قرابين جديدة على مذبح الجامعة


2022-09-07    |   

قرابين جديدة على مذبح الجامعة

67585 تلميذا اجتازوا البكالوريا بنجاح (الدورة الرئيسية ودورة المراقبة) أي بنسبة 53.27 بالمائة من جملة 134950 مترشحا. يستعدّ هؤلاء للذهاب بعد أيام قليلة إلى المؤسسات الجامعية التي اختاروها أو فُرضت عليهم عقب دورات التوجيه الجامعي. ككل سنة، هناك الآلاف من الطلبة الساخطين بسبب توجيههم إلى شعب لا يرغبون فيها و/أو ذات أفاق تشغيلية ضعيفة وشبه معدومة (البعض يسميها “شعب وهمية”)، أحيانا على بعد مئات الكيلومترات من منازلهم. التوجيه الجامعي في تونس تكثيف لأوجه متعددة من اللاعدالة على أعتاب الجامعة واستمرار لمظالم قديمة ومزمنة.

كيف يتم التوجيه الجامعي في تونس؟

يتمّ التوجيه الجامعي في تونس على أربع دورات أساسية. دورة مصغّرة وسريعة عقب اصدار نتائج الدورة الرئيسية للبكالوريا تسمى دورة المتفوقين. وهي تخصّ الناجحين المتحصّلين على أعلى المعدلات في شعبهم والذين لديهم حظوظ عالية في الحصول على واحدة من 47 منحة التّي توفرها الدولة للدراسة في الخارج في الأقسام التحضيرية بفرنسا والجامعات الفرنسية والألمانية (تستأثر شعبة الرياضيات لوحدها ب30 منحة) أو مقعدا في “المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية بتونس” المرموق (120 مقعدا في الجملة). الدورة الثانية مفتوحة لبقية الناجحين في الدورة الرئيسية من الباكالوريا، والذين يتنافسون على كل الشعب بلا استثناء حسب الأولوية التي يمنحها المجموع العام الذي تحصلوا عليه. وعادة ما “تُخطف” أغلب مقاعد الشعب “النبيلة” ذات الافاق التشغيلية خلال هذه الدورة ويترك الفتات للمتبقّين. أمّا الدورة الثالثة فهي للناجحين في الباكالوريا في دورة المراقبة والذين لا تتبقى أمامهم اختياراتٌ كثيرة ملائمة لتوجهاتهم ورغباتهم، وتعلن نتائجها في بداية شهر أوت باستثناء الشعب التي تتطلب اجراء اختبارات لتقييم الإمكانيات والتي تعلن نتائجها منتصف شهر أوت. الدورة الرابعة تتيح إمكانية إعادة التوجيه وتهمّ أساسا الطلبة الذين لديهم مشاكل صحية واجتماعية، أو من يريدون فرصة ثانية تسمح بها معدلاتهم، وتعلن نتائجها في آخر يوم من أوت قبل ساعات من بداية السنة الجامعية الجديدة. وهناك “استثناء تونسي” غريب يتمثل في تخصيص دورة توجيه جامعي للناجحين في البكالوريا الفرنسية (معاهد فرنسية في تونس)، تمكنهم الدولة من مئات المقاعد في اغلب الشعب ما عدا الطب والصيدلة وطب الأسنان وبعض الاختصاصات المشابهة وبعض المدارس والمعاهد العليا في الهندسة والاقتصاد. لا مبرّر منطقي لحرص وزارة التعليم العالي العمومي على توفير مقاعد لتلاميذ اختاروا (أو اختارت عائلاتهم) أن يدرسوا في بلدهم في معاهد دولة أجنبية (تكاليف الدراسة بها باهظة) ويتحصّلوا على بكالوريا أجنبية.

