زياد عيتاني، مواطن لبناني عادي (للدلالة على أنّه ليس من صنف المقامات) تعرّض على مدى أكثر من 100 يوم لمظلمة كبرى هي مظلمة مكبّرة عمّا يحصل مع كثيرين أو يمكن أن يحصل مع أيّ منا في أي حين. هذه المظلمة حصلت في إثر تلفيق تهمة العمالة له ومباشرة الأجهزة القضائية والأمنية التحقيق فيها وفق أساليبها الاعتيادية. وإذ أثارت هذه المظلمة اضطراباً كبيراً لدى الرأي العام، ماذا أنتج هذا الاضطراب على أرض الواقع؟ كيف أخضعنا الذين شاركوا في هذه المظلمة للمحاسبة، بهدف تحديد المسؤوليات؟ كيف جبرْنا ضرر الضحية؟ والأهم، ماذا تعلّمنا منها؟ بمعنى، ما هي الإصلاحات أو الإجراءات التي اتخذناها لكي لا تتكرر مستقبلاً؟ هذه هي أسئلة أساسية يجدر بأيّ دولة تؤمن بالحد الأدنى من العدالة وتتعلم من أخطائها أو تتوق لتطوير ذاتها ومؤسساتها، أن تطرحها. لكن، ليس سرّا أن مجرد طرح هذه الأسئلة يتعارض مع أسس نظام الحكم السائد، التي تتمثل على العكس من ذلك تماماً في طمس المظالم وإنكار الضحايا وتمييع المسؤوليات ومعها الحقائق وصولاً إلى إجهاض أو تخدير أي اضطراب ضميري وتالياً تقويض أيّ اتجاه للإصلاح.
وقد تجلّى ذلك تماماً من خلال 3 معطيات بليغة في دلالاتها:
المعطى الأول، تمييع المسؤولية
أوّل المعطيات هو تمييع المسؤولية وحصرها بالحدّ الأدنى، وتحديداً بجريمة تلفيق تهمة العمالة من دون النظر في أي من الجرائم أو الممارسات التي أعقبتها، التي ما كان لتهمة العمالة أن تؤدّي إليها من دون حصولها.
ومن أبرز الجرائم التي تمّ التغاضي عنها تماماً، حرمانه من حقوق المحتجز في التواصل مع أهله أو مع محام أو في طلب طبيب شرعي (المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية) وهو حرمان تجاوز مدة الشهر بقي فيها وحيداً يتعرّض للشائعات من دون أن يكون بإمكانه الردّ على أيّ منها، وتسريب التحقيقات معه احتفالاً بإنجازات الجهاز الأمني الذي عمد للتحقيق معه، وصولا ًإلى حفلات التعذيب التي يؤكّد عيتاني حصولها في “الغرفة السوداء” الكائنة في مركز أمن الدولة التي اعترف عناصره أمام المحكمة العسكرية بوجودها.
كلّ هذه الجرائم والممارسات لم يحقق بها أحد وما زالت شكوى عيتاني ضد عدد من الضباط عالقة أمام النيابة العامة الاستئنافية في بيروت منذ منتصف 2019، بعد تراشق بين النيابات العامة التمييزية والعسكرية استمر أكثر من 9 أشهر حول صلاحية التحقيق فيها. وقد شكل هذا التقاعس انعكاساً لخطاب رسمي يقوم على اعتبار أمن الدولة جزءاً من المنظومة الملازمة للعهد، وما يستتبع ذلك من تطييف وتحصين من المسؤولية.
وقد تمثلت آخر حلقات مسلسل تمييع المسؤولية في إصدار مرسوم بترقية الملازم أول فراس عويدات الذي أشرف على التحقيق مع عيتاني. فكأنّما السلطة التنفيذية حسمت أمرها في مكافأة المعتدي، بعدما تقاعست أو تعطّلت السلطة القضائية عن أداء مهامها. وما فاقم من ضرر هذه الترقية، هو تزامن الإعلان عنها مع نشر فيديوات ممنتجة من التحقيق مع عيتاني بهدف تمييع الحقيقة والاعتداء مجدداً على الضحية.
وحتى قضية تلفيق التهمة والتي نظرت فيها المحكمة العسكرية الدائمة، لم يُدن فيها حتى الآن إلّا السيّد إيلي غبش، فيما حصرت مسؤولية العقيدة سوزان الحاج في أنها تفرّجت على التلفيق (وتالياً على ما أعقبه من ملاحقة لعيتاني أدّت إلى حبسه قرابة 4 أشهر) من دون أن تقوم بأي مبادرة لوقفه.
