يشكل تفعيل آليات المحاسبة داخل القضاء ضرورة لضمان استقلاله. وهذا الأمر ينتج عن اعتبارات عدة: فمبادئ الديمقراطية تفرض تعزيز محاسبة المسؤولين العامين بقدر ما تزيد مسؤولياتهم. كما أن طبيعة الوظيفة القضائية تفترض توفّر ثقة عامة بحيادية القائمين بها. ومن هنا، ثمة خلل متكرر في خطاب إصلاح القضاء ناتج عن فصل اشكاليات مساءلة القضاء عن اشكاليات استقلالهم أو العكس؛ فيما أن الصحيح هو اعتبارهما رافدين متلازمين لقيام السلطة القضائية. فمن شأن الاستقلالية بغياب المحاسبة أن تؤدي إلى ارتياب عامّ بالقضاء، وتاليا إلى تجريده من ضمانة الحماية الشعبية. ومن شأن المحاسبة بغياب ضمانات الاستقلالية أن تؤدي إلى تحويلها إلى وسيلة جديدة للمسّ باستقلال القضاء. وهذا ما قد يحصل من خلال المبالغة في تفعيلها في وجه من يعصى السلطة السياسية وحجبها عمّن ينسجم معها. وانطلاقا من ذلك، نجد في أدبيّات القضاء العديد من الوثائق التي تهدف إلى المواءمة بين ضرورات المحاسبة وضمانات الاستقلالية، كأن تُحاط محاسبة القضاة بضمانات أساسية منعا للتعسّف، أبرزها ضمان شروط المحاكمة العادلة لهؤلاء. وقبل المضيّ في شرح الضمانات التي اعتمدها المشرّع اللبناني في هذا المجال، تجدر الإشارة إلى أننا نشهد منذ فترة توجّها متزايدا لدى السلطات السياسية ومجلس القضاء الأعلى نحو إهمال “آليات المحاسبة العادية” (الشرعية) بل الالتفاف حولها بحجة أنها متعثرة للترويج لآليات أخرى من المحاسبة، جاز تسميتها ب “آليات المحاسبة البديلة أو الموازية”. ورغم اختلاف أشكال هذه الآليات البديلة، فإنها تشترك في خلوها من ضمانة المحاكمة العادلة، مما يمهد لتعزيز الانتقائية في المحاسبة وتاليا ممارسات وضع اليد على القضاء. وغالبا ما يستند الترويج لهذه الآليات إلى خطاب شعبويّ يتماهى مع مشاعر التململ العامّ إزاء الأداء القضائي ويصوّر السلطة السياسية “الخيّرة” على أنها تجهد لإنقاذ المواطنين من قضاء يتغلغل فيه الفساد والكسل واللاكفاءة. وهو خطاب يستند إلى تشخيص غير صحيح للمشكلة وتاليا إلى حلول غير ناجعة: ففيما هو يُخفي الأسباب الحقيقية لتعثّر آليات المحاسبة العادية والتي تتمثل في عمقها بتدخلات مزمنة للقوى السياسية لحماية القضاة المحسوبين عليها، فإنه يروّج لحلول توسّع إطار هذه التدخلات في عملية المحاسبة تحت غطاء “الإنقاذ”. فكأنما وصفة الإنقاذ المقترحة تقوم على معالجة الداء بالتي كانت هي الداء. ومن شأن ازدهار هذه الزواريب أن تؤدي تاليا تحت غطاء الإصلاح إلى إضعاف القضاء وتعميق استتباعه، أكثر مما تؤدي إلى تصويب عمله.
المحاسبة العادية: أوجه الضعف وأسباب التعثر
كما سبق بيانه، تُحاط آليات محاسبة القضاة وفق المعايير الدولية بضمانات لمنع استخدامها كأداة للتأثير في أعمالهم. وعملا بذلك، انتهى قانون تنظيم القضاء العدلي في لبنان إلى تكريس ضمانات عدة. فمن جهة، أنشأ القانون هيئة التفتيش القضائي وهي مكونة من قضاة حصرا يتمتعون بضمانات إضافية كضمانة عدم النقل إلا برضاهم، وقد أعطاها صلاحية حصرية في التحقيق في الشكاوى ضد القضاة وأعوانهم وإحالتهم إلى التأديب. ومن جهة ثانية، فصل القانون سلطتي الملاحقة والتأديب عن سلطة التحقيق المناطة بهيئة التفتيش القضائي. فمباشرة الملاحقة تعود لأي فرد متضرر، فيما تعود سلطة التأديب للمجلسين الابتدائي والاستئنافي المنشأين من مجلس القضاء الأعلى. إلا أنه على الرغم من أهمية هذه الضمانات، تكثر الدلائل على ضعف منظومة المحاسبة هذه: ويعزو البعض هذا الضعف لتكوين هيئتي التفتيش والتأديب من قضاة حصرا، والذين قلما يتحمسون لمحاسبة أقرانهم. إلا أن الوقائع تتحدث عن تدخلات سياسية، بعضها لا يخلو من العنف، في مختلف محطات هذه المحاسبة بهدف تعطيلها أو على الأقل حسرها.