وللاسترشاد، تصدر وزارة التعليم العالي كل سنة دليل توجيها جامعيا جديدا يحتوي كل الشعب المتاحة والمؤسسات الجامعية وعدد المقاعد وكذلك عدد النقاط الإجمالي الذي قٌبل به آخر مترشح في كل شعبة. يتم احتساب مجموع النقاط أو “السكور score” على مرحلتين. الصيغة الإجمالية FG وهي تتكون من جزءين، الصيغة القاعدية FB وهي المعدّل المتحصّل عليه في الباكالوريا ضارب أربعة، زائد الصيغة الخاصة FS بكل شعبة تعليم ثانوي كما هو موضّح أسفله:

بعد الحصول على الصيغة الإجمالية FG، يضاف لها المعدّل المتحصّل عليه في مادّة أو مادتيّن أساسيّتين في الشعبة الجامعية المُراد التوجّه لها. وهكذا نتحصّل على مجموع النقاط الذي على أساسه يُرتّب المترشحون وأولويّتهم في الحصول على مقعد.

على الورق، يبدو نظام التوجيه الجامعي قائما على الاستحقاق والإنصاف والمساواة في الفرص، لكن الواقع يظهر تفاوتات عديدة، صارخة أحيانا.

في أوجه اللاعدالة

  • التوزيع الجغرافي لمؤسسات التعليم العالي

هناك أكثر من 203 مؤسسة تعليم عالي عمومي في تونس. تُشرف وزارة التعليم العالي على أكثر من 170 مؤسسة بشكل كليّ والبقية بالشراكة مع وزارات أخرى، مع وجود “جامعة افتراضية” واحدة وجامعة دينية واحدة “الزيتونة” (ثلاث مؤسسات في العاصمة تونس ومؤسستين في ولاية القيروان).

153 مؤسسة جامعية -أي أكثر من 75 بالمئة من مجموع المؤسسات- تقع في ولايات تطلّ على البحر أي في الجهة الشرقية للبلاد. يضمّ إقليم تونس الكبرى وحده (العاصمة تونس وولايات أريانة ومنوبة وبن عروس) 62 مؤسسة جامعية عموميّة أي قرابة الثلث، منها 36 وحدة في ولاية تونس فقط. ثم نجد قطبين متوسطيّن في ولاية صفاقس ب21 مؤسسة جامعية وولاية سوسة ب18 مؤسسة وقطبين صغيرين في كل من ولايتي المنستير وقابس ب12 مؤسسة جامعية في كل واحدة.

التفاوت لا يقتصر فقط على التوزيع الجغرافي للمؤسسات بل تشمل أيضا طاقة الاستيعاب التي لا تتجاوز في بعض الولايات الداخلية بضع مئات من المقاعد في حين تناهز الثلاثين ألفا في ولاية صفاقس والخمسين ألفا في ولاية تونس العاصمة. كما ان أغلب المؤسسات الجامعية الموجودة في المناطق الداخلية إمّا معاهد ومدارس ضعيفة التجهيزات والإمكانات أو كليّات ذات آفاق تشغيلية جدّ محدودة.

على سبيل المقارنة، هناك 17 معهدا للدراسات التحضيرية الهندسية في تونس: منها 16 في ولايات ساحلية ومعهد واحد في ولاية داخلية (قفصة)، وقرابة 30 مؤسسة لتكوين المهندسين ثلاثة أرباعها موجودة في ولايات ساحلية. كليّات الطب أربعة فقط، تتوزع بين أربع ولايات ساحلية: تونس العاصمة وصفاقس وسوسة والمنستير، علما أن الولايتين الأخيرتين تفصل بينهما 20 كم فقط. لدينا كلية واحدة للصيدلة وأخرى لطب الأسنان وكلتاهما موجودتان في نفس الولاية الساحلية: المنستير. نفس الشيء بالنسبة لمؤسسات التكوين في القضاء والهندسة المعمارية و”البوليتكنيك” والصحافة والسينما: مؤسسة واحدة في العاصمة تونس. مؤسسات التكوين في شعبة الحقوق سبعة، أربع في ولايات ساحلية وثلاث في ولايات داخلية مع فارق شاسع في التكوين وطاقة الاستيعاب. وكذا الأمر بالنسبة للعلوم السياسية (4 مؤسسات: اثنتان في العاصمة وواحدة في سوسة فقط وأخرى في القيراون) والمعاهد العليا للدراسات التجارية IHEC (ثلاثة متوزعة بين تونس وسوسة وصفاقس).  باختصار، الشعب ذات الأفق التشغيلية الأكبر والتي تعتبر أيضا خزّان النُخب تتركّز في ثلاث أو أربع ولايات ساحلية.

