يحار المرء في توصيف قرار المجلس الدستوري الأخير رقم 7 تاريخ 28 تشرين الثاني 2014 والذي رد بموجبه الطعن المقدم من أجل إبطال قانون التمديد لمجلس النواب. فالقرار المذكور لا يكتفي بتأكيد جميع المبادئ الدستورية بل هو أيضاً يعلن صراحة أكثر من مرة أن تمديد ولاية مجلس النواب لسنتين وسبعة أشهر يتعارض مع الدستور. وهكذا، بعد إعلانه أن” دورية الانتخابات مبدأ دستوري لا يجوز المس به مطلقاً”، وأن ربط إجراء الانتخابات بالاتفاق على قانون انتخاب جديد عمل مخالف للدستور، وأن الظروف الاستثنائية وإن كانت تبرر تأجيل الانتخابات لمدة محدودة “غير أنها لا تبرر تمديد ولاية مجلس النواب سنتين وسبعة أشهر”، يقرر المجلس الدستوري بشكل أقرب إلى السوريالية “رد الطعن للحيلولة دون التمادي في حدوث الفراغ في المؤسسات الدستورية”.
ولا بد لنا من التذكير أولاً بأن المجلس الدستوري الحالي بإصداره هذا القرار يكون منسجماً مع ذاته، إذ هو سبق أن مدد لنفسه عندما تمنّع عن إجراء القرعة لتحديد الأعضاء الخمسة الذين انتهتولايتهم في أيار 2012 بذريعة القانون الذي أقره مجلس النواب في 2 تموز 2012 المتضمن إلغاء القرعة،والذي لم يصدر في الجريدة الرسميةإلا في نهاية شهر تشرين الأول 2012. لذلك تكون الهيئة الحالية للمجلس الدستوري قد مددت لنفسها من خلال اعتبار أن الرغبة السياسية التي أقرت قانون إلغاء القرعة تتفوق على الموجب الدستوري القاضي بعدم نفاذ القانون إلا بعد إصداره عملاً بالمبدأ “Lex instituitur cum promulgator” (القانون يوجد عند إصداره). فلا غرابة إذاً أن يتبع المجلس الدستوري النهج نفسه، فيقبل التمديد لمجلس النواب مستنداً إلى تفوق الواقع السياسي على المبادئ التي تؤلف مجتمعة الكتلة الدستورية.
وبما أن المجلس الدستوري أقر جميع المبادئ الدستورية وأعلن صراحة أن التمديد مشوب بعيب عدم الدستورية ومخالف للقيم التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، لم يتبقّ في جعبتنا من حجج لمقارعة هذا القرار، إذ كيف لنا أن نجادله في أمور لا خلاف فيها. لذلك كان لا بد لنا من الاقتصار في تعليقنا هذا على الفقرة الثامنة والأخيرة من القرار والتي تقلب الوضع رأساً على عقب وتعلن صراحة أن “إبطال قانون التمديد المخالف للدستور، في الوضع الراهن، قد يؤدي إلى فراغ في السلطة الاشتراعية، يضاف إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، ما يتعارض جذرياً من الدستور، لذلك (…) يعتبر التمديد أمراً واقعاً”. والظاهر أن فك طلاسم هذه الفقرة بغية دحضها سيبين لنا مدى خطورة النتائج المستقبلية المترتبة على هذا القرار.
الملاحظة الأولى التي تفرض نفسها تتطلب التفريق الجديد المعتمد بين نوعين من العيوب الدستورية. فمن خلال قرار المجلس الدستوري، يتضح لنا أن هناك ما يخالف الدستور (التمديد) من جهة، وما يتعارض جذرياً مع الدستور (الفراغ) من جهة ثانية. وهكذا يكون المجلس عن علم أو جهل قد أدخل تراتبية في المخالفات بحيث يتم القبول بالمخالفة الدنيا بغية عدم الوقوع بمخالفة كبرى، ما يطعن في الغاية التي من أجلها وُجد المجلس الدستوري، ألا وهي مراقبة دستورية القوانين وإبطال أي نص لا يتوافق مع أحكام الدستور.
