لأنّ الجوع يقتل والجهل يقتل ولأنّ الجريمة هي بشعة جدّاً ومروّعة…
ولأنّ كلّ من يقتل يفعل ذلك عن حقدٍ أو انتقام أو خوف أو عن همجيّة أو جهل،
فالقتل لا يمكن أن يصدرعن إنسان عاقل، واعٍ لما تصنع يداه، بل عن إنسان مريض، جاهل، متطرّف، ابتعد عن إنسانيّته، ورهبة حضوره أو وجوده البشريّ.
لذلك، لا يمكن أن نقبل بالقتل أو نعتمد القتل لمعالجة انحرافاتنا، فالقتل مرفوض مهما كان نوعه أو سببه أو إسمه. فالإنتقام يقتل والتكفير يقتل والحقد يقتل، والجوع يقتل والجهل يقتل والإعدام يقتل أيضاً…
الإعدام هو قتلٌ منظّم عن سابق تصوّر وتصميم تستعمله الحكومات المضطربة والخائفة والمريضة فَتوهم الناس بأنّها تستعمل سيف القوة، إنّما في الحقيقة، فهي تعبّر عن فشلها وضعفها وهستيريّتها وعدم قدرتها على الدّفاع عن حقوق وأمن شعبها.
الإعدام يصدر بإسم الشعب، أي بإسمنا جميعاً في لبنان لا تزال هناك إمكانيّة صدور أحكام بالقتل والموت وقد يُخطئ الحكم لسبب أو لآخر، ويقتل أبرياء، وقد لا تكون المسؤوليّة كاملة على المتّهم بل نسبيّة، أمّا حكم الإعدام فهو حكمٌ مطلَق.
أوقفوا عقوبة الإعدام، وحرّروا القضاة اللّبنانيّين من نير هذا الحكم. فهذه العقوبة بشعة جدّاً ومروّعة ولا تليق بكرامة شعبنا وجرأته واتّزانه ومقاربته الواعية والغير المتطرّفة أو الموتورة أو الخائفة.
فلا يمكن أن نواجه الشرّ بالشرّ، والقتل بالقتل، والضحيّة بضحيّة أخرى، والهمجيّة بالهمجيّة والتكفير وإلغاء الآخر بعقوبة إعدام تلغي الإنسان أيضاً ولا تسمح له أن يبيّن حقائق جديدة أو أن يعود إلى ذاته ويتوب، ويتعب ويجني من أجل التعويض لأهل الضحيّة.
أوقفوا عقوبة الإعدام.
لأنّنا نؤمن بالحياة ولا نؤمن بالموت، ولا نقبل بهذا الوهم بأنّ الإعدام قد يردع الجريمة، بل على العكس، وسيلة القتل هذه، قد تستعملها بعض المجموعات التكفيريّة أو الهمجيّة أو القبائليّة، وأيضاً الكثير من البلدان الديكتاتوريّة.
أمّا شعبنا فهو يعتزّ ويعمل على مواكبة شعوب العالم التي تحترم حقوق الإنسان وكرامته، وقد ألغت عقوبة الإعدام من قوانينها، ولم يؤثّر ذلك على نسبة الجرائم لا سلباً ولا إيجاباً.
نداؤنا اليوم، أن يلغي لبنان عقوبة الإعدام من قوانينه، وليلتزم بالمعاهدات الدّوليّة وحقوق الإنسان، التي طالما يتغنّى بها ويلتجئ إليها في كلّ محنة.
فالجريمة مستتنكرة وعمل همجي خارجة عن القيم الإنسانيّة.
والإعدام بدوره هو أيضاً حالة قتل، وهو لا يعبّرعن إيماننا بقدرة الله ورحمته العظيمة. فنحن أبناء النور ونرفض أن نسير في الظلام. فلنلغي
الجريمة بدلاً من أن نلغي الحياة.
لأنّ الله رحمان رحيم وهو الأكبر، أكبر من معاصينا، لذلك نعلي لغة المسامحة والغفران والإصلاح، فالحبّ أقوى من الحقد وأعمالنا ليست مبنيّة على ردّات الفعل، فإنّنا نتألّم كثيراً عند وقوع أيّ جريمة، ونعتبرها جرح كبير في مجتمعنا، لا بل إنحراف إنساني. لذلك لا نريد أبداً جرحاً آخر ووحشيّةً أخرى بإسم القانون. فنحن لسنا كالذّئاب إن انقضّ أحدٌ على أخيه يقتله، فننقضّ نحن عليه فنقتله،
إنّما نعمل على ضمد الجراح ومجازاة الجاني ووضعه في حالة التفكير المتواصل بما صنعته يداه وما ارتكبت من شنائع لا تليق بإنسانيّته. وعندها، نعمل أيضاً على إعادة تأهيله ليكتشف كرامته من جديد، لأنّ كرامته كما كرامة الضحيّة هي من كرامتنا جميعاً.