  • شعب نبيلةوأخرى فاشلة

لم يترافق التزايد الكبير في عدد الطلبة التونسيين مع بداية الألفية الثالثة مع تغيّرات عميقة في طبيعة النظام الاقتصادي التونسي الذي ظلّ منذ سبعينات القرن الماضي قائمًا على السياحة والصناعة الخفيفة والخدمات الرخيصة مع ضعف إنتاجيته وقيمته المضافة وعدم حاجته إلى عدد كبير من الكفاءات الجامعية.  أزمة بطالة حاملي الشهادات الجامعية ستخلق تراتبية في أهميّة وآفاق مختلف الشعب الجامعية -حتى وجاهتها الاجتماعية- حسب قانون السوق: العرض والطلب. مهن فقدت بريقها كالتعليم بمختلف مستوياته، وأخرى ارتفعت قيمتها بحكم قانون الطلب في السوق والتطور التكنولوجي واحتياجات البلاد.

اليوم تنفق العائلات التونسية، خاصة المتوسطة، مبالغ كبيرة جدا على التعليم و”منشطاته” (مثل الدروس الخصوصية ومراكز تعلم اللغات ودورات “تنمية الذكاء” و”تطوير المهارات”) حتى تضمن لأبنائها حظوظا أكثر في السباق نحو الشعب “النبيلة”. ماهي هذه الشعب النبيلة؟ الإجابة يمكن استنتاجها بسهولة من خلال إجراء “التمييز الإيجابي” في التوجيه الجامعي الذي أقرته حكومة يوسف الشاهد سنة 2018، عبر تخصيص 8 بالمئة من مقاعد شعب جامعية معينة للطلبة الوافدين من 12 ولاية داخلية وولايتين ساحليتين مهمشتين نسبيا (قابس ومدنين). وذلك لضمان وصول أكبر عدد من أبناء هذه الجهات إلى هذه الشعب والتقليل من هيمنة أبناء الولايات “المحظوظة” عليها: الطب، الصيدلة، طب الأسنان، الهندسة في اختصاصات متعددة، المعلوماتية وتكنولوجيات الاتصال، المراحل التحضيرية في الهندسة والعلوم الصحيحة واللغات، اتصال وصحافة، علم النفس، الإجازة في القانون، الإجازة في علوم التصرف وبكالوريوس أعمال. أغلب هذه الشعب تتمتع بتشغيليّة كبيرة شبه مضمونة كما أن العديد منها يسهّل بقوة الحصول على عقود عمل في أوروبا وكندا والخليج.

وعلى الرغم من النوايا الحسنة وراء هذا الإجراء فإنه لا يقضي على التمييز ضد هذه الولايات. إذ أنّه يتوجّه لأبنائها المتفوقين دون سواهم، وكأن حلّ مشكلة بضعة أفراد يمكنه ردم تفاوت تعاني منه ولاية بأسرها. بدلا من تعديل خارطة المؤسسات الجامعية عبر إحداث وحدات جديدة في المناطق الداخلية أو نقل مؤسسات قديمة إليها من العاصمة والمدن الساحلية الأخرى، اختارت الدولة زيادة بضعة مقاعد في مؤسسات “النخبة” المتركّزة على الشريط الساحلي.

 كما أن هذا التمييز “الإيجابي” يفترض أنّ كلّ سكان الولايات الساحلية من المحظوظين والميسورين متجاهلا الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية في أريافها وأحزمة الفقر المحيطة بمدنها. حيث تكون أحيانا نسب الفقر والبطالة والتسرّب المدرسي أعلى ممّا هي عليه في مراكز الولايات الداخلية. كان يفترض بمعايير التمييز أن تكون أكثر دقة وأن تعتمد مثلا على مؤشرات التنمية والبطالة والفقر متعدّد الأبعاد.

