بتاريخ 25-11-2013، أصدر القاضي مارون روكز بصفته مستشاراً مقرراً في الغرفة الثالثة من مجلس شورى الدولة، تقريراً خلص فيه الى وجوب قبول الدعوى التي قدمها المحامي أديب زخور ضد الدولة عن أعمال وزارة الداخلية والبلديات، وتحديداً المديرية العامة للأمن العام. وكان هذا الأخير قد طالب بإبطال قرار صادر عن الأمن العام بمنعه من حضور جلسات تحقيق موكليه في المديرية وبإلزام الدولة بتسديده تعويضاً عن الضرر الذي أصابه. وإذ أسند المستشار المقرر خلاصته على مبادئ المحكمة العادلة، أيدته مفوضة الحكومة المعاونة هدى الحاج بما توصل اليه وإن اختلفت معه في بعض الحجج الواقعية التي ساقها، وذلك في مطالعتها الصادرة في 30-12-2013. ويشكل هذا القرار تذكيراً هاماً بمبادئ المحاكمة العادلة، التي سنتناولها أدناه، وهو أمر يأتي في موازاة بدء نقابة المحامين في بيروت التفاوض مع المديرية العامة للأمن العام بهدف تعديل مذكرة التفاهم القائمة حالياً بينهما والتي تشوبها عيوب كثيرة كان زخور نفسه فنّدها في مطالعة له نُشرت على موقع المفكرة القانونية[1].
في تفاصيل القضية
بدأت هذه القضية فصولاً حين اتخذ الأمن العام قراراً بمنع المحامي أديب زخور من دخول مراكز الأمن العام وحضور تحقيقات موكليه الذين هم من الأجراء وعاملات المنازل الأجانب، الذين تكفل لهم منظمة خيرية المساعدة القانونية، وخاصة المساعدة في تقديم شكاوى ضد أصحاب العمل من جراء انتهاكات كبرى مرتكبة منهم، كالاغتصاب أو عدم تسديد الأجور الخ… ويلحظ أن زخور لم يتبلغ قط القرار المذكور، وأن الأمن العام رفض إبرازه رغم تكليفه بذلك من قبل مجلس شورى الدولة في قرار إعدادي سابق. وإذ طالب زخور بإبطال القرار لأسباب عدة أهمها حصانة المحامي وحق دفاع موكليه وأيدته نقابة المحامين في بيروت في ذلك، بررت المديرية العامة للأمن العام في مطالعتها القرار المذكور بمجموعة من الحجج اللافتة: ومنها أن زخور قد عمد الى استفزاز المحققين أثناء التحقيقات، ما أدى الى عرقلة عملهم والقيام بواجبهم، وأن المدير العام للأمن العام قد هدف من قراره الى تسيير عمل المرفق العام والمحافظة على الأمن العام لتفادي أي إشكال قد يقع بين زخور والمحققين، وصوناً منه لحقوق الأشخاص الذين تجرى معهم التحقيقات.
وفي مطالعة لاحقة، صرّحت المديرية العامة للأمن العام بأنها لم تتخذ أي قرار بمنع زخور “من حضور التحقيقات المجراة مع موكليه، بل تمنت على المؤسسة الخيرية السعي لاستبداله بمحام آخر بسبب طريقة عمله التي لا تراعي خصوصيات العمل لديها، بل تؤدي الى إعاقة عمل المحققين .. تجنباً للحساسيات وحفاظاً على النظام داخل مكاتبها”.
وبذلك، وبمعزل عن النقاش الحاصل بشأن طبيعة الإجراء المتخذ وفي ما إذا كان ملزماً أم مجرد تمن (وقد انتهى تقرير المستشار الى عده قرار منع نافذاً وضاراً)، فإن المديرية بدت وكأنها تفرض أمرين متكاملين: الأول، أن لها حق إبداء رأيها في المحامي المناسب لتمثيل العمال والعاملات الأجانب لديها، والثاني، أن من شروط قبولها بالمحامي أن يتصرف على نحو يتماشى مع خصوصية عملها. وبكلمة أخرى، تبدو وكأنها ادعت بأن من صلاحياتها ممارسة رقابة على تكليف المحامين في قضايا الأجانب التي يجري التحقيق بشأنها في مراكزها، وتصنيف المحامين بين محام جيد ومحام مشاكس يجب استبعاده. ولا تجد المديرية حرجاً في القول بأنه يتم استبعاد المحامي المذكور ليس لأنه ارتكب جرماً ما أو خالف قانوناً ما، ولكن فقط لأنه يتصرف بطريقة استفزازية تثير حساسيتها، وبكلام آخر بطريقة لا تحبها. وقد خصت هذه الفئة من المحامين بإجراء خاص يتمثل بمذكرة الإخضاع وهي المذكرة التي يمنع بموجبها على المحامي الدخول الى مراكزها أو القيام بأي معاملة لديها[2].
وفيما خلا التقرير من تحديد ما تعده المديرية استفزازاً، يفهم من مخاوفها على حقوق الأشخاص الذين يتم التحقيق معهم (أصحاب العمل) أن هذا الاستفزاز ناجم عن تمسكه بحقوق موكليه الأجانب ضد هؤلاء (أصحاب أعمالهم السابقين) وعلى ضرورة معاملتهم معاملة ندية متساوية معهم بعيداً عن منطق الاستعلاء أو المساومة الذي غالباً ما يسود في حالات مماثلة. وقد ثبت في إحدى الدعاوى أن الأمن العام غالباً ما يرعى في هذه الحالات تسوية بين العامل المشتكي وصاحب العمل، على قاعدة التنازل عن الادعاء ضده مقابل تنازل صاحب العمل عن كفالته لشخص آخر على نحو يسمح للأجنبي بالاتفاق مع كفيل آخر والبقاء في لبنان[3].
