“
تشهد الجامعة اللبنانية بكافة فروعها تحركات بدأت بإعلان رابطة الأساتذة المتفرغين الإضراب، ففتحت الباب أمام حراك طلابي مستقل تحت عنوان “الطلاب إلى الشارع”، وهو تحرك داعم لمطالب الأساتذة، ويسعى إلى تحقيق مطالب عدة على رأسها استقلالية الجامعة اللبنانية.
منذ أكثر من عشرين يوماً بدأ الأساتذة بالاعتكاف عن حضور الصفوف، “احتجاجا على عدم تحقيق الوعود بشقيها الإداري والاجتماعي ولعدم إدراج مشروع القانون المحال إلى مجلس النواب المتعلق بـ “إضافة خمس سنوات على سنوات خدمة الأستاذ الذي لا تصل خدمته إلى 40 عاما”، واقتراح قانون معجل مكرر يقضي بإعطاء الأساتذة 3 درجات، بالإضافة إلى مطالب أخرى. مطالب الأساتذة هذه ارتفع سقفها على إثر تناقل معلومات بأن مشروع الموازنة، يسعى إلى توحيد صناديق التعاضد وتقليص المنح المدرسية ووضع ضريبة على الراتب التقاعدي وغيرها من الأمور التي تمس بالحقوق الاقتصادية والأمن الاجتماعي لأساتذة التعليم العالي. بالإضافة إلى الاقتطاع من ميزانية الجامعة 40 مليار ليرة، ما يعني اقتطاع 80 مليار ليرة على مدى عامين.
الأساتذة نظموا اعتصاما في ساحة رياض الصلح نهار الجمعة 24 أيار 2019، وشاركهم حشد من الطلاب الذين وجدوا أن الانتقاص من حقوق الأساتذة له تأثيره عليهم، فاندفعوا معهم في الاحتجاج ورفضوا أي قطع من ميزانية الجامعة أو من حقوق الأساتذة. واستكمل احتجاج الطلاب باعتصام بدعوة منهم نُفذ نهار الاثنين 27 أيار أمام مبنى وزارة التربية في اليونيسكو.
الطلاب الغاضبون يقفون اليوم استغراباً أمام مساعي الحكومة لتقليص ميزانية جامعتهم (80 مليار ليرة خلال عامين). ففي الوقت الذي زادت فيه حاجات الجامعة بسبب ارتفاع عدد الطلاب فيها إلى 80 ألف طالب، يتم تخفيض هذه الميزانية على نحو يؤثر على الإنتاج الأكاديمي. الجامعة بحسب الطلاب، ينقصها معدات للمختبرات، ومكتبات مكننة، ومطاعم ذات جودة وأسعار معقولة، كما خدمة إنترنت لائقة باتت من أمس الحاجات التعليمية، ومواقع إلكترونية حديثة، والمسبحة تكر. وما نتكلم عنه هنا، هي حاجات لكافة الفروع على نطاق الأراضي اللبنانية، وتطال هذه الحاجات أكبر مجمع جامعي في البلاد وأحدثها، وهو الفرع الأول -مجمع رفيق الحريري في الحدث.
معاً في رياض الصلح
في ساحة رياض الصلح، الجمعة الفائت، هتف الطلاب والأساتذة معاً ضد أي مس بحقوقهم بأعلى حناجرهم “دكاترة طلاب رح نكمل بالإضراب”. الطلاب عرفوا عن أنفسهم بالـ “طلاب مستقلون”، ورفضوا أي صبغة سياسية على حراكهم. رفعوا مع أساتذتهم شعارات تندد بالسياسات الاقتصادية الفاشلة التي تعتمدها الدولة والتي ترمي بثقلها على أكتاف المواطنين، وعلى العمال والطلاب، كتبوا يافطات تقول “لا لخصخصة الجامعة اللبنانية” و “الجامعة خط أحمر”.
تكاتفوا في ساحة رياض الصلح، وهتفوا لأجل تحرير الجامعة اللبنانية من التدخلات السياسية. في بياناتهم وصفوا حراكهم بالتاريخي. فقد مرت سنوات طويلة من الإهمال للجامعة اللبنانية وأمامها تحركات قليلة. خاصة وأن آخر انتخابات لمجالس الفروع الطلابية كانت في العام 2008، فتلبدت بعض الشيء الأصوات الطلابية، وباتت أشبه بالمعدومة إلا بتحركات لنوادٍ مستقلة أنشئت كطاقة رديفة لإعادة إحياء الحركات الطلابية.