ولعل التدخل الأقوى والأعنف والذي حصل في بداية فترة الوصاية السورية وبقي ماثلا في ذاكرة الهيئة، هو الاعتداء على رئيس هيئة التفتيش الراحل عبد الباسط غندور الذي تمت مداهمة منزله من قبل المخابرات السورية وإخراجه منه بطريقة مهينة على خلفية التحقيق مع أحد القضاة المقربين منها. كما وثقت المفكرة شهادات عن إحراق سيارة أحد رؤساء هيئة التفتيش القضائي في التسعينيات في إثر ملاحقة أحد كبار القضاة تأديبيا. كما تحدث لها شهود عما يشبه المتاريس بين النيابة العامة التمييزية وهيئة التفتيش القضائي في فترة التسعينيات، بعدما أكدت الهيئة أنه ليس بوسع النيابة العامة التمييزية مباشرة تحقيقات في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم. ولعل الشهادة الأكثر وضوحا (وهي بمثابة اعتراف) نجدها في محضر مناقشات مجلس النواب في 1965 إبان مناقشة قانون تطهير القضاء، حيث طالب نواب بوقف التدخلات في أعمال هيئة التفتيش القضائي بدل القفز غير المبرر نحو آليات التطهير من دون محاكمة. فقد عزا عدد من النواب تراجع أداء القضاء لضعف هيئة التفتيش وكثرة التدخلات السياسية في أعمالها. وقد اعتبر النائب صبحي المحمصاني آنذاك أن التفتيش هو عبارة عن تقارير توضع في الأدراج وأنه هناك عدم إهتمام بالتفتيش الجدي. كما اعتبر النائب كمال جنبلاط أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بمنع السلطة السياسية من التدخل في القضاء. فالتدخّلات أدّت إلى تعطيل المؤسسات القضائية وبخاصة هيئة التفتيش القضائي ما منع المساءلة والمحاسبة داخل القضاء. وأثنى جنبلاط على أداء القضاء خلال فترة الانتداب الفرنسي، حيث أشار إلى أنّ السلطة القضائية كانت تتمتع باستقلالية كبيرة وبانتاجية ملفتة. فـ “أيام الانتداب الفرنسي كان لا يجرؤ أي قاض مهما كان كبيراً بالدولة أن ينام على ملف ولو شهراً واحداً. فإذ ذاك يلاحقه التفتيش ويسأله لماذا هذه الدعوى لا تزال في جاروره نائمة”. كما نقلت صحيفة اللواء في 11 آب 1998 عن مسؤول من التفتيش القضائي أن حوالي مائتي شكوى ضد قضاة حول أخطاء اتهمهم بعض المتقاضين بارتكابها عالقة لديها ويتعين مناقشتها في خلوة مع مجلس القضاء الأعلى. والأهم أن هذا المصدر ربط حلّ هذه الملفات بالاستحقاق الرئاسي وبداية العهد الجديد بما يعكس قناعة بتأثير القوى السياسية على القدرة على السير في الملفات.
وبالطبع، قد ترتبط هذه التدخلات لتعطيل التفتيش القضائي بالاعتبارات الطائفية، بفعل تداخل هذه الإعتبارات مع المنظومة السياسية القائمة. فكما تضمن روابط القادة السياسيين بأعضاء مجلس القضاء الأعلى من طائفتهم تدخلهم (أي القادة) في أعمال هذا المجلس، نلحظ الأمر نفسه في هيئة التفتيش المعينة بكامل أعضائها من السلطة التنفيذية. فكما المجلس، تتكون هذه الهيئة اليوم من عشرة أعضاء على قاعدة المناصفة. وهذا ما كان أشّر إليه أحد أعلام القضاء الراحلين نسيب طربيه، مؤسس جمعية “حلقة الدراسات القضائية” في محاضرته الشهيرة حول التشكيلات القضائية، والتي صرح فيها أن تشكيلة هذه الهيئة تعكس التوافقية الطائفية .
