أربع سنوات مرّت على ادّعاء المصلحة الوطنية لنهر الليطاني على 18 مستشفى تساهم في تلويث نهر الليطاني وبحيرة القرعون بنفايات خطرة تضمّ مضادات حيوية وقد تنقل العدوى، وفق المصلحة، ولا تزال المحاكمات بحق المعتدين على مجرى نهر الليطاني مستمرّة، ومن بينها المستشفيات. أربع سنوات وما زالت معظم المستشفيات الملوثة ترفض تركيب محطّات تكرير ومعالجة لنفاياتها السائلة والعضوية والصلبة، وتستمر في رمي نفاياتها “القاتلة” في النهر، ممعنةً في ارتكاب جرائمها تجاه أكبر ثروة مائية في لبنان، وتجاه البيئة والمجتمع الذي تعمل على إمراضه بدلاً من علاجه.
وكان القاضي المنفرد الجزائي في زحلة محمد شرف، قد نظر نهار الخميس في تاريخ 31 آذار 2022، في أكثر من 50 ملفاً لمعامل ألبان وأجبان ومعامل باطون، ومستشفيات ومنتجات غذائية، ادّعت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني ضدّها بتهمة تلويث مياه الليطاني وبحيرة القرعون.
وبلغ عدد دعاوى المصلحة على ملوّثي النهر أكثر من 100 دعوى قضائية على مؤسّسات تقع ضمن نطاق منطقتي بعلبك (منبع الليطاني) وزحلة، حيث صدرت أحكام بحق 42 منها أجبر معظم أصحابها على تركيب محطات لتكرير المياه، وعدادات، ودفع تعويضات مالية عن الفترة السابقة بالإضافة إلى إصلاح الوسط البيئي للنهر.
كذلك تمّ الادّعاء على عدد كبير من البلديات الذي تسلّط مياهها الآسنة إلى مجرى الليطاني من دون معالجة، وهي تعتبر من الملوّثين الأساسيين بحسب محامي المصلحة علي عطايا، الذي أفاد أنّ محاكمة هؤلاء أمام المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم لا تزال عالقة.
مضمون المحاكمات
تنوّعت جلسات المحاكمات يوم الخميس بين جلسات خصّصت للمرافعة، وأخرى خُتمت فيها المحاكمة، وثالثة أرجئت لإفهام الحكم إلى تاريخ 19-5-2022، كرّر خلالها عطايا مطالب المصلحة بإدانة الملوّثين عن المرحلة السابقة، وتركيب العدادات لقياس كميات المياه الملوّثة والتدقيق في الأرقام الناتجة عن محطّات التكرير في حال تركيبها، والسماح للمصلحة بأخذ عيّنات دورية لمراقبة الفعالية، كما إصلاح الوسط البيئي.
ملفات أخرى، وصلت إلى خواتيمها، تمّ تأجيلها لمرافعة الفرقاء للتاريخ عينه (19 أيار المقبل). وبعض الملفّات لم يرد فيها تقارير خبراء البيئة النهائية فأرجئت، على أن يتمّ التواصل مع الخبراء للوقوف عند أسباب التأخير. وملفّات يتلكّأ فيها المتّهمون عن استقدام العروض لتركيب محطات التكرير، وهؤلا معظمهم من المستشفيات التي “ليس لديها نيّة التركيب”، بحسب عطايا، الذي طالب بإدانتها مع غرامة إكراهية عن كل يوم تأخير في تركيب المحطة، وقد أرجئت معظم الجلسات إلى تاريخ 19-5- 2022، في حين تعذّر تبليغ عدد كبير من المتهمين لأسباب تتعلق بتغيير عناوينهم.
مستشفيات البقاع هي الداء أيضاً
على الرغم من أنّ تاريخ تأسيس المستشفيات، الخاصّة منها والحكومية، يعود لعقود طويلة، إلّا أنّ أحداً من الجهات الرقابية المسؤولة لم يلزمها تطبيق القوانين للحفاظ على المعايير البيئية والصحية اللازمة. ولا بد من السؤال، كيف تحوز جميع هذه المؤسسات على تراخيص لمباشرة أعمالها من دون أن تكون مطابقة لشروط الأثر البيئي على الأقل، وتركيب الأجهزة والفلاتر التي تعالج نفاياتها الطبية سواء السائلة أو الصلبة أو العضوية. من جهة ثانية، تضرب محاكمة المستشفيات بتهم تلويث النهر، صورة “المستشفى” التي تحمل رسالة ووظيفة إنسانية تتمثل في معالجة المرضى، إلّا أنّها تحوّلت إلى مصدر لزيادة الموبقات وبالتالي الأمراض، ومن بينها السرطان الذي يفتك بسكان حوض البقاع بنسب تتخطى بـ 3 إلى 5 أضعاف المعدّل العام في لبنان.