ثم، توجهوا بعفوية تامة إلى مبنى جمعية المصارف في الصيفي وصرخوا “يسقط حكم المصرف”. فالمصرف بالنسبة لهم هو “شريك في السلطة وشريك بالسياسة الضريبية غير العادلة”.
الشهيد فرج الله حنين رمزاً للحراك
صورة الشهيد الشاب فرج الله حنين، مسؤول قطاع الشباب في الحزب الشيوعي، كانت الرمزية لتفعيل التحركات. فحنين استشهد في العام 1951 متأثراً بجراحه، بعدما تعرض للضرب من القوى الأمنية خلال إحدى التظاهرات التي تحركت لأجل عدة مطالب، كان أبرزها إنشاء جامعة وطنية، وهي الحراكات التي أدت إلى إقرار الحكومة إنشاء الجامعة اللبنانية1.
أراد طلاب اللبنانية استعادة ما بدأه الشهيد حنين، واستكمال مسيرة “الحراكات الطلابية”. ونهار الإثنين بتاريخ 27 أيار، كانوا هم المبادرين. وقفوا أمام وزارة التربية وهناك انضم عدد من الأساتذة من رابطة المتفرغين والأساتذة المتقاعدين، وعدد من الداعمين من الأهالي، والخريجين القدامى، كما انضم ممثلون عن اللجنة الطلابية في لبنان التي تمثل طلاب المدارس والمعاهد.
ساروا في الشارع، وهتفوا ضد تقليص ميزانية الدولة، صرخوا بأعلى حناجرهم “عجز الدولة ما بينسد من الجامعة اللبنانية، روحوا جيبوا المصاري من جيوب الحرامية”. توجهوا إلى مبنى كلية الإعلام المحاذي لوزارة التربية، ومن على أعلى المبنى أسدلوا يافطة كبيرة دونت عليها عبارة “الطلاب إلى الشارع، جامعة الوطن خط أحمر”. ثم أعربوا عن دعمهم لإضراب الأساتذة، هاتفين “دكاترة طلاب رح نكمل بالإضراب”. وتنوعت شعاراتهم، سياسية واقتصادية واجتماعية، إذ هتفوا قائلين: “وحدتنا طلابية لنحمي اللبنانية”، و”يا شعبي قوم وطالب مع العامل والطالب”، و”علم حرية عدالة اجتماعية”، و”علّي فوق الريح يا رايتنا العالية، نصب وتشبيح الدولة اللبنانية”، “ثورة ثورة طلابية ضد الهيئة الاقتصادية”، و”جامعة لبنان فرج الله حنين”.
نريد استقلالية الجامعة
اعتبر خيار الشارع خياراً جريئاً “لمواجهة قرارات السلطة السياسية المستمرة بضرب جامعتنا الوطنية بعد غيابنا الطويل عن ساحاته” بحسب البيان الذي قرأه الطالب ربيع شمص باسم الطلاب أمام وزارة التربية. يُضيف البيان، “قد يبدو هذا الأمر جريئاً! أليس كذلك؟ ولكن ألم يكن “جرأةً” ما أقدمت عليه هذه السلطة السياسية مجتمعة بحق جامعتنا؟! أو ليس المساس بميزانية الجامعة اللبنانية بذريعة التقشف والإصلاح الاقتصادي والإداري باستراتيجيّاته الملتوية، تطاولاً على هذا الصرح بما يعكسه من قيم وطنية وأكاديمية؟! أم أنّه لم يخلُ من الحياء تعنت أهل السلطة وإصرارهم على معالجة أزمتهم الاقتصادية على حساب أساتذتنا واستقرارهم الوظيفي والمعيشي؟
البيان رفض “التقشف من ميزانية الجامعة واستثناء أجور السياسيين، وجيوبهم ومزاريب هدرهم، وتخطيطهم المالي الذي لم يجنِ علينا سوى المديونية وفقدان السيطرة على المقدرات”. وألقى اللوم على السلطة السياسية “بتعطيل الروابط بين الطلاب والأساتذة وجعلها مشرذمة “على صورتهم”، … أيضاً رأوا أن السلطة السياسية تستكثر على “الجامعة تطوير مناهجها التعلمية وتأهيل بنيانها التحتي، وجاؤونا اليوم يريدون تحصيل خوتهم منا؟”.
