في المشهد الموازي لساحة الحراك في النبطية، تحافظ عجلة الحياة في المدينة على رتابة دورانها. فالوسط التجاري يتأهّب باكراً لمحاولة إطلاق حركته اليومية المعتادة، فتصل عربة نقل اللحوم من المسلخ بالتزامن مع شاحنة رفع النفايات، الأولى تفرغ حمولتها والثانية تفعل العكس. ترتفع أصوات بائعي الخضار لتطغى على كل ما عداها من أصوات، وكل يوم أسعار جديدة، بحسب سعر صرف الدولار. ويهجم الازدحام دفعة واحدة، باصات المدارس وسيارات الموظفين والعابرين وقاصدي المدينة لإتمام معاملة إدارية ما.
يستوي المشهد في المدينة، عند التاسعة صباحاً، فتفتح المؤسسات والمحال أبوابها، ولكن الجميع “يكشّ ذبّان” كما يقول صاحب أحد المتاجر. فحركة البيع والشراء شبه معدومة، ومقتصرة على ضرورات الحياة اليومية، كالمواد الغذائية واللحوم والخبز والدواء، وكل ما يتعدّى ذلك هو من الكماليات.
تستيقظ النبطيّة وتنام على هذه الحال منذ خيّم شبح الأزمة الاقتصادية على لبنان عامة، وعلى منطقة النبطية خاصة، كونها إحدى مناطق الأطراف المحرومة من الإنماء، سواء من الحكومة المركزية التي همّشتها أو من السلطة المحلية التي نهبتها وفشلت في إدارة شؤونها.
وبعيداً عن استياء البلدية والثنائي الحاكم من “الدوام الثوري” في النبطية من الثالثة بعد الظهر حتى السادسة مساءً، وبعيداً عن ساحة الثورة التي تتوهّج وتخبو تبعاً لما يهبّ عليها من شائعات واتهامات، لا تزال النبطية تنام وتستقيظ على أزمة نفايات مستفحلة منذ عودة الانتخابات البلدية إلى ربوعها مع بداية التسعينيات حتى هذه الساعة، مما تسبب مؤخراً في انتشار أعداد كبيرة من الجرذان في شوارعه. يضاف إلى ذلك أزمة مياه تطلّ برأسها كل صيف، رغم أن نبع الطاسة فوق رأسها ونهر الليطاني يغسل قدميها. وعلاوة على ذلك تعاني النبطية من أزمة كهرباء أدّت إلى انخفاض ساعات التغذية بشكل مجحف مقارنة مع المدن اللبنانية الأخرى، إضافة إلى تردّي وضع البنى التحتية والشوارع والأرصفة وجوانب الطرقات. وتعاني النبطية أيضاً من غربة ثقافية حيث لا قاعة مسرح عامة ولا سينما ولا أي نشاط ثقافي أو فني أو سياحي أو ترفيهي، إلّا إذا كان مستوفياً للشروط الدينية والسياسية.
وعلى الرغم من هذا الواقع، تبرّر البلدية وقوى الأمر الواقع قمعهما لثوّار النبطية وإجبارهم على تقليص مساحة اعتصامهم قرب السراي الحكومي وحشرهم ضمن مربع حديدي أشبه بالسجن، وفتح الطريق البعيد عن السوق التجاري، بأن الحراك أثّر على حركة السوق وأصابها بالتراجع.
تهمة التسبب بالركود الاقتصادي هي أولى التّهم التي سيقت ضد حراك النبطية، والتي شرّعت محاولات فضّه المتكررة. فحصلت الاعتداءات الثلاثة الشهيرة التي تحوّلت إلى نقاط سوداء في ذاكرة أهل المدينة. ولكن الثوّار أدركوا منذ اللحظة الأولى، أنها ليست سوى تهمة معلنة لتهم سياسية مبطّنة، يسعى مناصرو الثنائي إلى إلصاقها بالحراك، بغية إفراغه من دوافعه وأهدافه وضرب شعبيته.
ففي الأسبوع الثاني للثورة، بدا هؤلاء المناصرون كأنهم نجحوا في مهمتهم، بعد أن تفرغوا لتخويف الناس من أن يصبحوا من حيث لا يدرون وقوداً لمؤامرة ما. فاشتغلت الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والتهديدات، لثنيهم عن النزول إلى الساحة. وتحوّلت الأخيرة بفعل هذه الضغوطات، إلى ما يشبه جلسة “عصرونية” يلتقي فيها عدد قليل من الأصدقاء لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، بعدما كانوا في الأيام الأولى لثورة 17 تشرين الأول كالنهر الجارف.
ولولا الحركة الطالبية لكانت الثورة في النبطية لفظت أنفاسها. فقد أعادت التظاهرتان الطالبيّتان ضخ الدماء في عروقها، ومشى الثوار خلف الطلاب في شوارع المدينة، مستسلمين لقيادتهم وهتافاتهم، مسلّمين بشجاعتهم وغضبهم.
أنقذ الطلاب الأسبوع الثاني للثورة ثم عادوا إلى صفوفهم الدراسية، وعادت ساحة الاعتصام إلى ركودها مجدداً مع مطلع الأسبوع الثالث. فكان لا بد من كفررمان التي استنجدت النبطية بثوّارها، فأتوا يلبّون النداء والتقى الجمعان في ساحة التمثال (حسن كامل الصباح) وسارا في تظاهرة مهيبة جابت شوارع المدينة، على وقع الأغاني الثورية، منهم من حمل المشاعل ومنهم من قرع الطناجر.
مع بداية الأسبوع الرابع، حقق ثوّار النبطية، انتصارات صغيرة: تمكّنوا من إنارة ساحة الاعتصام بعدما عتمت عليهم البلدية، ونصبوا خيمة في وسط الساحة، رغم عدم موافقة البلدية، وصاروا يعقدون فيها الاجتماعات يومياً، ويستضيفون فيها شخصيات وخبراء لمناقشة مواضيع سياسية وقانونية واقتصادية، مثل آلية محاكمة الفاسدين، والزواج المدني، والقانون الانتخابي خارج القيد الطائفي، وقانون الأحوال الشخصية الموحّد والحلول الممكنة للأزمة الاقتصادية. واستكملوا أنشطتهم حيث استعاروا أجهزة صوت من ثوّار كفررمان، وخصّصوا يوماً للأطفال للتعبير بالرسم عن مطالبهم من الثورة تحت إشراف الفنانين التشكيليين تمام غندور وحسين سلوم. ووجهوا تحيّة للشهيدين حسين العطار وعلاء أبو فخر، من خلال نصب تذكاري على شكل جناحين أبيضين أقامه غندور وسمّاه “علاء فخر الثورة” وإلى جانبه صورة حسين العطار.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.