وفي اتصالٍ لـ “المفكرة” برئيس مصلحة الليلطاني سامي علوية، اعتبر أنّه حتى اليوم لا تزال معظم المستشفيات تحوّل نفاياتها “الخطرة وغير الخطرة، والسامة وغير السامة، والكيميائية وغير الكيميائية، إلى مجرى الليطاني أو إلى شبكات الصرف الصحي من دون معالجة”، مضيفاً أنّ معظم المستشفيات المدّعى عليها “لم تقدم على تركيب محطات للتكرير، متذرعةً تارةً بجائحة كورونا، وطوراً بالظروف المادية والاقتصادية أو بالثغرات القانونية، حتى أنّ بعضها يحصل بتواطؤ مع وزارة الصحة”، بحسب علوية.
من جهةٍ ثانيةٍ يحذّر علوية من خطر استمرار تجمّع وتركّز المضادات الحيوية في بحيرة القرعون التي تأتي من تدفّق النفايات الصحّية السائلة، ومصدرها المستشفيات ومخلّفات الأبقار التي يتمّ حقنها بالمضادّات أيضاً، متسائلاً عن قدرة محطة الوردانية على معالجة هذه الكمية من المضادات وجعلها صالحة للاستعمال كمياه للشفة”، قبل إرسالها إلى بيروت في حال عمدت الدولة إلى تزويد بيروت بمياه الشفة من بحيرة القرعون كما كان مقرّراً عند التخطيط لسدّ بسري. مما يعني أنّ أهالي بيروت والضاحية سيشربون مياهاً ملوّثة بالإضافة إلى السيانوباكتيريا بنفايات السمتشفيات والمضادات الحيوية التي لا تعالجها محطة الوردانية.
وكانت مصلحة الليطاني قد عملت على تقييم المستشفيات الواقعة في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، من خلال كشفٍ تناول 18 مستشفى موجودة في المنطقة، واصفةً النفايات الصلبة والسائلة الصادرة عن المستشفيات والمؤسسات الصحية بالقاتلة، وأنّها تحتلّ مرتبة متقدّمة في خطرها.
وتشمل المؤسسات الصحية، المؤسّسات الطبية العامة والخاصة كالمستشفيات، والمختبرات الطبية، والعيادات الطبية بما فيها طب الأسنان، ومختبرات الأسنان، والمستوصفات، وعيادات والأطباء البيطرين، ومستودعات الأدوية، والصيدليات، ومعاهد التعليم العالي ومراكز الأبحاث.
وبيّن الكشف أنّ المستشفيات لا تقوم بمعالجة نفاياتها، بل تحوّل صرفها الصحي سواء إلى النهر مباشرة، أو إلى شبكة صرف صحي مسلّطة على النهر من دون معالجة، أو عبر تقنية الجور الصحية الترابية لتجميع النفايات الطبية السائلة لتتسرّب نحو المياه الجوفية، أو عبر تجميعها لتُنقل بالضخ إلى شبكة الصرف الصحي. وتكمن خطورة النفايات السائلة الآتية من النشاطات الصحية والتي لم تخضع للمعالجة، في تحويل كلّ النفايات الصحية السائلة إلى شبكات الصرف الصحي وليس فقط المياه المبتذلة.
وعلى الرغم من وجود قوانين ومراسيم وقرارات تصنّف وتنظّم طرق تخلص المستشفيات من نفاياتها، إلّا أنّ المستشفيات لم تلتزم بتطبيقها.
فقد صنّف المرسوم رقم 13389 الصادر في 18 ايلول العام 2004 أنواع نفايات المؤسسات الصحية وكيفية تصريفها، وقسّمها إلى أربعة فئات: نفايات غير خطرة تتولّد غالباً من الأقسام الإدارية والمطبخية، نفايات خطرة ومعدية ونفايات خطرة وغير معدية، نفايات تحتاج إلى طرق خاصة للتخلص منها، ونفايات مشعة تحتاج إلى تشريع خاص لمعالجتها.