  • التنفيل الجغرافي

“دمقرطة” الوصول إلى الجامعة منذ أواخر تسعينات القرن الفائت مع التركز الجغرافي الذي أوضحناه أعلاه خلقا عبء كبيرا على المؤسسات والمبيتات الجامعية في المدن الكبرى. ولمواجهة هذه المشكلة أقرّت وزارة التعليم العالي إجراء أرادت به تشجيع المتوجهين الجدد على البقاء في ولاياتهم او الذهاب إلى ولايات مجاورة قريبة وذلك عبر إسناد تنفيل ب  7 بالمائة من مجموع النقاط إلى كل مترشح يرغب في الحصول على شعبة موجودة في ولايته أو أقرب مؤسسة للتعليم العالي من مركز ولاية سكناه. هذا الاجراء كان ليكون حلاّ عادلا لو كان الاختلال في التوزيع الجغرافي للمؤسسات ضعيفا. أما في حالة الأمر في تونس فإن التفاوت صارخ، وهذا الاجراء “التمييزي” ذهب أساسا لفائدة الناجحين في البكالوريا القاطنين في المناطق المحظوظة التي يوجد بها عرض جامعي كبير ومتنوع مثل صفاقس وسوسة والمنستير وتونس الكبرى، فأغلبهم غير مضطرّ أصلا لاختيار شعبة في ولاية بعيدة. ونظرا لأثاره التمييزية لم يعد هذا الاجراء يطبق في “الشعب النبيلة” ابتداء من 2012، وكذلك الشعب التي لا توجد إلاّ في ولاية واحدة، لكنه ما زال معمولا به في بقية الاختصاصات. ولنفهم مدى لاعدالة هذا الإجراء، فلنتثبت مرة أخرى في توزع الجامعات حسب الولايات والأقاليم: 62 مؤسسة جامعية في إقليم تونس الكبرى، 20 في الشمال الشرقي (بنزرت ونابل وزغوان)، 57 في الوسط الشرقي (صفاقس وسوسة والمنستير والمهدية)، و19 في الجنوب الشرقي (قابس ومدنين وتطاوين). وتتقاسم 10 ولايات “غربية” أقل من 50 مؤسسة جامعية فيما بينها: 17 في إقليم الشمال الغربي (الكاف، سليانة، باجة، جندوبة)، 15 في إقليم الوسط الغربي (القيروان، سيدي بوزيد، القصرين) و12 في إقليم الجنوب الغربي (قفصة وتوزر وقبلي).

هناك 10 ولايات يقلّ فيها عدد المؤسسات عن خمسة، و7 ولايات توجد بها ما بين 5 و10 مؤسسات، و5 ولايات بين 11 وعشرين مؤسسة، ولاية واحدة أكثر من 20 مؤسسة (صفاقس) وولاية واحدة أكثر من 30 مؤسسة (تونس).

  • التعليم الجامعي الخاص على الخط..

مع قدوم السنة الجامعية 2022 – 2023، تستعد 80 مؤسسة جامعية خاصة لاستقبال ما بين 30 و40 ألف طالب أغلبهم تونسيون مع نسبة من الطلبة القادمين من دول افريقيا جنوب الصحراء. أمّا توزيعها الجغرافي المتركز في المدن الساحلية الكبرى، فلا يفرق كثيرا عن تلك العمومية: 46 مؤسسة في إقليم تونس الكبرى، 18 في ولاية سوسة، 6 في ولاية صفاقس، 3 في ولاية نابل، 2 في ولاية المنستير وقابس، واحدة في كل من ولايات قفصة ومدنين والقيروان.

نمو القطاع الخاص دليل على خلل كبير في التعليم العالي العمومي ومتغيرات اجتماعية كبيرة. مع ظهوره في بداية القرن الحالي كان أغلب المتوجهين إليه ممن لم تسعفهم معدّلاتهم في البكالوريا للحصول على مقعد في الشعبة التي يريدون التوجّه لها في الجامعات العمومية. هذا المحفّز الأساسي -أي مرونة شروط القبول- مازال قائما إلى اليوم. لكن هناك محفزات أخرى قديمة وجديدة مثل حالة المباني والتجهيزات وجودة التكوين وتنوع الاختصاصات والتأقلم السريع مع المتغيرات التقنية والتكنولوجية التي يشهدها العالم. إضافة إلى قدرة بعض الجامعات الخاصة على ضمان فرص شغل لخريجيها بفضل علاقاتها مع الشركات الخاصة والبنوك وغيرها. والتعليم الخاص على الرغم من تكاليفه المرتفعة جدا فهو ليس قبلة لأبناء المقتدرين فقط، بل يشكل أبناء الطبقة الوسطى زبائنه الأساسيّين. إذ تعدّه العائلات استثمارا في مستقبل أبنائها خاصة مع احتدام التنافس على فرص الشغل. تتنوّع عروض التكوين التي توفرها الجامعات الخاصة في تونس وتبقى أهمها الهندسة والمحاسبة وإدارة الأعمال والاختصاصات شبه الطبية. العدد المتزايد للجامعات الخاصة في تونس (تضاعف أكثر من عشر مرات في أقل من 20 عاما، كان عددها 6 سنة 2001) وطلابها، يزيد في اتساع الفوارق الطبقية بين الطلبة التونسيين وقد نصل إلى مرحلة يكون فيها تعليم عال للأغنياء وآخر للفقراء.