لذا، رفع الطلاب المطالب التي تمثلت بـ “ضرورة إيجاد حل يراعي مصلحة الجامعة من أجل العودة إلى الدراسة في أقرب وقت، بعيداً عن المساومة على حق الأساتذة في الحفاظ على المخصصات والتقديمات الاجتماعية المكتسبة”. و”التأكيد على ضرورة تكريس استقلالية الجامعة الإدارية والأكاديمية والمالية من أجل تحسين المستوى الأكاديمي وانتقاء الدكاترة (الأساتذة) ذوي الكفاءة”. ثم، “رفع ميزانية الجامعة لا تقليصها، دعماً للمنح التعليمية ولإنشاء مراكز الأبحاث والمختبرات وتأهيل الموجود منها، وتطوير المكتبات ومكننتها”. كما، “إنجاز مجمّعات جامعية لائقة تضم السكن الطلابي والمطعم الجامعي والنوادي الرياضية، واعتماد صيغة المجمعات الجامعية في المناطق، ووقف التفريع”. بالإضافة إلى “التأكيد على حق الطلاب بممارسة الحياة الديموقراطية المتوقفة منذ سنوات، ابتداء من إجراء الانتخابات الطلابية ووضع قانون يكفل حرية العمل الطلابي الديمقراطي في الجامعة”. وأخيراً، “وضع موازنة علمية استراتيجية تؤسس لاقتصاد وطني منتج شانه انتشال البلد من حلقات العجز المفرغة”.
كما أثنى الطلاب على الوحدة والتضامن بينهم وبين أساتذتهم، ودعوهم “لتشكيل روابط عمل مشتركة مع الطلاب بهدف تنسيق التحركات والتباحث بشأن الخطوات المقبلة”.
توجه الطلاب إلى قاعة في مبنى كلية التربية لعقد جمعية عمومية، وانتظروا قرار الحكومة بشأن مشروع الموازنة قبل إصدار أي بيان. ليلاً، وعلى إثر إقرار مجلس الوزراء لمشروع الموازنة من القصر الجمهوري في بعبدا، وتوقيعه من رئيس الجمهورية، أعلن “تكتل الجامعة اللبنانية” في بيان أن مشروع الموازنة المتوجه إلى المجلس النيابي فيه “قرارات ظالمة بحق الجامعة الوطنية وأساتذتها وطلابها”. لذا، أكد البيان أن الطلاب لن يتراجعوا عن مطالبهم، مؤكدين “سنقف مرة أخرى بوجه هذا المخطط الهادف إلى الهدم لا البناء، وستكون الخطوات القادمة تصعيدية أمام المجلس النيابي …وهذه الخطوة ستكون في زمانٍ ومكانٍ يحدّدان لاحقاً “. وفي عدة مناشير تداولوها على مواقع التواصل الاجتماعي أكدت على أن الطلاب عائدون إلى الجامعة لكن بشروطهم. وشددوا على المطالب نفسها المتصلة بـ “استقلالية الجامعة الإدارية والأكاديمية والمالية، رفع ميزانية الجامعة وإجراء الانتخابات الطلابية، وتطوير المناهج، وتأسيس مطعم جامعي بأسعار مخفضة، وإعطاء الأساتذة حقوقهم المادية كاملة، وأضيف إليها: “توسيع السكن الجامعي في مجمع الحدث، وتأسيس سكن جامعي في صيدا وطرابلس وزحلة، وفتح معاهد الدكتوراه في كافة الاختصاصات، واعتماد صيغة المجمعات الجامعية المركزية في المناطق ووقف التفريغ”.
