في الجزء الأول من هذا المقال، بيّنّا كيف حصرتْ السلطات العامة إطار النقاش العامّ ومساعي المعالجة في شأن فضيحة التعذيب في رومية. فمهّدت الطريق أمام القضاء لتحرير الرواية الرسمية للحادثة معززةً بقوته، كحقيقة من شأنها أن تحسم النقاش.
وهذا الجزء، نخصصه لقراءة نقدية للقرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا في 6-7-2015. ونسارع الى القول مجدداً بأنّ معاينة تفاصيل هذا القرار تُظهر أن التحقيق هدف الى إثبات فرضيّة معيّنة والوصول الى غايات معينة أكثر مما هدف الى التثبّت من الحقائق. وهذه الفرضية تلتقي تماماً مع مجموع المسلّمات التي انبنى عليها خطاب السلطات السياسية ومفادها أن التعذيب فردي غير منهجي، وأن أعمال التعذيب في رومية تقتصر على المشاهد المسربة من دون أي زيادة، وأن العناصر الذين شاركوا فيها أقدموا على ذلك تبعاً لاعتداء السجناء على زملائهم، وخلافا للتعليمات المعطاة لهم بعدم التعرّض للسجناء. وانطلاقاً من ذلك، تمّ الظنّ بالعناصر الخمسة المدعى عليهم والظاهرة وجوهم في الفيديو (اثنين شاركا في الضرب وثالث قام بتصوير المشاهد واثنين كتما الحادثة عن قيادتهم) في موازاة إبراء ذمة الدولة بكامل أجهزتها وسائر عناصرها من أي شبهة. وفور صدور القرار، عمدت وسائل إعلام عدة الى نشره على أنه يروي “تفاصيل فضيحة أشرطة التعذيب في رومية” من دون إجراء أي مراجعة نقدية له. ومع إنجاز هذا القرار ونشره، تكون الدولة نجحت بفعل التعاون والانسجام بين مؤسساتها الى تجاوز الفضيحة (القطوع) وتحويلها الى ما يشبه حدثاً عادياً أو كما يقول الفرنسيون FAIT DIVERS.
وقبل الغوص في تحليل تفاصيل هذا القرار، يهمّ الكاتب التنبيه مرة أخرى الى أن نقده الأساسي له ناتج ليس بالضرورة عن إمتلاكه لرواية أخرى مغايرة، بل عن تحفظه إزاء المنهجية المتبعة من قاضي التحقيق في هذه القضية. وهذا ما سنحاول تبيانه أدناه.
هكذا حصل الحادث، صحيح؟
عند معاينة الأسئلة المطروحة في التحقيق على المدعى عليهم، سرعان ما نكتشف أنها من قبيل: “الحادث حصل هكذا، صحيح؟”. بمعنى أن القاضي يعرض على المستجوَب الفرضية التي يودّ تثبيتها في قراره طالباً منه تأكيدها، فيهزّ الأخير رأسه إيجابا، فتتم التحقيقات ويصدر القرار الظني على نحو موافق للفرضية التي بادر القاضي الى طرحها.وهذا ما نتبيّنه بوضوح كلّي من عدد من الأسئلة التي انبنت على فرضية أن التعذيب فرديّ وليس منهجيّا، وأن لا علاقة للقيادة أو لمؤسسة قوى الأمن الداخلي به من قريب أو بعيد.
ومن الأسئلة ذات الدلالة، الآتية:
سؤال أول: “لماذا أقدمت على الدخول الى المبنى، والأوامر المعطاة لك البقاء داخل الآلية وخارج السجن؟” فهذا السؤال يتبنّى تماماً الفرضية التي تقول أنه تلقى أمراً بعدم الدخول الى المبنى من دون أي تحقيق يثبت ذلك. وجواب المدعى عليه على هذا السؤال يأتي ليعزز هذه الفرضية. فبعد تأكيده على مخالفة الأوامر، تراه يسترسل في وصف تصرفه، فيردف وفق ما جاء حرفيا في القرار الظنّي: “أمرْتُ نفسي”. وهذه العبارة انما تشكل نفياً بليغاً ومضخّما لأيّ صلة بين الفعل والقيادة، بحيث أنها تصوره وكأنه ناتج عن قرار بين المدعى عليه ونفسه. وهي بالطبع عبارة غير مألوفة وشبه كاريكاتورية في الأسلاك الأمنية والعسكرية القائمة على طاعة المرؤوس لرؤسائه من دون أي مراعاة للإعتبارات أو القناعات الشخصية. ولا نبالغ اذا قلنا أن التفوّه بعبارة كهذه تُعدّ بالنسبة لهذه الأسلاك بحد ذاتها تمرّداً، تمرّداً قد يكون أشدّ خطورة من التعذيب. لكن، ورغم ذلك، بدت هنا موضع ترحيب الى درجة استعادتها في متن القرار الظني، طالما أنها تؤدي الى خدمة الرواية الرسمية ودعمها.
