“
مؤخرا، دعا رئيس المجلس النيابي نبيه بري النواب إلى جلسة بتاريخ 6 و7 آذار لانتخاب 7 أعضاء أصليين وثلاثة احتياطيين في المحكمة الخاصة لمحاكمة الرؤساء والوزراء، من بين صفوفهم. فضلا عن ذلك، وبناء على طلب وجهه الرئيس بري، دعا رئيس محكمة التمييز القاضي جان فهد رؤساء غرف محكمة التمييز لتسمية الأعضاء القضاة والنائب العام ومساعديه في هذه المحكمة الخاصة. ويلحظ أن قانون إنشاء هذه المحكمة جعل القضاة غالبية فيها (8 قضاة مقابل 7 نواب) بهدف تغليب الطابع القضائي على الطابع السياسي، ونص على تعيين النائب العام ومساعديه فيها من بين القضاة أيضا للغاية نفسها.
وقد جاءت استجابة القاضي فهد لافتة في هذا السياق: ففي غضون أيام، تمّ اختيار القضاة في هذه المحكمة، استباقا لجلسة انتخاب الأعضاء النواب. وبذلك، أتمّ الرئيس فهد المطلوب منه ضمن أقصر المهل، بما يظهر القضاء على أتم الاستعداد لأداء الدور المطلوب منه في أعمال المحاسبة.
إلا أن التدقيق في شروط تسمية هؤلاء القضاة يظهر مخالفة جسيمة لقانون إنشاء المحكمة أدت إلى تغيير هوية القضاة، على نحو يعزّز الشكوك بشأن مصداقية المحكمة واستقلاليتها، كما يعزز الادّعاءات بأن إنشاء هذه المحكمة لا يعدو كونه عملا دعائيا، موجها ربما للجهات المقرضة أو المانحة لتحسين مرتبة لبنان على السلم الدولي في مكافحة الفساد. فالمادة 80 من الدستور كما المادة 2 من قانون إنشاء المحكمة الخاصة نصتا على تسمية القضاة الأعلى رتبة، فيما خرجت التسمية عن هذا المعيار كما نبين أدناه. وهذا ما حملنا إلى تضمين عنوان هذا المقال عبارة أنها ولدت مشوهة، بحيث أن تغيير آلية تسمية القضاة الأعضاء يؤدي إلى تقويض إحدى ركائزها “الدستورية” والتي تتمثل ليس فقط أن تكون غالبية أعضائها من القضاة، بل أيضا أن يتم تحديد هوياتهم بطريقة منزهة عن أي اعتبار سياسي.
وقبل المضي في شرح حجم هذه المخالفة ومخاطرها، تجدر الإشارة إلى أن محاسبة الوزراء والنواب لم تحصل يوما وفق بنود الدستور، أقله في ظل دولة ما بعد الطائف. وهذا الأمر لا يتأتى فقط عن التقاعس في تعيين أعضاء المحكمة المنشأة قانونا منذ 1990، ولكن بشكل خاص عن كون إتهام الوزراء أمامها لا يتم إلا بقرار يوافق عليه ثلثا أعضاء النواب، وهو أمر قد يستحيل في ظل النظام التوافقي والتماهي بين مجلسي النواب والوزراء. وتجدر الإشارة هنا إلى محاولات القضاء العدلي في بداية عهد الرئيس إميل لحود بالتخفيف من الحصانة الدستورية الممنوحة للوزراء من خلال حصرها في المخالفات المرتبطة مباشرة بأداء الوزير لأعماله، إلا أن هذه المحاولات تم تقويضها بقرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز في سنة 2000.
مخالفة جسيمة في تعيين الأعضاء القضاة
إذاً كما سبق بيانه، ما أن تبلّغ القاضي فهد كتاب بري حتى أسرع إلى دعوة رؤساء غرف التمييز الذين انتهوا إلى تسمية القضاة الآتية أسماؤهم: جان فهد وجوزف سماحة وميشال طرزي وكلود كرم وجمال الحجار وسهير الحركة وعفيف الحكيم ورولا جدايل. ويلحظ أن جميع هؤلاء هم رؤساء غرف محكمة التمييز، ما عدا رولا جدايل التي هي الرئيسة الأولى لمحكمة استئناف الجنوب. كما تم اختيار القاضي سمير حمود نائبا عاما لهذه المحكمة، فضلا عن اختيار قضاة ونواب عامين احتياطيين.
وفيما استندت هذه التسمية إلى المادة 2 منه التي نصت على أن محكمة التمييز بجميع غرفها تسمي “بعد نشر هذا القانون، القضاة العدليين الثمانية … الأعلى رتبة حسب درجات التسلسل القضائي بمن فيهم الرئيس”، فإن التدقيق في شروطها يظهر مخالفات جسيمة ثلاث هي الآتية:
المخالفة الأولى تمثلت في تقاعس محكمة التمييز عن أداء واجبها قرابة 30 سنة. فالمادة الثانية من القانون تذكر أن التسميات والتعيينات تجريها محكمة التمييز بعد نشر القانون، الحاصل في 1990. ولا يرد على ذلك بأن محكمة التمييز لم تتلقّ أي طلب من المجلس النيابي من قبل وأنها سارعت إلى تلبيته بسرعة قياسية فور وروده، ذلك أن النص وضع على عاتقها إجراء التعيينات والتسميات من دون اشتراط أي إجراء سابق. وأنها لو فعلت من قبل لكانت ربما أحرجت السلطة السياسية وحثتها على الالتزام بمسؤوليتها في هذا المضمار، بحيث تظهر قدوة للسلطة الحاكمة وليس تابعا لها.