تحركات “حزبية“: مع حقوق الأساتذة لكن ضد الإضراب
وفي مقابل هذه الحراكات، شهدت بعض فروع الجامعة اللبنانية تحركات تناهض إضراب الأساتذة، دفعتها قوى طلابية حزبية. في مجمع الحدث الجامعي تداول طلاب عبر الواتساب وفايسبوك دعوة للتجمع نهار الأربعاء 29 أيار 2019، نُسبت إلى “الهيئات والمجالس الطلابية” وحملت عناوين مختلفة منها “لإنقاذ مستقبل جامعتنا الوطنية” و “حقي اتعلم وحقك مش رح إنساه”. وسعى هذا التحرك إلى مطالبة الأساتذة في الجامعة اللبنانية بـ “تعليق الإضراب فورا والعمل على تكثيف الدروس من أجل إنقاذ العام الدراسي”. وقد روجت الدعوة إلى أنه “تم رفع الموازنة دون المس برواتب الأساتذة وميزانية الجامعة اللبنانية”، مع الإشارة إلى بيان أصدرته رابطة الأساتذة المتفرغين الأربعاء تفند فيه تفصيلياً كيف يخفض مشروع الموازنة من موازنة الجامعة2. وأكد البيان على خفض موازنة الجامعة، وعدم لحظ أي من مطالب الأساتذة، بالإضافة إلى اقتطاع ضريبة على المعاش التقاعدي. الوقفة الاحتجاجية في الفرع الأول حضره رئيس الجامعة اللبنانية فؤاد أيوب الذي أيضاً حرص على حصر إضراب الأساتذة بمسألة الرواتب وميزانية الجامعة، إذ قال إنه تلقى وعوداً من وزير التربية “بعدم المساس بموازنة الجامعة أو برواتب أساتذتها”. هذا دون الوقوف عند مسألة “الدرجات الثلاث التي يُطالب بها الأساتذة”، وعاد وكرر الدعوة إلى إيقاف الإضراب. وأكد أيوب على “إننا وإياكم كنا وما زلنا مع التحرك الذي قام به أساتذة الجامعة، ومنذ اليوم الأول لهذا الحراك، برهنتم كما برهنا وفي أكثر من موقف عن الدعم المطلق للأساتذة، إن من خلال التصريح أو من خلال المشاركة في الحراك”. بالتالي، فإن أيوب يعتبر أن “صوت الجامعة وأهلها وصل إلى حيث يجب أن يصل”. لذا، يؤكد على ضرورة “أن نعي المسؤولية، المرتبطة بمصير 90 ألفاً من طلابنا وأساتذتنا وموظفينا، والتي تتطلب منا رؤية واضحة فيما خص العام الدراسي، الذي بات على باب قوسين من انتهائه”.
من ناحيته، أكد مسؤول دائرة الطلاب في حركة “أمل” رشيد أبو حمدان أن التجمع هو “لننقذ ما تبقى من العام الدراسي”. وأكد أبو حمدان أنهم ليسوا ضد الأساتذة، مضيفاً “أننا في مكتب الشباب والرياضة في حركة أمل نتابع قضاياهم المحقة، بالتنسيق مع المكتب التربوي المركزي في الحركة، الذي بدوره ينسق كل تحركاتهم” وشرح بأنهم قلقون على العام الدراسي الذي شارف على الانتهاء.
ودعا أبو حمدان الأساتذة، إلى “تعليق الإضراب فورا والعمل على تكثيف الدروس من أجل إنقاذ العام الدراسي، ولن يكون كلامنا وعدا فقط، بل الوقوف إلى جانبكم سيكون عهدا علينا وسننتصر للجامعة اللبنانية وهيئاتها الطلابية والتعليمية والإدارية”.
والجدير ذكره أن هذا التحرك، دعمته تحركات أخرى لطلاب من حزب الله في الحدث، وفي الدكوانة والفنار لحزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، وتيار المستقبل في طرابلس. وهذه التحركات المناهضة للإضراب، أجمعت جميعها على ضرورة البحث عن حلول بديلة للمطالبة بالحقوق وقف الإضراب. وقد بدا كأنما ثمة تنسيقا ضمنيا بين الطلاب المنتمين للأحزاب لإبطال مفاعيل حراك الطلاب المستقلين. وتبقى الأمور قابلة للتطور…
1 حنين طالب اليسوعية أول شهيد يسقط لقيام “اللبنانية”، جريدة السفير، الجمعة 27 حزيران 2008.
2 رابطة الأساتذة المتفرغين في اللبنانية تؤكد الاستمرار في الإضراب الشامل بكافة الكليات والفروع، الأربعاء 29 أيار 2019، الوكالة الوطنية للإعلام.
“