه الفجوة ثغرة في البناء القانوني اللبناني ولم يتم تداركها إلا سنة 1997 مع صدور القانون الذي اقترحه الرئيس حسين الحسيني والمتعلق بمهل نشر القوانين والمراسيم (قانون رقم 646) إذ نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى منه على التالي: “تطبيقا لاحكام الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور تنشر المراسيم في الجريدة الرسمية خلال مهلة اقصاها خمسة عشر يوما من تاريخ إصدارها”.
وهكذا نلاحظ أن صدور المرسوم يحتم نشره خلال خمسة عشر يوما كحد أقصى في الجريدة الرسمية أي أن رئيس مجلس الوزراء أو أي جهة كانت لا يحق لها طلب منع نشر المرسوم. ففي حال قبلنا جدلا طلب رئيس الحكومة تأخير النشر كون المهلة المحددة لم تنصرم بعد، فهل لو فرضنا مثلا أن الأطراف المعنية لم تصل إلى التسوية المطلوبة سوف يتم تجميد نشر المرسوم حتى لو انقضت المهلة ريثما يتم التوافق السياسي.
إن طلب رئيس الحكومة بتأخير نشر المرسوم، بغض النظر عن دوافعه، يفتح الباب واسعا أمام حالة من انعدام الاستقرار القانوني ويؤدي إلى هيمنة الاعتبارات السياسية وتمهيش الحصانة القانونية التي يمنحها اجتهاد القضاء الإداري للأعمال غير التنظيمية المكسبة للحقوق.
[1] “وبما ان القرار المطعون فيه يدخل في فئة القرارات غير التنظيمية التي من شأنها ان تنشىء حقوقا مكتسبة غير انه بالامكان سحبها عندما يتوافر شرطان: الاول ان تكون معيوبة بعدم الشرعية والثاني ان لا تكون اصبحت نهائية وبعبارة اخرى ان يتم سحبها في خلال مهلة الطعن فيها امام القضاء” (م.ش.ل. قرار رقم 12 تاريخ 7/10/1996). تجدر الإشارة هنا أن الاجتهاد الفرنسي تغير منذ القرار Ternon سنة 2001 في هذا المجال ولم يعد مماثلا لما هو معمول فيه في لبنان اليوم.
“