المخالفة الثانية، أن التسمية والتعيين حصلا من مرجع غير مختص، مما يشكل أيضا مخالفة جسيمة لقانون إنشاء المحكمة. فالمادة 2 منه أناطت مسؤولية التسمية والتعيين بجميع غرف محكمة التمييز، أي بجميع أعضائها، وليس فقط برؤسائها كما حصل فعليا. وعليه، تكون هذه التسميات والتعيينات قد صدرت عن جهة غير مختصة، مما يجعلها باطلة حكما. وما يزيد هذه المخالفة جسامة هو أن رؤساء غرف محكمة التمييز عمدوا، فور استئثارهم بسلطة التسمية والتعيين، إلى تسمية أنفسهم قضاة في المحكمة بحيث اقتصرت تسمية القضاة من خارجهم على عضو واحد، هي القاضية رلى جدايل.
المخالفة الثالثة، أن رؤساء غرف التمييز خالفوا المعيار المنصوص عليه في الدستور والقانون والذي يتمثل في تسمية القضاة الأعلى رتبة. فبخلاف هذا النص الذي يجرّدهم من أي سلطة تقديرية في هذا المجال، بدا هؤلاء وكأنهم أعطوا تفسيرا غامضا لمفهوم “الأعلى رتبة”، على نحو منحهم هامشا واسعا في اختيار الأعضاء. وتبيانا لهذه المخالفة، يقتضي تبيان المعطيات الآتية:
1- أن إرادة المشرّع التي نستشفها من النصين الدستوري والقانوني انصرفت إلى وضع معيار موضوعي (الأعلى رتبة) لتسمية القضاة الأعضاء على نحو لا يترك لمحكمة التمييز أي سلطة تقديرية. وقد هدفت هذه الإرادة كما سبق بيانه إلى ضمان تسمية غالبية أعضاء المحكمة بشكل تلقائي، منزه عن أي اعتبار سياسي، بحيث يغلب الطابع القضائي على الطابع السياسي في عمل هذه المحكمة. وتتجلى هذه الإرادة بوضوح كلي من خلال استخدام عبارتين مختلفتين في تحديد دور محكمة التمييز: الأولى وهي “التسمية” التي تنطبق على قضاة المحكمة والتي تعني غياب أي هامش في تحديد هوية الأعضاء، والثانية وهي “التعيين” التي تنطبق على النائب العام ومساعديه والذي يفيد إعطاء محكمة التمييز هامشا في هذا الخصوص. وهذا أيضا ما نستشفه من النص الدستوري (المادة 80) حيث جاء صراحة أن المجلس الأعلى يتألف “من سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب وثمانية من أعلى القضاة اللبنانيين رتبة حسب درجات التسلسل القضائي أو باعتبار الأقدمية إذا تساوت درجاتهم ويجتمعون تحت رئاسة أرفع هؤلاء القضاة رتبة”.
2- أنه بخلاف قضاة مجلس شورى الدولة حيث ينقسم القضاة إلى رتب (رئيس غرفة، مستشار، مستشار معاون)، يتمثل معيار التمييز الوحيد الموضوعي والمحدد قانونا بين القضاة العدليين في “الدرجة”، وهو معيار يقيس أقدمية القاضي وخبرته بمعزل عن المركز الذي تبوأه. ومن النافل القول أن غياب التراتبية والتسلسلية في القضاء العدلي ليس من قبيل الصدفة، إنما هو في أساس تنظيمه وفلسفته، حيث يفترض أن تكون القاعدة هي المساواة بين القضاة، ضمانا لاستقلال أصغر القضاة عن تأثير أكبرهم. وعليه، وفيما كان يجدر برؤساء غرف التمييز أن يعتبروا مفهوم “الأعلى رتبة” مرادفا لمفهوم الأعلى درجة لانعدام التراتبية داخل القضاء العدلي، ذهبوا على العكس من ذلك إلى التفريق بينهما في اتجاه استحداث هذه التراتبية. ومن أول تجليات هذا التوجه، تعيين القاضي جان فهد رئيسا للمحكمة، على أساس أنه الأعلى رتبة، فيما أنه ليس الأعلى درجة وهذا ينطبق على العديد من الأعضاء الذين يقلّون درجة عن الكثير من القضاة العاملين.