وفي الاتجاه نفسه، يلحظ أنه حتى 2010 بقيت غالبية مراكز هيئة التفتيش القضائي شاغرة، بما يؤشر إلى إرادة سياسية بتهميش دورها أو على الأقل إلى شعور بعدم جدواها. ففي حين نص قانون تنظيم القضاء العدلي على وجوب أن تتألف هيئة التفتيش القضائية من 11 عضواً، فإن واقع التعيينات جاء مغايرا للنص القانوني. ففي فترة ما بعد الطائف، تراوح عدد أعضاء الهيئة المعينين بين 5 و6. وقد استمرّ الأمر على حاله بعد انتخاب رئيس الجمهورية إميل لحود رغم ارتفاع حدّة خطاب مكافحة الفساد، بما فيه الفساد داخل القضاء. وعليه، ورغم أن حكومة سليم الحص وضعت مشروع قانون لرفع الحصانة عن القضاة في 1999، فإنها لم تصدر بالمقابل أي مرسوم بزيادة أعضاء الهيئة. وقد بلغ حجم الشغور أقصاه في فترات الأزمات السياسية الحادة (2005–2010)، بحيث انخفض عدد أعضائها إلى ثلاثة بعد تقاعد رئيسها في 2008 وإلى إثنين بعد تقاعد عضو آخر فيها في 2010. فاقتصر إذ ذاك دور الهيئة على إجراء التحقيقات، من دون أن يتوفر لها النصاب القانوني لإحالة القضاة إلى المجلس التأديبي. وإذ يسجل لوزير العدل الأسبق ابراهيم نجار أنه وضع حدّا لشغور مراكز الهيئة في سنة 2010، فإن عدد أعضاء الهيئة بقي دون العدد القانوني لها (10 فقط)، تحقيقا لمقتضيات المناصفة الطائفية (5/5). وعليه، أمكن القول أن الهيئة لم تكتمل عضويتها يوماً خلال جمهورية ما بعد الطائف.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عوائق المحاسبة لا تتصل فقط بعمل هيئة التفتيش (أي سلطة التحقيق) بل في أحيان كثيرة بعمل المجالس التأديبية الابتدائية أو الاستئنافية (أي سلطة الحكم). فأعضاء المجلس التأديبي يعينون من رئيس مجلس القضاء الأعلى، فيما يعين أعضاء الهيئة العليا للتأديب من مجلس القضاء الأعلى ويرأسها رئيس هذا المجلس. ومن هذا المنطلق، يحتمل تعرّض هذه المجالس (وبخاصة الهيئة العليا) لنفس الضغوط التي تمارس على مجلس القضاء الأعلى أثناء فترة التشكيلات والمناقلات القضائية، وربما من خلال نفس القنوات. وهذا ما يتأكد في فترة 2005-2008 حيث بقيت 17 إحالة إلى المجلس التأديبي عالقة ولم يتم النظر في بعضها إلا بعد خمس سنوات من ورودها إلى مجلس القضاء الأعلى حسبما كشفه وزير العدل الأسبق ابراهيم نجار. كما أن كثيرا من المخالفات انتهت إلى عقوبات مخففة كاللوم أو تخفيض الدرجة لا تتناسب قطّ مع خطورتها. وما يسهّل ذلك هو خلو قانون تنظيم القضاء العدلي من أي قواعد بشأن التناسب بين العقوبة وخطورة المخالفة، وأيضا سرية الأحكام التأديبية التي تحول دون مناقشة مدى ملاءمتها كما تحول دون تطور الاجتهاد في هذا الخصوص.
وأخيرا، وبمعزل عن مدى فعالية المحاسبة، يبقى أنه فيما عدا قرارات التأديب بإنهاء عمل القاضي، تبقى جميع مجريات التفتيش والتأديب محاطة بالسرية التامة، مما يزيد من شكوك المتقاضين ويضعف ثقتهم في آليات المحاسبة. فحتى الجهة المشتكية تبقى على جهالة من مآل شكواها.