كذلك عالج المرسوم النفايات السائلة الآتية من النشاطات الصحية، فأجاز رمي البراز والبول والدم في مجاري مربوطة بمحطة لمعالجة المياه المبتذلة، شرط معالجتها والتخفيف من أنشطتها الحيوية، ممّا يعني أنه يجب تجهيز محطات التكرير بهكذا تقنيات علاجية. أما النفايات الخطرة والمعدية فقد أوصى المرسوم التخلّص منها في منشآت متخصّصة بالترميد أو مطامر صحية مرخّصة من وزارة البيئة تبنى وفق مواصفات خاصة لهذا النوع من النفايات وذلك بنظام تقني يضمن حماية الصحة والسلامة البيئية، ولكن أيّاً من هذه الحلول لم يجد طريقه إلى التنفيذ.
من جهة ثانية أوجب القانون 63 /2016 والقرار رقم 32/2014 أنه على وزارة البيئة إقفال المكبات العشوائية ومحطات الفرز والتسبيخ، وضرورة إنشاء مركز لتعقيم النفايات الطبية في بعلبك، وارسال النفايات الطبية الصادرة عن مستشفيات قضاء زحلة إلى مركز تعقيم النفايات الطبية في زحلة، وترك مسألة معالجة النفايات السائلة الصحية والطبية على عاتق المستشفيات عبر محطات تكرير، وهو ما لم يحصل أيضاً.
وقد أشار التقييم إلى وجود خلل في الرقابة على المؤسسات الصحية إن لجهة حسن الإلتزام بالمرسوم رقم 13389 الصادر في 18 ايلول 2004، ولجهة تطبيق القرارات الصادرة عن وزارة البيئة.
المستشفيات تتلكأ في تركيب محطات لتكرير النفايات
بدا ملفتاً خلال جلسة محاكمة المستشفيات (البالغ عددها 9 مستشفيات تمّ تبليغها بالجلسة) تلكّؤ الأخيرة عن إنشاء محطات تكرير للنفايات السائلة، وعبّر محامي الادّعاء علي عطايا، في إحدى مرافعاته، عن وجود حالة من التواطؤ والاتّفاق بين مستشفيات البقاع على عدم تركيب محطّات، واضعاً ما يحدث في خانة الاستمرار في أسلوب الإهمال والتهرّب من المسؤولية المعتمّد منذ سنوات، والذي بدا واضحاً من ذرائع محامي الدفاع وحججهم، بحسب عطايا.
فلطالما تمنّعت الشركة العربية للخدمات الطبية، مستشفى البقاع، مثلاً عن دفع تكاليف الخبير البيئي للكشف، واعتبر محاميها أنّ المستشفى غير ملوّثة لمياه الليطاني، رافضاً تركيب محطة تكرير. روتين الجلسة اخترقها احتدام النقاش بين محامي المستشفى الذي سبق وسلّم القاضي، في جلسة سابقة، مستنداً بيئياً، ولم يسلّمه لمحامي الادّعاء كما درجت العادة في المحاكمات، اعترض عطايا على الأمر واحتدم النقاش القانوني حول ضرورة تسليم نسخة عن المستندات إلى الفريق الآخر من عدمه. واعتبر محامي الدفاع أنّه لا يحق لمصلحة الليطاني الادّعاء عليهم من دون إبراز الدليل على تلويثهم النهر، ليردّ عطايا أنّه يتوجّب على المؤسسات الكبيرة تحضير مستنداتها القانونية (والبيئية والصحية)، وإبقائها جاهزة لإبرازها عند استفسارات الجهات الرقابية، معتبراً أنّه من حقه كمحامي ادّعاء يمثّل المصلحة أن يتسلّم نسخة عن أي مستند يتم تقديمه للمحكمة، وهنا تدخّل القاضي لحسم النقاش وطلب إرسال مذكرة إلى وزارتي الصحة والبيئة لإرسال خبراء من قبلهم، بحضور الطرفين.
أما في محاكمة شركة مستشفى تلشيحا، فاعتبر محامي الدفاع عن المستشفى أنّه على الرغم من وجود النية لتركيب المحطة، إلّا أنّ الوضع الاقتصادي يقف حائلاً دون بناء محطة تكرير، خاصة وأنّ المستشفى “خيري” بحسب تصنيفه، متحجّجاً بتخلّف جميع المستشفيات عن تركيب محطات تكرير، معتبراً أنّهم غير ملوثين للنهر، مطالباً بإبطال التعقّبات بحق المستشفى. وهنا رفض عطايا ذرائع الدفاع غير المقنعة برأيه، فكونه مستشفى خيرياً هذا لا يعطيه الحق بتلويث النهر، كذلك تبريره بامتناع باقي المستشفيات عن تركيب محطات تكرير، وأرجئت الجلسة إلى 19-5-2022 لإصدار الحكم، وطلب عطايا إدانة المستشفى ودفع غرامة إكراهية عن كلّ يوم تأخير في تركيب المحطة.