فباسم الشعب اللبناني، نرفض أن نصنع عملاً إجراميّاً آخر، لأنّ عدالتنا تصبو وتهدف إلى الحياة وليس إلى الموت.
نناشد مجتمعَنا والمسؤولين فيه أن يكفّوا عن المطالبة بالإعدام في كلّ مرّة تزداد علينا الشدّة ويزداد إنحراف إنساننا وتزداد أمراضنا النفسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والسّياسيّة…
فالحلّ لأمراضنا هذه ليس في ردّات الفعل الآنيّة بل في المعالجة الطويلة الأمد ثقافيّاً واجتماعيّاً وحضاريّاً.
فلا نسمح بأن يسيطر علينا الخوف والهرع والصدمة بل لنتعالَ على الجراح ونسمو بإنساننا إلى ما فوق. فالحقد والإنتقام لا يُرجع لنا أحبّاءنا… ولا يردع أحد…
كما ونناشد السيّاسيّين في بلدنا أن يكفّوا أيضاً عن المتاجرة بجراحاتنا وضحايانا ولا يتسابقوا على التصاريح الإنتقاميّة الحاقدة مستغلّين ضعف وألم أهل الضحيّة من أجل مصالح سياسيّة صغيرة.
واليوم نثني ونفتخر بالكثير من نوّاب ووزراء ومسؤولين في هذه الأمّة الذين يعملون بشكل واضح من أجل إلغاء عقوبة الإعدام من تشريعاتنا والنهوض بتشريعات بديلة تتوافق مع المعاهدات الدّوليّة ومع شرعة حقوق الإنسان.
ونفتخر بفعاليّات وجمعيّات المجتمع المدني، الجريئة والساهرة والخلاّقة والمدافعة فعلاً عن كرامة إنساننا، لا سيّما محامي جمعيّة عدل ورحمة، وبالأخصّ الأستاذين لينا شمعون وزياد عاشور. وأقدّر وأثمّن عالياً شجاعة وشهامة سعادة نقيب المحامين في باريس الأستاذ Pierre Olivier Sur، الذي أكّد لنا بحضوره ودفاعه الشخصي من أجل إلغاء عقوبة الإعدام بأنّ كرامة الإنسان هي واحدة لكلّ إنسان وفي كلّ مكان.
فضمان احترام الحقّ بالحياة والحقّ بالنموّ والتوبة والمغفرة والمصالحة لا يتناقض مع حقّ المجتمع في المحاسبة وجلاء الحقيقة والأمن والإستقرار وقمع الجريمة.
إنّ شرارة وقوفِنا صفّاً واحداً متضامنين في إطار "الحملة الوطنيّة من أجل إلغاء عقوبة الإعدام" كان بعد تنفيذ الإعدام بحقذ شخصين في ساحة طبرجا العامّة سنة 1998 حيث أعلنّا الحداد على ضحايا الجريمة وضحايا الإعدام. هكذا كانت الإنطلاقة الميدانيّة والفعليّة للحملة، عندما قلنا أنّه لا يمكنُنا أن نبقى صامتين، متفرّجين أمام همجيّة ولا إنسانيّة هذه العقوبة.
وها هو لبنان اليوم، وقد مضى عليه أكثر من عشرة سنوات، يمتنع عن تنفيذ هذه العقوبة وكأنّه يريد أن يعبّر عن رفضه لها لأنّها لم تعد تعبّر عن ثقافته وتطلّعاته، ومن الظلم جدّاً اليوم أن نبقي المحكومين بالإعدام في ممرّات الموت. لذلك كانت هذه المبادرة من جمعيّة عدل ورحمة ومن "الحملة الوطنيّة من أجل إلغاء عقوبة الإعدام" في مواجهة إصدار حكم الإعدام بحدّ ذاته، والتبيان للقضاة الملتزمين بتنفيذه على عدم صوابيّته وجدواه، لا بل على إساءته الكبيرة على مجتمعنا.
فانطلاقاً من هذا الحث، سنتابع العمل سويّاً إلى اليوم الذي يكون فيه لبنان في عداد الدّول التي لا وجود فيها لعقوبة الإعدام لا في نصوصها ولا أحكامها ولا قواعدها الإجتماعيّة والأخلاقيّة والدينيّة ولا حتى في ذهنيات مواطنيها، وهذا اليوم أراه مؤكّداً وسوف نصله بخطوات ثابتة وواعية وجريئة.
الصورة منقولة عن موقع www.refsa.org