الخلل قديم ومزمن

اللاعدالة متعددة الأوجه في لحظة التوجيه الجامعي ليست إلا تتويجا لمسيرة من اللاعدالة تبدأ منذ سنّ ما قبل التمدرس إلى قاعات اجتياز البكالوريا. خط الانطلاق ليس واحدا وقساوة المسار ليست متماثلة.

حتى قبل الدخول إلى المدرسة هناك تمييز طبقي ومناطقي بين التونسيين من حيث عدد رياض الأطفال والحضانات وأقسام التحضيري العمومية المتوفر في كل منطقة وإمكانية التمتع بهذه المرافق والخدمات. ففي الوقت الذي تجد فيه أحياء غنية في مدن كبرى تتركز فيها عدة رياض أطفال بعضها يدرس لغات أجنبية ومعلوماتية لصغار تبلغ أعمارهم 4 و5 سنوات، فإن بعض المناطق لا توجد فيها محاضن ولا رياض أطفال ولا سنوات تحضيرية عمومية أو خاصة بتاتا. وإن وجدت، ففي اغلب الأحيان تكون مؤسسات خاصة وليست متاحة للفقراء. دعنا من الروضة فلنذهب مباشرة إلى المدرسة الابتدائية، وهنا تبدأ الفوارق في التأثير على مستويات التلاميذ وتساوي حظوظهم. ما بين كثافة كبيرة في المدن الكبرى تجعل متوسط المسافة بين منزل التلميذ ومدرسته بضع مئات أمتار وبين الأرياف والمناطق الداخلية حيث قد تبلغ نفس المسافة بضع كيلومترات. مع معوقات أخرى مثل التضاريس وقسوة المناخ والوديان والحيوانات البرية ومنظومة نقل عمومي متردية وشبه غائبة. حتى محيط المدرسة مختلف، مناطق تكثر فيها الدروس الخصوصية ومراكز اللغات وتنمية الذكاء والمكتبات والنوادي الرياضية وأماكن الترفيه مقابل مناطق محرومة من أبسط المرافق.. الاختلال التنموي في تونس مخجل وقاتل للأحلام والطموح.

مع الوصول إلى مرحلة الإعدادي والسنة الأولى من التعليم الثانوي ينقطع نفس عدد كبير من التلاميذ ويوقنون بعبثيّة أو استحالة المواصلة. فيتسرب الآلاف منهم إلى صفوف العاطلين والعاملين في قطاعات الاقتصاد غير المهيكل والتهريب وقائمات الانتظار في مراكب “الحراقة”. طبعا حتّى في المدن “المحظوظة” يشكّل الانقطاع المدرسي ظاهرة ملحوظة، لكن آثاره أخفّ بحكم فرص التكوين المهني وتنوع الأنشطة الاقتصادية وحتى إمكانات الدعم الأسري.