المحاسبة البديلة
أمام ضعف المحاسبة العادية وتراجع الثقة العامة بها، تطوّرت كما سبق بيانه أشكال أخرى من المحاسبة التي تأخذ في غالبها طابعا شعبويا، بمعزل عن حقيقة مضمونها أو مدى نجاعتها. وفي غالبية هذه الحالات، يزيد هامش السياسي في التدخل فيها في مقابل إضعاف ضمانات القاضي المعني بها أو قدرته في الدفاع عن نفسه. وعليه، بدل اتخاذ التدابير اللازمة لإصلاح الطريق العادية (والشرعية) للمحاسبة، نتذرع بخراب هذه الطريق لشقّ زواريب بديلة تؤدي في نهاية المطاف، وبمعزل عن بعض النجاحات المسجلة هنا وهنالك، إلى تكريس ممارسات خطيرة من شأنها تثبيت ضعف القضاء وتعميقه.
التحقيقات البديلة
في موازاة تراجع دور هيئة التفتيش وضعف تواصلها مع المتقاضين والرأي العام، سعت بعض المرجعيات إلى استغلال هذا الوضع. فبدل إصلاح هيئة التفتيش وطرق عملها، سعت هذه المرجعيات إلى ملء الفراغ الحاصل من خلال إنشاء آليات بديلة للتشكي والتحقيق. وعليه، أنشأ مجلس القضاء الأعلى صندوقا لشكاوى المواطنين لدى أمانة سر المجلس، مع تكليف قضاة أمانة السر بمتابعة هذه الشكاوى مع زملائهم القضاة تمهيداً لاتخاذ الموقف المناسب بشأنها. وكذلك الأمر بخصوص وزراء العدل الذين تراوحت أدوارهم في هذا المجال. ففيما يسمح القانون للمواطن بتقديم شكواه إلى هيئة التفتيش القضائي من خلال وزارة العدل، استخدمت الوزارة صلاحية تلقي الشكاوى هذه لتباشر التحقيق فيها من خلال الوزير مباشرة أو المستشارين المعينين منهم (وبعضهم قضاة). وقد بررت الوزارة ذلك بأن صلاحية إحالة الشكاوى إلى هيئة التفتيش تخولها إجراء تحقيق أولي للتأكد إذا كانت الدعوى جدية أو غير جدية. وما يعزز دور الوزارة في هذا السياق هو كونها الأقرب إلى المواطنين، وبالأخص إلى محازبي الفريق السياسي الذي ينتمي إليه الوزير أو محازبي سائر الفرقاء المتحالفين مع هذا الفريق أو المتضامنين معه في الحكومة. ويُضاف إلى ذلك موقع الوزير الإعلامي (الإعلاني). وقد بلغ هذا الجانب أقصاه مع وزير العدل الحالي سليم جريصاتي الذي عمد إلى الترويج لدور وزارة العدل إعلامياً في مراقبة عمل القضاة، من منطلق أن وزير العدل هو وزير “الأداء القضائي” أو المرفق العام. لا بل ذهب في إحدى القضايا إلى حد توجيه القاضي على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام كافة، بحجّة أنها من “الملفات الساخنة” hot files. وقد بدا من خلال ذلك وكأنه يدعو أي مواطن يستشعر إشكالا في عمل القضاء أن يحمل شكواه إلى الوزارة، مع ما يستتبع ذلك طبعا من تشريع لممارسة التدخل في القضاء خدمة لمتقاضين أحيانا وللقوى السياسية والحزبية غالبا. وتبعا لانتقادات شديدة من المفكرة القانونية حول خطورة هذه الممارسة لجهة تمكين السلطة التنفيذية من فرض سطوتها على القضاء، صدر بتاريخ 19/5/2017 بيان عن المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى أكد على حصول توافق بين وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى على اعتماد مقاربة موحدة قوامها تحويل الشكاوى ضد القضاة إلى هيئة التفتيش القضائي. إلا أن شواهد عدة تثبت استمرار أساليب التحقيقات هذه في كلا المرجعين. ومن شأن ذلك طبعا أن يرهق القضاة بالاتصالات والاستيضاحات من كذا مرجع والأخطر، أن يعزز قبضة وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى عليهم وتاليا قدرتهما على التدخل والتأثير في أعمالهم.