3- أنه على فرض أن المشرع قصد التفريق بين الرتبة والدرجة (وهو تفسير غير منطقي ويخالف فلسفة تنظيم القضاء العدلي كما بينا أعلاه)، فإن التدقيق في التسميات الحاصلة يظهر أن رؤساء غرف التمييز طبقوا مفهوم “الرتبة” المستحدث وغير المحدد قانونا لاستبعاد مفهوم “الدرجة”، من دون أن يتكبدوا عناء تحديده. فهل اعتبر رؤساء غرف التمييز أنهم يتولّون الرتبة العليا؟ وفي هذه الحالة، لماذا لم يتم اختيار كامل الأعضاء الثمانية من بين هؤلاء (وعددهم عشرة) كما توجب المادة 80 من الدستور والمادة 2 من القانون؟ لماذا تم اختيار رئيسة محكمة استئناف جدايل بالأفضلية على بعض رؤساء غرف محكمة التمييز كالقاضي روكز روق؟ ثم، كيف نصنف رتبة النائب العام التمييزي (وهو نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى) والذي تم استبعاده من التسمية ليعين من ثم نائبا عاما للمحكمة؟ فهل تعدّ رتبته أدنى من رتبة رئيسة محكمة الاستئناف؟ على ضوء هذه المعطيات، يظهر أن رؤساء غرف التمييز تصرفوا على نحو ملتبس: فبعدما استبعدوا معيار الأعلى درجة، عادوا وعملوا وفق معيار ضبابي مرن يقبل التجاوز والاستثناء، وعلى نحو يعطيهم هامشا واسعا في “التسمية” التي باتت بفعل ذلك أقرب إلى التعيين.
هذا ما أمكن قوله بشأن المخالفات الثلاث. بقي أن ننظر إلى الأضرار الناجمة عنها.
الأضرار الناجمة عن المخالفة المذكورة
التحليل المنطقي للمخالفة المشار إليها أعلاه بمعزل عن الأشخاص الذين تم تعيينهم أو كان يجدر تعيينهم، هو أنها تؤدي إلى أضرار جسيمة على أكثر من صعيد. ومن أبرز هذه الأضرار، الآتية:
1- أنه يؤدي إلى حرمان قضاة عدة من مناصب مستحقة قانونا، وهم القضاة الأعلى درجة (الأعلى رتبة). وما يزيد هذا الحرمان جسامة هو أن رؤساء غرف التمييز بدوا وكأنهم يستولون على مناصب ليست لهم عنوة،
2- أنه يؤدي إلى إضعاف الثقة بقضاة المحكمة وتاليا بمسار المحاسبة برمته، طالما أن تسميتهم تمّت بقرار ذاتي، وعلى أساس معايير غير موضوعية، والأهم بمخالفة للقانون الذي يفرض أن تجري التسميات من دون أي سلطة تقديرية وعلى نحو يجعلها منزهة عن أي اعتبار سياسي كما سبق بيانه. وما يضعف الثقة أيضا فأيضا هو أن اختيار الأعضاء من أصحاب المراكز العالية يؤدي نظريا وفي ظل كيفية وضع التشكيلات القضائية إلى اختيارهم من ضمن القضاة المقربين بطريقة أو بأخرى من السلطة،
3- أنه يؤدي إلى إضعاف ضمانات الاستقلالية لقضاة المحكمة. فأن تربط العضوية بتبوؤ القاضي مركزا قضائيا معينا يؤدي إلى فقدانها فور فقدانه هذا المركز، وهو أمر ممكن بإرادة السلطة الحاكمة في أي حين طالما أن النظام اللبناني لا يضمن للقاضي مبدأ عدم نقله إلا برضاه. واحتمال فقدان العضوية بفقدان المركز ينطبق حتى على رئيس المحكمة (رئيس مجلس القضاء الأعلى) الذي يمكن عزله بموجب مرسوم في مجلس الوزراء في أي حين تماما كما حصل مع رئيس مجلس شورى الدولة. بالمقابل، يكون الأمر مختلفا لو حصلت التسمية وفق الدرجة، الذي هو معيار موضوعي ليس بوسع السلطة الحاكمة التأثير فيه.
4- فضلا عن ذلك، ثمة أضرار جسيمة على تنظيم القضاء العدلي تبعا للتوجهات التي ترافقت مع التسمية أو رشحت عنها. فعدا عن أن رؤساء غرف التمييز أدخلوا مفهوم التراتبية إلى القضاء العدلي، بما يتعارض مع فلسفته الأساسية المشار إليها أعلاه، فهم لم يجدوا حرجا في تجريد مستشاري التمييز من أي دور في التسميات والتعيينات في هذا الخصوص، خلافا لنص قانوني صريح. وهذا الأمر يعكس إرادة في الاستئثار بالسلطة، على أنقاض التشاركية الواجبة بين القضاة في إدارة شؤونهم الذاتية. فبدل توسيع مدى هذه التشاركية، ترى رئيس محكمة التمييز ومعه رؤساؤها يعمدون إلى نقض أوجه التشاركية المكرسة قانونا.
هذا ما أمكننا قوله في هذا الخصوص، آملين أن يصار إلى تصويب التسميات والتعيينات على نحو يجعلها على وفاق مع النص الدستوري والقانون. فمن المؤسف حقا أن تلد هذه المحكمة بعد 30 سنة من الانتظار، مشوّهة إلى هذا الحدّ.
“