سؤال ثان: “أن العصا التي ضربت بها السجناء، ليست من ضمن العتاد العسكري. ولا يحمل مثلها رجال الأمن بمهماتهم، فمن أين جلبتها؟”وهنا أيضا ينبني السؤال على فرضيّة أنّ العصا شخصيّة للمدّعى عليه وأن لا علاقة لفصيلته بها. ومجرّد التأكيد على هذه الفرضية يجرّد السؤال من أهميته. فإذا ثبت للقاضي أن العصا ليست من العتاد العسكري، فبماذا يُفيد السؤال عن مصدرها؟ وبالواقع، هنا أيضاً، يظهر القاضي وكأنه يدعو المدعى عليه الى شراكة للوصول الى حقيقة معينة أكثر من أمر آخر. ويتعزز هذا الأمر من خلال إجابة هذا الأخير، والتي لا تقل كاريكاتورية عما سبق. فوفق القرار الظني، هو جلب العصا “من ورشة قرب ساحة العبد”. وبالطبع، ينتهي التساؤل عن مصدر العصا عند هذا الحدّ من دون أي إطالة، على نحو يؤكد أن كل ما يهمّ التحقيق هو تدوين أن العصا حطّت رحالها في السجن من دون أن يكون لقوى الأمن الداخليّ أيّ علاقة بذلك. والغرابة نفسها نقرؤها في إفادة المدعى عليه الثاني بالضرب بخصوص العصا التي كانت بحوزته، مع فارق واحد أنه وجدها ليس في ورشة ساحة العبد، انما في باحة السجن.
سؤال ثالث: “لماذا خالفت الأوامر االتي تقضي بعدم التعرض للسجناء والمعطاة لكافة العناصر وأقدمت على ضربهم؟”وهنا، أيضا، نتبين أن السؤال ينبني على فرضية مفادها أن ثمة أمراً وُجّه الى كافّة العناصر بعدم مخالفة الأوامر. وبالطّبع، لا نجد دليلاً على هذا الأمر في أيّ مكان، سوى في إدلاءات المدّعى عليهم أنفسهم. وهنا أيضا يأتي الجواب تأكيديّا لهذه الفرضية: “على فورة دمي”.
وبالطبع، الأسئلة الهامة لم تُطرح. فلا نعرف كيف سُمح للعنصرين المعنيين إدخال عصيّ الى داخل مباني السجن في ظل التمرد الحاصل؟ وهل يسمح للعناصر مثلا بإدخال سكاكين ومسدسات وكلشينكوفات وما أرادوا من عتاد خاص الى السجن؟ ومن يتحمل مسؤولية التقصير في هذا المجال؟ بل لماذا أصلا أدخلوا عصيّا الى السجن؟ كما لم يسأل أي من هؤلاء عن طبيعة الأوامر المعطاة بعدم التعرض ومصدرها، أو عن الرقابة التي تمارسها قياداتهم عليهم أو على أي جوانب تنظيمية للفصائل والشعب التي ينتمون اليها. كما لم يسأل أي من العنصريْن المتورطيْن بالتعذيب لماذا طلبا تصوير أفعالهما ولماذا احتفظا بالأفلام وتداولا بها من دون أن يخشيا أيّ عقاب؟ فهل أصبح تنظيم شُعب الأمن الداخلي أو وحدات السجن قائما على أن لكلّ أن يفعل ما يريد، ولو خلافاً لآراء رؤسائه، من دون أي رقابة أو مساءلة. والى ذلك، لم يطرح أي سؤال حول تعرية السجناء البادي في بعض مشاهد الفيديو المسرب.
لا مكان لشهادات مغايرة للرواية الرسمية
عند قراءة القرار الظنيّ، نتبيّن أن القاضي اكتفى باستجواب المدعى عليهم الذين برزت صورهم في الفيديو المسرّب، من دون أيّ شخص آخر. فهؤلاء هم المسؤولون وحدهم. أما سائر الأشخاص والعناصر الأمنية وقياداتها فلا علاقة لهم بالحادث من قريب أو بعيد. فهم لم يشاركوا في أعمال التعذيب بأي صفة كانت ولم يعلموا عنها شيئاً. وعليه، رأى قاضي التحقيق ضمناً أن لا حاجة للاستماع الى أي من قياداتهم أو حتى الى آمر السجن. والأخطر من ذلك، امتنع عن الاستماع الى أيّ من ضحايا التعذيب، ولا حتى الذين ظهرت صورهم في الفيديو وهم يتعرضون لتعذيب وحشي. وكأن إفاداتهم لا تهم التحقيق بشيء ولا تقدّم ولا تؤخّر. أو كأنما ثمة فرضية أن أقوال العسكريين –مهما شذوا- هي صحيحة وأن أقوال ضحاياهم لا يُؤخذ بها. وهذا الأمر يصبح أكثر قابلية للنقد في ظلّ الظنّ ببعض المدعى عليهم على أساس الإيذاء المقصود، والذي تتحدد عقوبته على ضوء الأذى الحاصل على أجساد ضحايا التعذيب والذين لم يعرضوا على ما يظهر من القرار لأي طبيب شرعي.