النقل العقابي
من الاجراءات الأخرى الموازية والأكثر رواجا، نقل القاضي إلى مركز آخر من باب معاقبته على سوء تصرّف مفترض بموجب مرسوم التشكيلات والمناقلات. وهذا ما أكّده رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد في مقابلة مع المفكرة في أواخر 2015: “هناك طريقتان لمحاسبة القضاة: إما من خلال التأديب أو بواسطة التشكيلات”. وقد تم توثيق عدد من التطبيقات لهذا الإجراء. ولعل أبرزها إلحاق رئيسي غرفتين في محكمة التمييز للعمل في وزارة العدل بموجب مرسوم المناقلات القضائية الصادر في 2010، لوجود شبهة حولهما بارتكاب مخالفات خطيرة. وقد قضى هذان الأخيران سنوات في الوزارة، تقاضيا خلالها علاوة 20% على رواتبهم الأساسية كما هي حال جميع القضاة الملحقين بالوزارة من دون أي عمل. ولعل أسوأ ما في هذه المحاسبة، هو أنها تبقى انتقائية ومبنية على معطيات غير ثابتة أصولا، وأنها لا تولي القضاة حق الدفاع عن أنفسهم، والأهم أنها تخضع لنفس التدخلات الحاصلة على التشكيلات القضائية. فضلا عن ذلك، فإنها تبقي قضاة يقتضي محاسبتهم في القضاء من دون تكليفهم بأي عمل فعلي. ومن شأن ذلك أن يحمّل الخزينة العامة أعباء لا مبرر لها.
الدفع إلى الاستقالة
يؤدي هذا الإجراء عمليا إلى وضع حد لخدمات القاضي، إنما من دون محاسبته تأديبيا ولا جزائيا عند الاقتضاء. كما يجيز له هذا الإجراء تقاضي تعويض نهاية خدمته مهما كان العمل المقترف منه. لكن عبّر عدد من الشهود للمفكرة أن الدفع إلى الاستقالة يبقى الحل الأنسب في ظل ضعف المؤسسات الضامنة لتفعيل المحاسبة العادية. ومن المعبر جدا أن المنتصف الأول من سنة 2017 شهد استقالة ثلاثة قضاة تباعا، وأن اثنين منهم كانا يتقاضيان رواتبهما وهما متوقفان عن العمل الفعلي منذ فترات طويلة. ويرى البعض أن للاستقالة فائدة ثانية وهي أنها تجنب القضاء محاكمات من شأنها أن تضعف الثقة فيه وتحول دون الربط بين المخالفة والقضاء طالما أن الشخص المرتكب لم يعد قاضيا. من هذه الزاوية، تشكل الاستقالة ليس فقط سترا للقاضي إنما للقضاء برمته. وخير معبر على ذلك هو البيان الصادر عن مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 17/3/2017 تعليقا على التعليقات على انتشار فيديو فضائحي لأحد القضاة، حيث تمثل البيان بسطر واحد مفاده: “يجري التداول عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في خبر مفاده أن ثمة تسجيلا يظهر فيه قاض في وضع شائن، يهم المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى التوضيح أنه وبغض النظر عن مدى صحة مضمون ذلك التسجيل، فإن الشخص المعني بذلك الخبر لم يعد قاضيا”. ويسجل هنا أن الاستقالة حصلت وتم الإعلان عنها، من دون أن يؤكد المجلس صحة مضمون التسجيل أو ينفيه. وقد نُقل للمفكرة أن الاستقالة تمت بعدما وضع أحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى القاضي المستقيل أمام الخيار الآتي: فإما أن يقدّمها وإما يعلن مجلس القضاء الأعلى عدم أهليته بقرار يصدره من دون محاكمة سندا للمادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي، وهي الآلية البديلة الأكثر خطورة كما نبين أدناه. و بالطبع، لا يُحتمل نجاح طريقة المحاسبة هذه في الحالات التي يكون فيها القاضي ما يزال متمتعا بغطاء سياسي.