من جهته، أفاد محامي مستشفى الهراوي الحكومي في زحلة، أنّهم باشروا باستدراج العروض لتركيب محطة تكرير، علماً أنّ المستشفى تأسّست في العام 1996، ومن المفترض أن تقوم بتركيب المحطة في حينها، وتمّ الادعاء عليها في العام 2018. من جهةٍ ثانيةٍ اعترض محامي المستشفى على الادّعاء على رئيس مجلس الإدارة والمعيّن من قبل مجلس الوزراء منذ أربع سنوات، فرد عطايا أنّ على رئيس مجلس الإدارة أن يتحمّل مسؤولياته خلال مدة ولايته، وأرجئت المحاكمة للمرافعة.
سيكومو الملوثة للنهر تتعهّد تكرير مياه المعامل
وفي محاكمة غريبة من نوعها، مثلت أمام القاضي محامي شركة “سيكومو”، وهي مؤسسة صناعية مركزها قب إلياس لصاحبيها ميشال أيوب وكريم حداد، لديها محطة تكرير قديمة غير كافية وتعمل خلافاً للمعايير. قامت الشركة مؤخراً بتركيب وحدة جديدة لمعالجة للنفايات السائلة الصناعية، (لم يتم الكشف عليها من قبل الخبراء البيئيين بعد)، رغم ذلك تقوم معامل النبيذ والشركات (المدعى عليهم بتلويث النهر) التي تعمل في المواسم، وتم إعفاءها من تركيب محطات تكرير خاصة، بالتعاقد مع “سيكومو” لنقل مياهها المبتذلة ونفاياتها السائلة لتكريرها ومعالجتها عبر محطتها للتكرير، ما يعني أنّ شركة مخالفة تقوم باستقبال مياه بقية الشركات لتنقيتها. وطلب محامي الادعاء عطايا القاضي شرف بضرورة توسيع صلاحيات الخبيرالبيئي للوقوف عند القدرة الاستيعابية لـ “سيكومو” وتعهّدها بمجمل هذه العقود، وذلك من باب الحرص على استدامة الحل، فهي من الشركات المدعى عليها ومن الممكن أن يصدر في حقها حكم قد يقضي بإقفالها، فماذا سيحلّ بالمعامل المتعاقدة معها وبنفاياتها؟ وأرجئت الجلسة إلى تاريخ 19-5-2022 بانتظار زيارة الخبير البيئي.
ومن بين المتّهمين الملفتين الذين مثلوا أمام القاضي كان صاحب شركة سيدة زحلة للباطون، الذي وعلى الرغم من تأكيده إقفال معمله وصرف العمال ودفع تعويضاتهم منذ 31-12-2021، إلّا أنّه بدا مستعدّاً للمضي قدماً في تركيب محطة تكرير للمياه، وتنفيذ قرارات المحكمة، وعليه طلب عطايا إبراز المستندات اللازمة للتثبت من أقواله بإقفال المعمل، وأرجئت الجلسة إلى 19-5-2022.
الأزمة ترخي ثقلها على قصر العدل في زحلة
لا يمكن للعابر إلى قصر العدل من بوابته الكبيرة، إلّا أن يشعر بأزمة وأوضاع قصور العدل ومنها قصر عدل زحلة عاصمة البقاع. فالمبنى متهالك، والأثاث قديم وبالي، ألوان الطلاء باهتة ومقشرة في بعض الأماكن، العتمة تلف القاعات والسلالم، وكلّ ذلك يشي بإهمال السلطة لهذا الصرح الذي يجب أن تتمّ تحت سقفه محاسبة الفاسدين والمهملين.
وتعكّر حضور الجلسات صعوبة سماع القرارات والأحكام والمرافعات، فعلى الرغم من أن المحاكمة علنية في الظاهر إلّا أنّها تبدو سرّية في التطبيق إذ لا يمكن للحضور سماع ما يدور بجوار القاضي، وعلى الرغم من وجود التجهيزات الصوتية على القوس أمام القاضي وأمام المحامين، إلّا أنّ أحداً منهم لم يضغط زرّ التشغيل، ربّما لافتراضهم المسبق عن استحالة وجود تسهيلات في التفاصيل اللوجستية كما درجت العادة، وما زاد من صعوبة سماع ما يجري هو الكمامات الواجب ارتداؤها كوقاية من جائحة كورونا.