وما يزيد من غرابة التحقيق، هو الاستنابة المعطاة لرئيس شعبة المعلومات للتوسع بالتحريات وسماع العناصر التابعين له والذين تسربت اليهم مشاهد الفيديو لمعرفة مصدر التسريب. فهنا أيضاً تطرح منهجية القاضي أسئلة كبيرة. فعدا أنه بدا من خلالها غير راغب بالتحقيق مباشرة في هذا الشأن، فانه اختار أن يستنيب لهذه الغاية الجهاز الذي أُنيط به مداهمة السّجن وثمة شبهة ولو نظريّا بتورّط قياداته وعدد من عناصره في أعمال التعذيب. فكأنه يرغب من خلال ذلك تسليم أمر التحقيقات للجهاز الذي لديه المصلحة الأكبر في الإلتزام بالرواية الرسمية. وليس غريباً في ظلّ ذلك أن هذه التحقيقات انتهت عملياً الى تجهيل الجهة المسربة بعدما تبين أن أكثر من 20 عنصرا تلقوا هذه المشاهد من أرقام مختلفة في غانا والصين… الخ.
استخدام لغة اليقين
هنا، نلحظ أن قاضي التحقيق خرج عن عمله كقاضي ظنّ يقول ما هو مرجّح ليتصرف كقاضي يقين. ولعلّ خير مؤشّر على ذلك هو استخدام عبارة “الثوابت” (بمعنى الحقائق). فتحت عنوان: “ثانيا: في القانون”، تضمن القرار العبارة الآتية: “قبل ترتيب النتائج القانونية على أفعال المدعى عليهم، لا بد من استخلاص الثوابت الآتية”، قبلما يسهب في تفصيل هذه الثوابت ومفادها أن الجرم موضوع هذه الدعوى فردي. وعليه، بدا هنا أيضا أن الهدف من التحقيق ليس إثبات مسؤوليات المدعّى عليهم وحسب، إنّما بالدرجة الأولى، تبرئة المؤسسة الأمنية برمتها. وهكذا، “ثبت” أن الأوامر هي بعدم التعرض، وثبت “تقيد جميع العناصر بهذه الأوامر ما عدا المدعى عليهما” و”ثبت أن أداة الضرب ليست من العتاد العسكري”. كما لم يجد قاضي التحقيق حرجاً في إطلاق عبارات من قبيل “يؤكد بشكل كامل فردية الحادث (حادث التعذيب)”، بما فيه من طابع يقيني. وبالطبع، الهدف من استخدام عبارات مماثلة وغير مألوفة هو ترسيخ الرواية الرسمية واستباق أي شكّ بشأنها.
أسلوب دعائي غير مألوف
هنا سنتناول جانباً آخر من القرار وهو خروجه عن حدود معالجة الإشكاليات وتحديد المسؤوليات القانونية، لإفساح مجال واسع للإشكاليات الإعلامية. وقد بلغ هذا الأسلوب في أوجه عدة درجة الأسلوب الدعائي (بمعنى البروباغندا) الهادف هنا أيضا الى تثبيت الرواية الرسمية المشار اليها أعلاه.
وهذا ما يتبدى بشكل خاص حين استهلّ القاضي المناقشة القانونية بالتأكيد على أنّ التعذيب فردي. فعلى أهميتها، بدت هذه الخلاصة أكثر ارتباطا بالخطاب الحقوقيّ الدوليّ وبمدى التزام الدولة بمكافحة التعذيب منه بالمسؤوليات الجزائية في لبنان. فكأنما صياغة القرار الظنّي انبنت على وجود أولوية بتبرئة لبنان في الساحة الحقوقية الدولية، بمعزل عما ستقود اليه خلاصات التحقيق من مسؤوليات جزائية.