وما تجدر الإشارة اليه هو أن المجلس الدستوري طبق مبدأ التناسب (principe de proportinnalité) الذي أقره اجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي في مجموعة كبيرة من قراراته والذي يفضي إلى القبول بالمس بمبدأ دستوري ما باسم مبدأ دستوري آخر شريطة الموازنة بينهما وفقاً لحدود معينة. فلا هرمية بين المبادئ التي تتشكل منها الكتلة الدستورية (bloc de constitutionnalité) بل تحكيم دقيق يقوم به المجلس من أجل تأمين التوازن بين اعتبارات متعارضة. فمبدأ دورية الانتخابات يجب عدم تعطيله مطلقاً من أجل منع الفراغ بل يتوجب الموازنة بينهما للخروج بالنتائج التي تتدرج على الشكل التالي:
· أولا: القبول بالتمديد إذا تم التحقق من الظرف الاستثنائي على أن يكون هذا الأمر محصوراً بفترة زمنية قصيرة، وعليه فإن التمديد لمنع الفراغ لأكثر من سنتين يرتدي طابع عدم التناسب الساطع (disproportion manifeste).
· ثانيا: بما أن المجلس الدستوري في معرض رقابته لا يتأكد فقط من الغاية التي من أجلها أقر القانون بل أيضاً من الوسيلة التي جرى تبنيها من أجل تحقيق هذه الغاية، وذلك عبر دراسة ملاءمتها، فإنه كان حرياً بالمجلس ملاحظة كون المشترع أخطأ خطاً ساطعاً بتقدير خطورة الظرف الاستثنائي الذي لا يبرر له تمديد ولايته لأربع سنوات كاملة إذا ما أخذنا التمديد الأول بالحسبان.
· ثالثاً: إبطال قانون التمديد والقبول بفراغ بسيط لن يتعدّى في مطلق الأحوال ثلاثة أشهر كون السلطة التنفيذية مرغمة على دعوة الهيئات الانتخابية قبل تسعين يوماً على الأقل من تاريخ الانتخاب عملاً بأحكام المادة 44 من القانون الرقم 25 تاريخ 8/10/2008 (قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب).
إن قاعدة التناسب تحتم القبول بفراغ بسيط بدل حرمان الشعب الذي يعتبر مصدر السيادة والشرعية في لبنان من حقه بممارسة الوسيلة الوحيدة المتاحة له من أجل اختيار السلطة السياسية التي ستتولى الحكم.
هذا علماً أن ملاحظة تفرض نفسها أيضاً وتتعلق بمبدأ الفراغ ذاته الذي يتخوف منه المجلس الدستوري. فعندما يعمد رئيس الجمهورية إلى إصدار مرسوم بحل مجلس النواب “وجب أن يشتمل قرار الحل على دعوة لإجراء انتخابات جديدة(…)تنتهي في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر” (المادة 25 من الدستور). أي أن الدستور يقبل بحصول فراغ في السلطة التشريعية لا يزيد عن ثلاثة أشهر، فالفراغ الذي يقصده المجلس الدستوري هو حقيقة ذلك الذي لا نهاية معلومة له وليس ذلك الذي يتوقعه الدستور عند صدور مرسوم الحل. ولما كان إبطال قانون التمديد يوازي من حيث نتائجه حل مجلس النواب فإن ذلك يستتبع حكماً دعوة الهيئات الناخبة ضمن المهل الدستورية، ما يؤدي إلى تهافت حجة الفراغ تهافتاً لا يقبل الجدال.