المعطى الثاني، امتناع الدولة عن تعويض الضحية، رغم بداهة المظلمة
قد يعجز بعض الدول ومنها لبنان عن محاسبة الجناة بفعل نفوذهم أو شبكات المصالح التي ينتمون إليها. وقد تنتهي بعض هذه الدول ومنها أيضاً لبنان إلى الإشادة بالمرتكب وتكريمه للأسباب نفسها. لكن الظلم يبلغ مداه حين تترافق ممارسات من هذا النوع مع التنكّر التام للضحية. وينعكس هذا الظلم على الضحية التي يتعيّن عليها ليس فقط التعايش مع معاناتها من دون استشعار أيّ تضامن اجتماعي، بل التعايش مع التنمّر والخوف من انتقام المرتكب المفلت من العقاب كلما همّت للحديث أو الشهادة عن معاناتها أو المطالبة بالحد الأدنى من العدالة.
وفيما تقدّم عيتاني بطلب تعويض عن المظلمة التي تعرّض لها إلى الحكومة في كانون الثاني 2020، فإنّ هذه الأخيرة لم تعِر أي اهتمام لهذا المطلب، بما شكل رفضاً ضمنياً وفق القانون الذي يعتبر عدم الرد خلال شهرين بمثابة رفض. وقد شكّل هذا الرفض تجسيداً شديد البلاغة لنظرة النظام السائد للضحايا والعدالة، ولكن أيضاً لمفاهيم المساواة أمام القانون والتضامن الاجتماعي، وكلها مفاهيم لا محل لها في سياساته أو في قراراته بتوزيع الموارد. وللأسف، فإنّ هذه النظرة هي نفسها النظرة التي طالما عانى منها ضحايا الجرائم الكبرى وبالأخص ضحايا (حرب 1975-1990) ويخشى أن تكون النظرة نفسها التي سيعاني منها ضحايا مجزرة بيروت الكبرى. ومن هنا أهيمة التوقّف عندها مليّاً.
المعطى الثالث، غياب كلّي لأيّ إصلاح في عمل المؤسّسات أو أدائها
أما المعطى الثالث الذي يشكل نتيجة ملازمة لما تقدّم، فهو أنّ هذه المظلمة لم تتسبب بأي إصلاح من أي نوع كان، في مؤسسات الدولة أو قيمها أو حتى ممارساتها.
فجهاز أمن الدولة عاود العمل بالأمن الديماغوجي في قضية مشابهة حصلت بعد أشهر، هي قضية صانع الوشم التي شكّلت مظلمة أخرى لا تقلّ عنفاً وتخلّلتها التسريبات الإعلامية والآراء المسبقة نفسها (نشهد اليوم أيضاً تسريبات خطيرة وهادفة تبعاً لمجزرة بيروت). وكذلك المحكمة العسكرية لم تشهد أي إصلاح لا في تركيبتها ولا في صلاحياتها، وكذلك الأمر بالنسبة للنيابات العامة التي لا تزال متقاعسة في التحقيق الجدي في قضايا التعذيب كما يشهد على ذلك ردّ مجمل الشكاوى التي تقدم بها المتظاهرون ضدّ الأجهزة الأمنية، هذا بدون الحديث عن المماطلة المستمرّة في النظر في اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته.
انطلاقاً من هذه المعطيات،
ومن أجل استعادة مكانة المواطن العادي (حتى ولو لم يكن من صنف المقامات) والعدالة في الفضاء العام وعمل المؤسسات العامة،
والتزاماً بواجب حماية الضحية والتضامن معها، ضد ممارسات تمييع المسؤوليات وطمس الحقائق (ونضيف التطييف)،
نعود لنطرح الأسئلة الواجبة اليوم وغداً في قضية عيتاني والمشار إليها أعلاه، وهي أسئلة أودعناها مع عيتاني في صيغة دعويين أمام مجلس شورى الدولة، وهما تحديداً دعوى لإقرار تعويض لعيتاني عن الضرر الذي تكبّده (وقد قدمت في 12 آب الحالي) ودعوى لإبطال مرسوم ترقية الضابط الذي أشرف على التحقيق معه (وقد قدمت في 27 آب) منعاً لمكافأة المرتكب. فلا يبقى المرتكب مستبدّاً ولا تبقى الضحية وحيدة، ولا يبقى اضطراب الضمير إزاء المظلمة من دون تغيير.