التطهير من دون محاكمة
هنا نبلغ الإجراء الأكثر خطورة وقوامه عزل القضاة من دون المرور باجراءات التحقيق والمحاكمة. وهذا الاجراء يستمدّ بدوره شعبيته من فشل طرق المحاسبة العادية في تنقية القضاء أو في تعزيز مشاعر المسؤولية فيه. وفيما أخذ هذا الاجراء أشكالا تشريعية مختلفة في السابق (قانون تطهير القضاء أو رفع الحصانة عن القضاة لفترة معينة)، فإنه تمثل منذ 2001 بالمادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي تجيز لمجلس القضاء الأعلى إعلان عدم أهلية قاض بقرار نهائي يتخذه بأكثرية 8 من 10 أصوات، بناء على توصية من هيئة التفتيش القضائي. ويتم في هذه الحالة اتخاذ القرار بعد الاستماع إلى القاضي المعني، ولكن من دون أي محاكمة، وتاليا من دون تمكينه من الدفاع عن نفسه، والأخطر من دون أن يكون له حتى حق الطعن في قرار عزله. وفيما رأى كثيرون (ومنهم وزراء العدل السابقين شارل رزق وابراهيم نجار وشكيب قرطباوي) أن تفعيل هذه المادة ضروري لضمان تنقية القضاء ضمن آجال سريعة، فإن أي تحليل جدي لشروط تطبيقها يبيّن ضآلة حظوظ تفعيلها بحق القضاة الذين يتمتعون بضمانات طائفية وسياسية والذين هم عموما الأكثر خطورة. فكيف يمكن الحصول على 8 أصوات من أعضاء المجلس العشرة لعزل قاض تتوفر له هذه الحماية، فيما أن السلطة التنفيذية هي التي تعين 8 من هؤلاء الأعضاء وغالبا ما تختارهم من بين أقرب المقربين إليها؟ وعلى فرض توفر الإرادة السياسية في تحييد المحاسبة عن الحسابات السياسية (وهو أمر لا مؤشر عليه حتى الآن)، فأليس من الأجدر استثمار هذه الإرادة في تصحيح طرق المحاسبة العادية “الشرعية” تمهيدا لتفعيلها؟ وهو تساؤل يكفي بحدّ ذاته لتظهير عدم رصانة هذا الخطاب وديماغوجيته. وما يعزز ذلك أنه رغم الضجيج التي تثيره هذه المادة منذ سنوات، فقد وقع تطبيقها مرة واحدة في ظل ولاية الوزير قرطباوي، حين استدعى مجلس القضاء الأعلى في تشرين الأول 2013 أحد القضاة طبقاً للمادة 95، فاستبق هذا الأخير الجلسة المحددة لاستماعه بالاستقالة. هذا بالطبع إلى جانب إمكان التلويح بها في حالات أخرى كحالة الفيديو الفضائحي وفق ما سبق بيانه.
نشر في العدد الخاص عن القضاء في لبنان، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا
وهذا ما صرح به وزير العدل الأسبق شكيب قرطباوي للمفكرة، يراجع الورقة البحثية حول إصلاح القضاء في لبنان، هيئة التفتيش القضائي.
النهار، 8 تشرين الأول 1999.
جويل بطرس. تطهير القضاء 1965-1966 (1): قانون رفع الحصانة عن القضاة. المفكرة القانونية، العدد 36، شباط 2016
وقد تطرق الوزير الراحل فؤاد بطرس الى هذه المسألة في مذكراته كاشفاً انه قرر ترك السلك القضائي بعد رحيل الفرنسيين عن لبنان بسبب تفشي الفساد في القضاء، بطرس، فؤاد. المذكرات. بيروت: دار النهار، 2003.
يراجع المفكرة القانونية، الورقة البحثية حول إصلاح القضاء في لبنان، تكوين مجلس القضاء الأعلى.
مختارات من أعمال حلقة الدراسات القضائية (2): التشكيلات القضائية، هذا البازار السياسي المفتوح. المفكرة القانونية، 12 تموز 2012.
النهار 24 تشرين الثاني 2009.
يراجع المفكرة القانونية، الورقة البحثية حول تأديب القضاة.
مقابلة مع رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد: أولويتنا هي تحسين إنتاجية القضاء، ونقاتل حين نكسب ثقة الرأي العامّ. المفكرة القانونية، العدد 36، آذار 2016
نزار صاغية. ماذا تعلمنا قضية الحاجة خديجة؟ (1) الخطاب الشعبوي يشرّع أبواب التدخل في القضاء. المفكرة القانونية، 8 أيار 2017
رانيا حمزة. مصطلح جديد للتدخل في قضية الريف: hot file بقرار من وزير العدل. المفكرة القانونية، 17 أيار 2017
يراجع الهامشين 26 و27 أعلاه.
مقابلة مع رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد، مذكور أعلاه.
مجلس القضاء الاعلى: الشخص في التسجيل المتداول لم يعد قاضيا. الوكالة الوطنية للإعلام، 17 آذار 2017