علاوة على ذلك، يجب ألا ننسى أن هذا الفراغ البسيط هو نتيجة مباشرة لاستنفاد مجلس النواب المهل كافة عبر إقراره القانون قبل خمسة عشر يوماً فقط من انتهاء ولايته، ما وضع المجلس الدستوري أمام هذا الموقف الحرج: إما القبول بالتمديد أو الدخول بالفراغ. لقد مارس مجلس النواب بتصرفه هذا ابتزازاً موصوفاً لكل من المجلس الدستوري والشعب اللبناني، لذلك كان من المفترض تطبيق قاعدة التناسب تطبيقاً أشد كون الفراغ هنا مفتعلاً ولا يمكن التضحية بمبدأ دورية الانتخاب الأصيل بذريعة فراغ بسيط ومفتعل.
كما لا بد من التذكير بأن مجلس الوزراء أصدر في 19 آب 2014 المرسوم رقم 312 الذي دعا بموجبه الهيئات الناخبة في 16 تشرين الثاني 2014. فلو صدر قانون التمديد قبل نهاية ولاية المجلس بفترة معقولة لكان إبطاله يسمح بإجراء الانتخابات دون الوقوع في الفراغ، ما يؤكد أن غاية مجلس النواب لم تكن درء الظرف الاستثنائي المزعوم بل التمديد لتحقيق مصالح الأحزاب السياسية التي وجدت نفسها غير قادرة على خوض الانتحابات. وهكذا نكون أمام تحوير للسلطة (détournementde pouvoir) لجأ اليه المجلس النيابي متعمداً من خلال استخدام سلطته لتحقيق غاية غير مشروعة.
ولكي نبلغ بالمنطق مداه النهائي ونفكك كل الذرائع، فلنفترض حصول الفراغ فعلياً، هل نكون حينها أمام وضع عصي على الحل؟ وحقيقة الأمر أن للسلطة الإدارية في الظروف الاستثنائية أن تتخذ التدابير المناسبة حتى لو كانت تدخل في اختصاص سلطة أخرى كالسلطة التشريعية مثلاً. وقد أقر مجلس شورى الدولة الفرنسي هذا الأمر منذ قراره الشهير سنة 1918 (CE 28 juin 1918, Heryiès)، وقد لاقى تطبيقات متعددة مذاك في كل من لبنان وفرنسا. فإذا كان الظرف الاستثنائي يسمح للإدارة باتخاذ تدابير تدخل في نطاق صلاحيات مجلس النواب التشريعية عند وجود هذا الأخير، فمن الأولى تطبيق هذا المبدأ عندما يكون مجلس النواب منحلاً على أن تكون هذه التدابير ضرورية وتنتهي بانتهاء الظرف الاستثنائي. فلا فراغ واقع بالمطلق.
وهكذا يكون المجلس الدستوري برفضه إبطال القانون قد شارك بالتهويل على اللبنانيين وتخويفهم من الفراغ وهو أيضاً سمح لمجلس النواب مستقبلاً بممارسة عملية الابتزاز ذاتها عبر إرغام الجميع على الاختيار بين التمديد والفراغ. فما الذي يمنع أن يعمد المجلس الحالي إلى التمديد لنفسه مرة ثالثة ورابعة؟ وكيف سمح المجلس الدستوري لنفسه بأن يضيّع هذه الفرصة التاريخية كي يرسخ شرعيته (المتهالكة أصلاً) وينتصر للحق بوجه سلطة باتت من الوقاحة بمكان عدم حاجتها إلى تبرير أفعالها التي تخالف الدستور جهراً.
لقد أنشئ المجلس الدستوري لغاية نبيلة ألا وهي الدفاع عن مبادئ دولة القانون والقيم الديمقراطية. وكم نأسف عندما نلاحظ كيف فشل هذا المجلس، لا سيما هيئته الحالية، في تحقيق الغاية التي تبرر وجوده، وكم هو شاسع الفرق بين أهدافه المعلنة وحقيقة تصرفاته حتى صح فيه قول الشاعر:
ومما يزهدني في أرض أندلـسٍ أسمـاءُ معتمـدٍ فيها ومعتضـد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
*مؤلف وكاتب. باحث في الفلسفة السياسية والقانون الدستوري.
نشر هذا المقال في العدد | 24 |كانون الثاني /يناير/ 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
حق المعرفة لألشخاص المٌتبنّين