ومن جهة ثانية، لم يكتفِ القرار بإعطاء براءة ذمة كاملة وشاملة للمؤسسة برمتها، بل ذهب الى حدّ الإطناب والإشادة بانضباط عناصرها وحسن أدائها. فرغم اقتصار التحقيقات على الإستماع الى المدعى عليهم الخمسة فقط، يخلص القرار الظنّي، وعلى نحو غير مبرر، بأن من الثوابت التي خلص اليها هو “تقيّد العناصر بالتعليمات رغم احتجاز عدد من الضباط والرتباء وتعرض آخرين لحروق وأذى جسدي من قبل السجناء، وذلك باستثناء عنصرين فقط خالفا أوامر رؤسائهما”. وبفعل هذه الرواية، تنتهي الفضيحة الى مناسبة للإشادة بانضباط العناصر الأمنية رغم قساوة الظروف التي تعرّضوا لها. كما بالإمكان وضع إعراض قاضي التحقيق عن الاستماع الى أيّ من الضباط في خانة تجنّب إثارة أيّ شكّ حول تورّطهم بالتعذيب أو بكلمة أخرى في خانة اعتبارهم معصومين عن الخطأ وعن … الشبهة.
والى ذلك، خصّص القرار مساحة هامة لإبراز مزيد من الدوافع التبريرية أو التخفيفية للتعذيب. فمخالفة المدعى عليهما بالضرب أوامر رؤسائهما حصل رغبة ب”مساعدة الشباب” من رفاقهما، بعدما وجه السجناء اليهم “الشتائم …من النوافذ”. وقد زاد غضب أحدهما “حين توجه اليه أحد السجناء بالقول: “أنت يا أبو زند، بدي ادحش العصاية…”. بمعنى أن المدعى عليهما بالضرب خالفا أوامر قيادتهما ليس لأنهما سيئان ولكن على العكس من ذلك لأنهما يتمتعان بشيء من النخوة. وبذلك، واذ يؤكّد القرار الظنّي التزام لبنان في مكافحة التعذيب، فإنّه يُحيط وصف التعذيب الوحشيّ الحاصل بظروف تدعو الى تفهّمه. فيظهر اذ ذاك تصرف هذين العنصرين على أنه مخالفة قانونية من دون أن يكون بالضرورة مخالفة أخلاقية أو شائنة. وما يجعل هذا الوصف ممكنا طبعا هو عدم الاستماع الى أيّ من ضحايا التعذيب.
مسؤوليات جرمية منسجمة مع الرواية الرسمية
أخيراً، سنتطرق بسرعة الى المسؤوليات الجرمية المحددة في القرار الظنّي، والتي جاءت منسجمة تماماً، بما وبمن شملته وبما وبمن لم تشمله، مع الرواية الرسمية. فقد تم الادعاء على عنصرين برزت صورهما في الفيديو، لا لسبب الا أنهما شهدا أفلام التعذيب ولم يعلما قيادتهما بشأنها. واللافت هنا أننا نكتشف في متن القرار نفسه أن هنالك أكثر من 20 عنصراً اطّلعوا على مشاهد الفيديو، ومنهم ربما ضباط ورؤساء لهؤلاء، من دون الادّعاء على أيّ منهم. فما السبب في هذه الانتقائية؟ وهنا، أيضا، التفسير الوحيد المقنع نجده في مقتضيات الرواية الرسمية أكثر ما نجده في الأصول الجزائية. فثمة فائدة في الادعاء عليهما إثباتاً لعدم علم القيادة بأعمال التعذيب، وثمة فائدة لا تقل أهمية في تجنب توسيع اطار الملاحقة في هذا المجال، صوناً لقرينة عدم العلم. فهل يتصور مثلا أن أياً من الضباط لم يكن يعرف شيئا بشأن التعذيب في حال كان عدد هائل من العناصر قد علموا به ولوحقوا من جراء ذلك؟ وألا يتهدد أي توسع في الملاحقة من هذه الزاوية مصداقية الرواية الرسمية ويعرّضها للانهيار؟
أما العناصر المتورطون بالضرب، فنلحظ أن الظن بهم حصل على أساس الإيذاء الجسدي (مادة 555) والشتائم التي أكالوها لعدد من السجناء (584) وأيضا مخالفة التعليمات العسكرية، فيما نسجل أن القرار تجنب الادعاء عليهم بما قد يكون الجرم الأكثر بداهة أي إساءة استخدام السلطة وما يقتضيه من تشديد للعقوبة (376-377). ولفهم هذا الأمر، قد لا نجد الا تفسيراً واحداً: نزوعٌ لأيّ ربط مهما كان مدروساً بين أعمال التعذيب والسلطة.
هكذا كتبت الرواية الرسمية. على أمل أن تكتب يوماً روايات ليست كذلك.
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا
:نشر هذا المقال في العدد | 30 | تموز/ يوليو 2015، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه
كيف تتعامل الدولة مع فضائحها؟ فضيحة التعذيب في رومية نموذجاً