بقي أن نذكّر بأن الأمن العام يدأب على استخدام تعبير “حساسية” في مجال الرقابة على تصوير الأفلام السينمائية، حيث يتعهد طالب التصوير بالامتناع عن المس بأي حساسية دينية أو اجتماعية أو سياسية أو أمنية. ومن هذه الزاوية، يظهر موقف الأمن العام على أنه مؤشر آخر على تغليب مراعاة حساسية أصحاب النفوذ على حقوق الناس، بما في ذلك الحق المقدس بالدفاع عن النفس، وعلى الأعم الحق بالمحاكمة العادلة.
مبادئ المحكمة العادلة
أما على صعيد الرأي الذي عبّر عنه المستشار المقرر، فمن اللافت أنه تضمن لائحة طويلة من الأسناد القانونية التي تظهر حجم المخالفة المرتكبة من المديرية العامة للأمن العام. ومن أبرزها:
– المادة 20 من الدستور التي تكرّس الضمانة القضائية للمتقاضين التي تتجسد من خلال حق الدفاع، وهو أحد أهم المبادئ العامة للقانون وقد كرّسه المجلس الدستوري باعتباره مبدأً عاماً دستورياً، كما كرّس ذلك مجلس شورى الدولة في العديد من قراراته.
– الفقرة ب من مقدمة الدستور التي تنص على التزام لبنان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة، بما فيها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وتحديداً المادة 14 منه التي تكرّس الحق في المحاكمة العادلة.
– حق الموقوف في القضايا الجزائية بالاستعانة بمحام إذا أراد ذلك (وهذا تحديداً ما أكدته محكمة التمييز الفرنسية في القرارات الصادرة عن هيئتها العامة في 15-4-2011).
– قانون تنظيم مهنة المحاماة الذي أعطى المحامي حصانة واسعة خلال ممارسته مهنته وبوجه خاص في المواد 74 و75 و76 منه.
وانطلاقاً من ذلك، خلص التقرير الى القول بأن القرار مستوجب الإبطال لمخالفته نصوص الدستور والمبادئ العامة للقانون وأهمها حق الدفاع وقانون الموجبات والعقود وقانون تنظيم مهنة المحاماة وقانون أصول المحاكمات الجزائية.
الضرر والحق بالتعويض
قدّر المستشار المقرر الضرر الذي تكبده زخور من خلال منعه من ممارسة المهنة بخمسة عشر مليون ليرة لبنانية، وقد رأى وجوب رد الطلب بالحكم بتعويضات إضافية بعد تفاقم الضرر الناجم عن إقالة المحامي زخور من المنظمة التي كان يعمل فيها، على اعتبار أن المديرية العامة للأمن العام عادت بعد حوالي الثمانية أشهر (تبعاً لقرار مجلس شورى الدولة في وقف تنفيذ قرارها) عن خطئها بموجب كتاب رسمي، وصرّحت للمحامي بعد أشهر عدة بالدخول الى مراكزها لممارسة مهنته فيها اعتيادياً، معلنة أن أبوابها مفتوحة له.
من هذه الزاوية، بدا رأي المستشار المقرر قابلاً للنقد وفي انفصال معين عن الواقع. وهذا ما نقرأه في مطالعة مفوضة الحكومة المعاونة التي ولئن خلصت الى النتيجة نفسها في تقدير الضرر، إلا أنها أشارت الى أن المنع من مزاولة الواجبات المهنية والضرر هو معنوي وله انعكاساته على علاقات زخور بالمنظمة، “فلربما تزعزعت ثقتها به نتيجة للمنع الذي أصابه والتمني باستبداله من قبل الإدارة”. وهذه الكلمات إنما تؤشر الى وجوب تحديد الضرر على ضوء الوقائع، ولا سيما أن تبادل اللوائح يظهر أن المنظمة الخيرية لم تعاود تعيين زخور محامياً للأشخاص الذين تؤمّن لهم المساعدة القانونية، وهو أمر نتج على الأرجح ليس من تزعزع ثقتها به كما جاء في المطالعة، بل عن رغبتها في المحافظة على علاقة جيدة مع الأمن العام، ومراعاة حساسيته وتجنب أي استفزاز تجاهه. وبذلك، يُخشى أن يكون الأمن العام، بما له نفوذ، قد نجح في تحقيق مأربه من استبعاد محام لا يحبه، وفي فرض قواعده من خلال التمنيات والإيحاءات ولم يعد بحاجة الى إصدار قرارات من شأنها أن ترتب مسؤولية فادحة عليه. ومن هذه الزاوية، يبدو مقدار التعويض غير متناسب مع حجم الخطأ المرتكب أو الضرر المحقق.
وختاماً، بقي أن نأمل أن يشكل هذا التقرير والمطالعة بما أبرزاه من وقائع ومبادئ سلاحاً قوياً يُطلب من النقابة أن تحسن استعماله لحماية المحامين إزاء تصرفات تعسفية كهذه (ومنها صدور مذكرات إخضاع ضدهم) وتكريس حقوق الأشخاص المحتجزين لدى الأمن العام بالمحاكمة العادلة.
نشر في العدد الرابع عشر من مجلة المفكرة القانونية
المزيد على الرابط ادناه
[1]أديب الياس زخور, “تعليق على مذكرة تنظيم دخول المحامين الى مباني المديرية العامة للأمن العام”, العدد السادس للمفكرة القانونية, تشرين الثاني 2012.
[3]سارة ونسا، حكم جزائي يرفض تهميش دور القاضي في حماية حقوق عاملات المنازل، ويبطل مقايضة تنازل “كفيل” عن عاملة منزلية بتنازلها عن حقوقها”، العدد الثاني عشر من المفكرة القانونية, كانون الأول 2013