في الثانوي ستظهر مشاكل أخرى تتعلّق بمستوى الأساتذة العاملين في المناطق الداخلية. فجزء كبير منهم ليسوا من أبناء المنطقة، يُرسلون إليها في بداية مشوارهم المهني مع ما يعنيه ذلك من نقص في الخبرة، وأغلبهم لديه هاجس أساسي وهو النُقلة إلى مركز الولاية التي يعملون بها أو إلى ولاياتهم الأصلية، في وضعيّة أشبه ب “ترانزيت” أو “منفى” لا تُحفّز كثيرا. هناك أيضا تفاوت كبير بين مختلف المناطق التونسية في المستوى العام للتلاميذ في موّاد بعينها: أساسا الرياضيات واللغات الأجنبية، وبشكل أقل المعلوماتية والعلوم التكنولوجية. ويظهر هذا التفاوت بين الأرياف والمدن الداخلية الصغرى من جهة، والمدن الساحلية الكبرى من جهة أخرى حيث الانفتاح على اللغات الأجنبية والتكنولوجيات والثقافة الرقمية أكبر. ولا تقتصر تأثيراته على مستوى تكوين التلميذ والأعداد التي يتحصّل عليها في هذه الموّاد، بل له انعكاسات هامة وحتى “مصيرية”، أولّا في مرحلة التوجيه المدرسي عندما يختار واحدة من الشعب المتاحة (رياضيات، علوم تجريبية، إعلامية، علوم تكنولوجية، آداب، اقتصاد وتصرف)، وثانيا لحظة التوجيه الجامعي في صورة اجتياز البكالوريا بنجاح. نسبة 4 بالمائة فقط في ولايتي القصرين والكاف يتوجهون إلى شعبة رياضيات في حين يتوجه نسبة 15 بالمائة في ولايتي صفاقس وأريانة لذات الشعبة. أكبر نسبة من التوجّه نحو شعبة الآداب في ولاية القصرين بنسبة 32 بالمائة في حين لا تتجاوز نسبة التوجه نحو ذات الشعبة 8 بالمائة في ولاية صفاقس“. هذا ما ورد على لسان مستشار عام للتوجيه المدرسي والجامعي ورئيس الجمعية التونسية لمستشاري التوجيه المنصف الخميري خلال لقاء مع إذاعة تونسية خاصةسوق الشغل في تونس محدود جدا والفرص الجيدةنادرة، وأغلبها يتحصل عليها خريجّو الشعب العلمية والتقنية والمعلوماتية، وهذا ما يعني أنّ تدني إعداد التلميذ عندما يكون عمره 15 أو 16 سنة في مواد مثل الرياضيات والعلوم الصحيحة سيقلّل بشكل كبير من حظوظه في الوصول إلى شعبة جامعية مطلوبة في سوق الشغل ويؤثر على عدد سنوات بطالته ومستواه المادّي بقية حياته.

***

بعيدا عن التوجيه الجامعي والسنة الجامعية الحالية، هناك جملة من الأسئلة التي يجب أن تُطرح وتجد إجابات. ما هو الدور الذي تلعبه الجامعة التونسية أو الذي يفترض أن تلعبه؟ ففي العقدين الأخيرين-وخاصة في العشرية الأخيرة- تحوّلت الجامعة إلى مصنع يُفرّخ جيوشا من العاطلين عن العمل او العاملين في شركات خاصة بكفاءة متدنية وأجور أدنى، ومخبر يطور أقلية من المتفوقين في “الشعب النبيلة” و/أو ذات التشغيلية العالية يذهب أغلبهم -آجلا أم عاجلا- للعمل والاستقرار في الخارج. هل مازالت الجامعة “مصعدا اجتماعيا” أم انها صارت إحدى بوابات إعادة الإنتاج الطبقي؟ هل هناك بعد استراتيجي للبحث العلمي في تونس أم أنّ مخابره ومساراته وشهاداته هي مجرّد أقنية ل “تلطيف” البطالة؟ لماذا تُنفق الخزينة العمومية “دم قلب” التونسيين على التعليم العالي إذا كان في خدمة شريحة قليلة من المتفوقين و/أو المحظوظين طبقيا؟ لماذا وبعد ستين عاما من ولادة الجامعة التونسية ما زال الاقتصاد التونسي قائما على نفس السياسات: الفلاحة التصديرية، السياحة الشاطئية والصناعات التحويلية الخفيفة؟ أين أثر التعليم العالي في الاقتصاد والتنمية وخلق الثروة؟ لماذا تتركّز الجامعات في المدن “المحظوظة” بدلا من الاعتماد عليها كنواة للتنمية في المناطق الأقل حظا؟ على “الجمهورية الجديدة” -أو القديمة لا بأس- أن تقدم بعض الإجابات السريعة والحلول الناجعة حتى تكفّ الجامعة عن “ذبح” أحلام عشرات آلاف الشباب والشابات (وآمال عائلاتهم) كل سنة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في التعليم ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني